Culture Magazine Thursday  03/01/2013 G Issue 392
فضاءات
الخميس 21 ,صفر 1434   العدد  392
 
عينٌ على نجاحِ الوشميّ في أدبي الرياض
خالد بن أحمد الرفاعي

 

ترك الدكتور عبدالله بن صالح الوشمي مكانه في النادي الأدبي بالرياض، بعد سبع سنوات سِمان، عمل فيها عضواً في مجلس الإدارة بالتعيين، ونائباً لمجلس الإدارة بالاختيار، ثم عضواً منتخباً في مجلس الإدارة، ورئيساً بإجماع أعضائه..، وحقق في هذه السنوات السبع ما لم تستطع تحقيقه مجالس متكاملة، رغم عمله الجامعي، وارتباطاته الاستشارية بمراكز وأنشطة ثقافية عديدة ومهمة، تشبه في اتساعها اتساعَ هذا الوطن الجميل..

رحل فجأة، ولم يترك إلا رسالة لزملائه في المجلس، وخمساً وعشرين تغريدة لمتابعيه في تويتر، أوضح فيها كلَّ شيء إلا سبب الرحيل وغاياته، وسرّ تكتّمه عليه حتى ساعة المغادرة...

سأتجاوز هنا كلَّ ما يمكن أن يُقال عن اعتذاره إلى التساؤل عن سرِّ النجاحات الكبيرة التي حققها في النادي؛ لأنه السؤال الوحيد الذي يمكن أن نثري بالإجابة عنه تجربتنا في إدارة الأنشطة الثقافية، والسؤال الوحيد الذي سيقودنا ضمناً إلى سبب إخفاق آخرين..

هو – ولا شك - سؤال مفتوح، يحتاج إلى أكثر من راصد للإجابة عنه، وإلى أكثر من عين وعدسة وزاوية..، لكنني سأحاول - في هذه الأسطر المعدودة - الإجابة عنه من واقع قربي منه ومن النادي، ومن متن وهوامش مشاركاتي المتعددة في البرامج والأنشطة...، وسأترك للآخرين مساحة واسعة ليضيفوا من خلالها إلى هذه الإجابة ما يوسِّعها، ويسدُّ ثغراتها، ويجعلها أكثر قدرة على توصيف النجاح الذي لا يوصف.

ثمة عوامل كثيرة تقف خلف النجاح التي حققه الوشمي في أدبي الرياض، أهمّها الآتي:

العامل الأول: صفاته الشخصية، التي جعلته أكثر قرباً من الناس على اختلاف ألوانهم، فهو – كما يرى كثيرون – رجلٌ أريحي، واسعُ الخلق، يمتلك نشاطاً كبيراً في هذا السياق، مكَّنه من التعاطي الإيجابي مع الآخرين، والتعمّق في كسب احترامهم وثقتهم، وفي استدراجهم أيضاً إلى التعاون مع النادي، وتوريطهم في إثراء أحد المسارات التي يتبناها...

ولو أردتُ استظهار هذه الصفات لأشرتُ إلى توازن شخصيته ووضوحها، وسلامتها من الازدواجية التي أضرّت بكثير من المثقفين، ولأشرتُ كذلك إلى طريقته في الإدارة التي تنزع إلى الإنجاز وفق الأوليات بدلاً من الفوضى، وإلى إقرار الكليات بدلاً من الجزئيات، وإلى العمل في أكثر من اتجاه بدلاً من التفرغ أو الانقطاع إلى اتجاه بعينه...

وما من شك في أنَّ هذه الصفات مهمّة فيمن يتولى إدارة النشاط الثقافي؛ لأنها تتأسس على فنِّ الإدارة وفنِّ التعامل مع الآخرين، وكلاهما مهم وضروري فيمن يريد نادياً مفتوحاً، ينشط في اتجاهات متعدِّدة، ويؤسس مسارات جديدة في العمل الثقافي، ويعيد الثقة للمثقفين في الأندية الأدبية بعد أن فقدوها في مرحلة أو مراحل مضت...

العامل الثاني: قدرته الفائقة على تنحية منطلقاته الفكرية التي تتحكم في اختياراته الثقافية والاجتماعية عن عمله في الوسط الثقافي؛ لذلك استطاع أن ينأى بنادي الرياض عن أيّ تصنيف إيديولجي يمكن أن يحدِّد مسار أنشطته، أو نوعية ضيوفه وجمهوره...

لقد تولى مسؤوليات النادي في زمن اشتعال الخصومة الفكرية بين الإسلاميين والليبراليين، لكنه استطاع – بموهبة واقتدار - أن ينجو به من تبعات هذا الصراع الذي تجاوز في بعض منعرجاته حدَّ المعقول...، ولم يقف الوشمي عند هذا الحدِّ وإنما تجاوزه إلى كسب الطرفين معاً، وتوظيف منجزاتهم الفكرية في لقاءات حوارية ناضجة...، ولقد تساءلتُ كثيراً عن المفارقة التي يمثّل طرفها الأول استقرار النشاط الثقافي في أدبي الرياض، ويمثل طرفها الآخر ارتباكه في معرض الرياض الدولي للكتاب، رغم تشابه النشاطين في العناوين الرئيسة، وفي نوعية الضيوف والفئة المستهدفة، ورغم تقلب الجهتين أيضاً في مناخ فكري واحد، هو مناخ العاصمة بما فيه من انقباض وانبساط، ومدٍّ وجزر...

