مع أنه ولد في بداية صيف (5 يونيو 1898) وقتل في نهاية صيف (19 أغسطس 1936) إلاّ أنني دائماً ما أتذكّره في عزّ الشتاء..
في قصائد الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا دفءٌ حميمٌ نحتاجه كل شتاء، فهو يذكّرنا بما علينا فعله – أو الشعور به – كشعراء:
(أكثر الأفراح حزناً
أن تكون شاعراً..
فكلّ الأحزان الأخرى،
لا قيمة لها،
حتى الموت..)
أذكر، في مطلع العام 2000 حين استقرّت الأمور على بقاء التكنولوجيا الرقمية كما هي، دون كارثة أخافونا بوقوعها، وكانت حينذاك المواقع الإلكترونية الثقافية باللغة العربية تعدّ على الأصابع.. أنشأتُ موقعاً ثقافياً إلكترونياً أسميته (نصف الكتابة) وجمعتُ أول ما جمعتُ، بعد أرشيف أعمالي، ملفات لشعراء ومبدعين من العالم، وكانت أول ملفين جمعتهما هما للوركا وللقاص المبدع الألماني فرانز كافكا (3 يوليو 1883 – 3 يونيو 1924) والغريب أن كافكا مثل لوركا ولد ومات في فصل الصيف، غير أن كتاباته أيضاً تستهويني فقط عندما يشتدّ الشتاء، فحتى وقت جمعي للملفين كان في شتاء العام 2000 (!)
أعود للحديث عن لوركا، وإن كان لا يختلف كثيراً عن كافكا في تعب الطفولة والنشأة، والتعرض للاضطهاد والمطاردة والنهاية المأساوية التي تركت خلفها تراثاً من الإبداع الخارق الذي لا يمكن نسيانه أبداً، ولا يفقد روحه باختلاف اللغات التي يترجم إليها أدب هذين المبدعين اللذين عاشا في زمن متقارب ولكن لم تذكر المصادر عن أيّ لقاء تم بينهما وهما على قيد الحياة، غير أن ذكر أحدهما كشاعر لا بد أن يأتي على ذكر الآخر كقاص..!
لوركا الذي كان بالإضافة إلى شعره رساماً وعازفاً للبيانو، عاش وأبدع مغترباً – في الفترة الأخيرة من حياته – وقد أصدر ديوان (شاعر في نيويورك) حين عاد إلى وطنه (غرناطة).. ليتم إعدامه رمياً بالرصاص على أيدي ثوار مجهولين، في الأيام الأولى من الحرب الأهلية الإسبانية، غير أن أحداً لم يعثر على جثته بعد ذلك، فكأنما هي اختفت في جوف الرمال أو سافرت بها الريح إلى مواطن أخرى.. كما كان قد قال في إحدى قصائده الأخيرة:
(وعرفتُ أنني قُتلتُ
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثث
ونزعوا أسنانها الذهبية
هل وجدوني؟
إنهم لم ولن يجدوني قط)!
وفي ترجمة رائعة عن الإنجليزية، أنجزها الأديب السوداني الراحل علي محمد علي المك (1936 – 1992) قبيل وفاته بأيام؛ يقول لوركا:
(وكمثل الحب،
فالرماة عميان..!
في الليل الغائم
آثار السهام الدافئات زنابق
والقمر..
يحيل السحاب مزقاً
والكنانات ملؤها الندى
آهٍ، كمثل الحب:
الرماةُ عميان..).!
ffnff69@hotmail.com
- الرياض