في مرحلة متقدمة من ممارسة الحياة يحدث أن ندرك أن لها وجهين: وجه تم الاتفاق عليه علانيةً، وآخر لا يعرفه سوى صاحبه حين يخلو بنفسه وبأشيائه وأُناسه الذين لن يطلقوا عليه أحكاماً، الوجه الأول نعرفه جيدا، ندعو به وله، نحاكم الآخرين من خلاله، - وإن لم نتقنه- والآخر نجيده نحبه لكننا لا نظهره أمام الآخرين.
لذا فالحياة التي نعرف، قلما تشبه الحياة التي نحب، فهما كخطين قد يمتدان بمحاذاة بعضهما عمراً كاملاً دونما تقاطع، وذلك للجهد الذي تتطلبه الرغبة في أن تجعل روتينك الحياتي وفق المفروض لا المعتاد. وهنا يحدث التناقض العفوي بين تنظير اتجاهات التربية ومدارسها وبين تلك الدروس التي يتلقاها الفرد تطبيقياً خارج أسوار المدرسة، في الشارع أو بين أروقة المنزل، إذ يسهل علينا حينما نجد أنفسنا في مجال التعليم أو التربية أن نمرر ما نعرفه عن الحياة، لا ما نمارسه بالفعل، لأن ما نعرفه عن الحياة هو في رأينا مثالي بدرجةٍ كافية تليق بالتلقين، في حين أن ممارساتنا مليئة بارتجالاتنا البشرية، وغير الصالحة للنقل/ للتعليم - سواءٌ أعترفنا بذلك أم لم نعترف- لأن الأمور المفرطة في بشريتها غالباً ما تكون خارج منطقة الصح أو الخطأ، لا تقوّم بمعاييرهما، لذا يريحنا ألاّ تكون معلنة، ونحرص ألاّ نمررها لأحد لا على سبيل القَص ولا النكتة، فكيف إذاً بالتربية؟، وإن كان يدخل في ذلك نزعة الإنسان إلى الكمال إلا أنها بالمقابل آليةٌ تواترَ أنها الآلية الأمثل للتعليم، أن ننقل للمتلقي ما نراه «صحيحاً» حتى إن لم نمارسه على أرض الواقع ولم نقوى على اختباره قط، وإن قابل ذلك متلقٍ ذو درجة عالية من إتقان التعاليم ومحاكاتها، سيكون ذلك مدعاةَ إطراءٍ وامتداح، وكأننا بعبارة مباشرة نقول: كلما قل ارتجالك وأحسنت الاتّباع كنت أفضل!.
نحن بطريقتنا في التربية نسعى إلى تقليص الارتجال، زاعمين بأن تجربتنا الحياتية ثرية ومن مصلحة البشر الجدد/الأطفال تبنيها حتى لا يهدروا الوقت في تجارب مماثلة. متجاهلون بذلك قدرتهم العالية والمبكرة على الملاحظة؛ إنهم يرون بوضوح الفجوة التي خلقناها بتلقينهم مُثلاً لا نمارسها، ومطالبتهم بالإلتزام بما لم نستطع الإلتزام به، وهذا ينعكس على أدائهم الحياتي، على إيمانهم بأقوالنا وتعاليمنا وبالتالي سقوطها من اهتماماتهم، ما يخلف أفراداً متمردين معترضين، أو خائفين متشبثين يستمرون بتكرار الفعل ذاته، يلقنون أبنائهم بالطريقة التي خُذلوا بها، وهكذا تستمر دائرة «التربية» المزعومة...
إن كانت لفظة «تربية» اشتقاقٌ من الفعل رَبَا بمعنى زاد ونمى، وفي القاموس المحيط تجيئُ كلمة ربيته تربيةً بمعنى غذوته، إذاً ففعل التربية قد لا يتضمن فعل التعليم - نقل معرفة جديدة للمتلقي- بل قد تكون هذه الكلمة عرضة لأن يُسْـقط عليها حالات التلقين والادعاء لا غير، وتبقى المدارس التربوية بين مغلقة لا تقبل الأخذ والرد، وأخرى أقل صرامة، تتيح للمتلقي مساحةً تدعوها بحرية الاختيار لكنها تتدخل أخيراً كي «تقوّم» خياره في حال لم ينسجم وفكرها، إذاً فالحرية المتاحة هي حريةٌ مراقبة، لدرجة يغدو فيها الارتجال فعلٌ يشبه العبث، يشبه الانشقاق، يشبه «قلة التربية»، يسعى هذا النوع من التربية إلى الحصر، لا إلى التقنين، يسعى إلى تقليص الاحتمالات، لأن ثمة احتمال واحد في ذهن المربي يريد لمتلقيه أن يتبناه.
كلما ازداد التباهي بلفظة «تربية» و الزهو بها تجد معناها ينحسر في تهذيب الارتجال وفي حصر الاحتمالات؛ ولن تثمر بنقل معرفةٍ على الإطلاق إذ إن معظم الدروس التي ترسخ في الذهن هي تلك التي تجرد فيها المربي من مثاليته متجلياً ببشرية وبعفوية، وفي المربي ذاته يكمن المخرج من كل ذلك؛ إن كان تركيزه ليس في نقل المسلمات إنما في اختبارها من خلال نقلها، ثم انفتاحه على الاحتمالات التي سيتعرف عليها من خلال استجابة المتلقي أو عدمها، إذ إن المتلقي/الطفل ليس صفحةً بيضاء كما نزعم إنما جاء بخياراتٍ تتجاوز تلك التي نحاول حصره فيها، وليس من مهمات المربي تعليمه الصح والخطأ، إنما الآليات، ومهمته الأولى هي اكتشاف الكيفية التي ستنبع من الطفل نفسه - إن وافاه الحظ بمربٍ متجرد-... عملية التربية هي المعادلةً الرياضية الوحيدة التي ينبغي أن تقود إلى نتيجة جديدة في كل مرة.
sanaanaser@gmail.com