العامل الثالث: تهيئته الأجواء في النادي للمثقفة؛ لتمارس عملها براحة تامة، ولتكون عضواً فاعلاً في اللجان المهمّة التي تباشر عمليات صناعة الأنشطة وتنفيذها، وأجزم أن المثقفة قد وجدت في شخصية الوشمي ما لم تجده في عدد من الشخصيات التي تدير النشاط الثقافي في بلادنا؛ ومن أهمِّ ما وجدته تلك المساواة الحقيقية مع المثقف، التي أزالت ما يعترض طريقها عادةً من حواجز أو حدود؛ لذلك شعرت بأهميتها الكاملة في الساحة الثقافية، وبالقيمة التي تمتلكها ويمكن أن تضيفها إلى النادي وإلى أي عطاء ثقافي آخر، وليس هذا فحسب بل إنه استطاع -وأحسبه الوحيد الذي نجح في ذلك- أن يغذي الساحة الثقافية بأسماء نسائية جديدة، كانت من قبل تتردد في الدخول لموقف نفسي صنعته مرحلة أو مراحل سابقة، بما لها من اعتبارات وعثرات.

إن تدبّرَ قوائم اللجان أو الهيئات العاملة في النادي (السرد، الشعر، المنبرية، لجنة الجائزة، الإصدارات، هيئات التحرير) يكفي لإقناع الراصد بحضور المرأة في الأعمدة الرئيسة التي ينهض عليها النادي، وكيف أنها في عملها تمتلك صلاحيات كاملة: تجيز بها، وتعترض، وتقبل نتائجَ التصويت التي تتفق معها وتختلف، دون أن تتحفَّز وتبحث عن تفسيرات لما يجري حولها، كما هو الحاصل في اللجان الثقافية التي تشعر المثقفة فيها بالغياب حتى مع الحضور!!

العامل الرابع: إيمانه بالعمل الجماعي، وقد انعكس هذا العامل بوضوح على احترامه الدائم لرأي أعضاء مجلس الإدارة حتى لو اختلف مع رأيه، ولاختيارات العاملين معه في اللجان المتعددة (حتى في مرحلة ما قبل الانتخابات)، ويتجلى هذا العامل أيضاً في تقسيمه مسؤوليات النادي على عدد من اللجان المتخصصة، ومنحه كلّ لجنة من الصلاحيات والتسهيلات ما يجعلها قادرة على تحقيق الأهداف المعقودة على قافيتها.

ويمكن أن أضيف إلى هذا العامل فكرة (شركاء النجاح) التي استطاع أن ينقل بها النادي من دائرته الضيقة إلى مستوى عالٍ من التمدّد والتألق، عبر شراكات فاعلة، بعضها مع الأقسام العلمية في الجامعات (قسم الأدب بجامعة الإمام، وقسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود) وبعضها الآخر مع جهات ثقافية متعدّدة، كما في شراكة النادي مع الجمعية العلمية السعودية للغة العربية، وشراكته مع كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها، وشراكته مع نادي فوتوغرافيي الشرق الأوسط، وشراكات أخرى..

ولقد آتت جميع هذه الشراكات ثمارها، وأفاد منها رواد النادي، ولم تكن حبراً على ورق (كغيرها من الشراكات التي عقدتها مؤسسات ثقافية مماثلة)، وقد صوّت أكثر من 73% من زوار موقع النادي لصالحها، ومنحوها أعلى درجة من التقويم..، ومن المهمّ أن أشير هنا إلى أنّ نجاح هذا الملف قد شجع بعض الجهات على امتلاك المبادرة، وطلب الشراكة مع النادي، وتقديم رؤية متكاملة في هذا السياق...، وهذا ما لم يكن موجوداً في الأندية الأدبية من قبل، ولم يكن – إلى وقتٍ قريب – من الأحلام المباحة!

العامل الخامس: سعيه إلى نقل النادي من سياقه الخاص/ التقليدي (النشاط الأدبي والنقدي) إلى سياقات أوسع يمكن أن نعبر عنها بـ (النشاط الثقافي)، فكانت أولاً فكرته (منبر الحوار)، التي أسندها إلى الصديق المتألق محمد الهويمل، ثم موافقته – من خلال مجلس الإدارة – على نقل هذا المنبر من المسار الذهني والفلسفي إلى مسار مؤسسات النفع العام؛ ليطلّ النادي من شرفاتها الواسعة على قضايا تمسّ كلَّ مواطن ومواطنة، من مثل: الثقافة الحقوقية، وبرامج الإسكان، ومشكلات الصحة، وأنماط الجريمة في المملكة...إلخ، ولقد أفضى بنا هذا النوع من التجديد إلى شريحة جديدة من الضيوف، يمتلكون خبرة واسعة في مجالات جديدة على منصة النادي، من مثل: المصرفية، والصحة، والأمن، والثقافة الحقوقية، كما أفضى بنا أيضاً إلى شريحة جديدة من الجمهور ليسوا من المبدعين ولا من النقاد...

وفي هذا السياق يمكن أن أشير أيضاً إلى المعارض التي احتضنها النادي، وعبّر بها عن هذه النقلة النوعية، من مثل معرض الكتاب الخيري، والمعارض التشكيلية، والمعارض الفوتوغرافية..، هذا بالإضافة إلى الدورات المهمّة التي نظمها النادي في مجالات الإبداع الأدبي (الشعر والسرد)، وفي مجالات أخرى كالتصوير، وكتابة السيناريو، والخط العربي... وجميع هذه الأنشطة أعطت المتلقي رسالة مهمة، هي أنّ النادي ملك للجميع وليس لفئة محدودة من الناس، وأنه للمبتدئين أيضاً وليس للمتخصصين!

العامل السادس: تنشيط إصدارات النادي من ناحيتي الكمّ والنوع، من خلال مسارات ثلاثة، هي: النشر العام (الذي كان سائداً في الأندية الأدبية منذ إنشائها)، والنشر المشترك (وأحسب أنه سياق نشري جديد يُحسب لأدبي الرياض)، وسلسلة الكتاب الأول، التي أسسها الوشمي وأشرف عليها، ولقد استطاع أدبي الرياض - بناء على رؤيته المنفتحة في هذا المجال - أن يحقق هدفين كبيرين، الأول: وضع عدد من الخيارات أمام المؤلّف، ليختار منها ما يناسبه، والآخر: توسيع قائمة إصدارات النادي من بعد عام 1426هـ، حتى أصبحت قادرة على منافسة قوائم الأندية الأدبية وبعض دور النشر المحلية من الزاويتين: الكمية والنوعية..، فأما الزاوية الكمية فيمكن رصدها من خلال أيقونة الإصدارات في موقع النادي، وأما الزاوية النوعية فيجليها لنا فوز بعض إصدارات النادي بجوائز ثقافية، وترشيح بعضها الآخر إلى جوائز داخلية أو خارجية، هذا بالإضافة إلى ترجمة بعضها من قبل جهات حكومية...

العامل السابع: سعيه إلى خلق فرص ثقافية للأجيال القادمة، ومن ذلك - على سبيل المثال - توجهه – بدعم من مجلس الإدارة - إلى إنشاء لجان ثقافية في المحافظات، تنوب عن النادي في إقامة وإدارة الأنشطة الثقافية، ولقد صرح الوشمي - على هامش الاحتفال بإنشاء اللجنة الثقافية في محافظة الخرج - بأن هذه اللجان تمهيد قوي لإنشاء تجمعات ثقافية كبرى، ولم يخفِ تطلعَه إلى أن تكون مدخلاً مناسباً لتأسيس أندية أو مراكز أدبية في جميع محافظات الرياض...

وما من شك في أن السعيَ إلى تنفيذ هذه الفكرة - من خلال الشراكات ودعم الوجهاء - يعبر عن إستراتيجية بعيدة المدى كان يحملها الوشمي بين جنبيه، يتجاوز بها ضيق الحاضر إلى ما يراهن عليه من فسحة المستقبل، كما أنه يعبر عن عقلية ناجحة تتجاوز حدود المتاح إلى ما وراءه، وتستغل ما يمكن استغلاله من دعم معنوي ومادي يمكن أن ينتهي بها إلى تحقيق ما تصبو إليه..

ولقد ذُهلتُ وأنا أرى الوشميَّ يردّ على تشكيك الإعلاميين في قدرة النادي على دعم اللجنة الثقافية في الخرج بتقديم وعدٍ صارمٍ بإنشاء لجان مماثلة في محافظات أخرى، كالزلفي وشقراء والمجمعة وثادق...

إنها روح حية بالفعل، تتجاوز العقبات، وتخلق الفرص، وتستمطر الدعم، وتظل تتحرك في الاتجاهات كلِّها، حتى مع ضيق المساحة وانعدام الوقود...

هذه سبعة عوامل، أعلم أن من ورائها سبعة أخرى، يمكن أن تفضي بنا إلى سبعة، لكنني التقطت الصورة من زاويتي، وثمة صور أخرى ستطلعنا عليها زوايا أكثر قرباً واتساعاً...

ولن أجد خاتمة تليق بمقالتي عن هذا المثقف الفاعل إلا ما افتتح به الدكتور إبراهيم التركي إضاءته عنه في الأسبوع قبل الماضي: «عبدالله الوشمي: لن تغادر، ولن نودّعك»!

@alrafai - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة