Culture Magazine Thursday  03/01/2013 G Issue 392
فضاءات
الخميس 21 ,صفر 1434   العدد  392
 
حوار في مأزق
بثينة الإبراهيم

 

«منذ أن كنا حواراً،

وكان باستطاعتنا أن يسمع بعضنا البعض الآخر»

هولدرلن

من أوائل الأمور التي يتعلمها المرء في الكشافة، أنه يمكنك أن تشعل ناراَ من حجرين يحتكان بعضهما ببعض لتولّد شرارة إن ألقمتها حطباً اشتعلت وصارت ذات لهب، وسواء أكانت تلك النار هرمية أم نجمية فأنت المخوّل بتحديد الانتفاع بها تدفئة وإضاءة، أو تشعل بها حريقاً يأتي على الأخضر واليابس !

والاحتكاك الذي يولّد الشرارة هو نوعٌ من الحوار بين حجرين، ما دام الحوار بدوره نوعاً من المواجهة، لكنه في الساحة يبدو كما لو كان «حوار الطرشان»، و صار «الاتجاه المعاكس» نموذجه الأمثل في الفترة الأخيرة بكل ما فيه من صراخ وسباب وارتفاع ضغط ! دون أن ننجح في النهاية بالوصول إلى نقطة وسطى «ما بين الجنة والنار» بتعبير نزار، وبخاصة حين يأتي أحدهم إلى الحوار وهو يضمر إلغاء الآخر وفرض رأيه بالقوة، وإن ادّعى أنه يتقبل الاختلاف، لكنه حقيقة يموّه لاستنساخ ممجوج !

يشير مارتن بوبر إلى أن الثنائية الأنا- الأنت تتميز بالتبادلية الحوارية، لكن ثنائية الأنا- الهو لا تعدو كونها نوعاً من الحوار الداخلي مع الذات «المونولوج»، بمعنى آخر حين نؤمن بوجود الآخر المختلف تصير العلاقة ندية ويتحول الحوار إلى وسيلة للالتقاء، لكن ما دمنا نغيّب الآخر ونلغي اختلافه «أو هذا ما نسعى إليه»، فإن العلاقة تصير إقصائية ويغدو الحوار صدى «كأنه النشيج» يردد صوتاً واحداً فحسب !

وإن كان الله عز وجل قال في كتابه الحكيم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (64) سورة آل عمران، لتكون قاعدةً في الحوار بيننا وبين المختلفين عنا ديناً وعقيدة، فالأولى أن تكون قاعدتنا في التعاطي مع من يشبهنا في هاتين وغيرهما، فطرفا الحوار هنا نحن وأنتم «أنا - أنت»، ووصفها تعالى بالسواء لتكون دالة على العدل والإنصاف أو بتوصيف آخر لتكون دالة على الموضوعية بعيداً عن التحيز والهوى.

يقف الانغلاق الفكري والاجتماعي والسياسي عقبةً أمام الحوار، فهو في حد ذاته انتفاءٌ للموضوعية إذا كان المقصد تلوين العالم بلون واحد بغض النظر عن مدى ملاءمة هذا اللون للجميع، وبخاصة حين تكون الأحكام أو النتائج التي سيسفر عنها معدّة مسبقاً، فيتحول بعدها إلى مجرد «حكايا» غثة لا تسمن ولا تغني من جوع، ونكاد نسمع « فطريقك مسدودٌ مسدودٌ» حين يفضي بنا إلى جدارٍ عازل للصوت الآخر !

ليس كل حوار سفسطة، وليس كل جدل عقيماً، فلا بد أن نخرج من قوقعة التعصب والتزمت في الرأي إلى فضاءٍ أكثر سماحةً يسمح لنا بتبادل الرأي دون الخوف من وصمنا بتهمة أو بأخرى، «فتأتي الحاجة ملحةً إلى تجذير الفكر النقدي بشكلٍ علني وبلغةٍ حواريةٍ تجعل المناطق الثقافية متاحة لدخول من يشاء دون حاجب أو مراقب، فلا يبقى قضايا معلّقة وقضايا مغلقة، ويترك الأوصياء مقاعدهم لتضيء من خلف سدودهم أضواء الشمس، ويحل الجهر محل الهمس والمكاشفة مكان المناورة والمداورة.»* د.إبراهيم التركي، فواصل

وقد شهدت الساحة في الآونة الأخيرة صراعاتٍ قاتلة حتى لكأنها تحولت إلى حلبات مصارعة أو ملاكمة، لرفض الأطراف المتنازعة، إن صح التعبير، الجلوس إلى طاولة الحوار، كما يحدث في الأزمة المصرية الحالية، والسبب وهو تعنت أحد الطرفين والتمسك بموقفه حتى لو كان في ذلك انحدار نحو الهاوية، ولا يعدو ذلك كونه ضربا من الاستخفاف وعدم المبالاة على حد وصف زكريا إبراهيم لرفض الحوار، لأنه يحمل في طياته شيئاً من التنازل لكن ما غاب عن هذه الأطراف أن التنازل هنا لا يعني خسارة، وبخاصة إن كان أمراً يقبل الجدل حوله ونعود مرة أخرى إلى الثوابت والمتحولات، ويشير د. عبد الكريم بكار إلى ذلك بقوله: «لقد علّمنا القرآن الكريم أن هذا التنازل قد يكون في أكبر اليقينيات عند الفرد وذلك في سبيل عدم قطع خيوط التواصل مع الآخرين كما في قوله سبحانه: قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنّا وإياكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبين.» *د.عبد الكريم بكار،التفكير الموضوعي

كثيراً ما يتردد القول المأثور بأن الله خلق لنا لساناً واحداً وزوجاً من الآذان لنستمع أكثر مما نتحدث، غير أننا في حواراتنا «في مختلف مجالاتها» نتحدث أكثر مما نستمع، ليصير لنا لسانان ينطقان و أذنٌ واحدة تسمع أو حتى نصبح بلا آذان، ليغلق «حوارنا الأصم نوافذه على تشكيك في النيات ونعي على الممارسات، وفي داخله لافتات تؤكد بقاء الحال على ما هي عليه والأكيد أننا لن نتغير بهؤلاء ولا بأولئك.»

*د.إبراهيم التركي، فواصل

الحوار الهادئ الموضوعي الواعي والمنفتح هو فقط ما سيمنحنا فضاءاتٍ حرة نسمع فيها كل الأصوات دون إلغاء أو تكميم أو قمع، وهو الحل لأزماتنا السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى النفسية!

- القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة