(أ)
البناءُ الإيمانيّ للشريعة المنزّلة على النبي العربي عليه السلام قائمٌ كلّه على: (معتقد شهادة التوحيد)، حيث قيمتا النفي والإثبات، نفي الألوهيّة عن أيّ أحد وإثباتها لله بلا شريك؛ والمقتضى أنّ الأحادية مقدّسة ومفردة لله، أمّا ما دون الله فقائمٌ على التعدّديّة. (التعدّدية لغير الله والأُحادية لله). لذلك لا يكتمل المعتقد أن تقول بالإثبات ولا تعمل بالنفي حيث يقع الإشراك، والنفيّ أحد دلالتي التوحيد: (شهادة النفي، وشهادة الإثبات).
هكذا يكون في نفي الأحاديّة عن الإنسان والكون- تحريراً للإنسان وإباحةً لقوّته في محاربة: “طغيان الاستبداد الكامل” والمُمثّل عنه في المتن القرآني بثالوث: (فرعون السياسة/هامان-الكهانة/قاروون-الاقتصاد)، أو في أيّ حقولٍ علميّة وعمليّة في حيوات الإنسان، كما يشمل النفيّ نفياً لعصمة الحقائق من الطعن، على اعتبار أنّ تثبيت الحقيقة هو انتقالها من نطاق التعدّديّات إلى الأحاديّة، وهو ما يُفضي إلى استبداد الحقيقة، فنفي الأحاديّة عن الإنسان والكون دلالة لخضوعهما إلى القوانين الماديّة التي قدّرها اللهُ. فكلّ الوجود يخضع إلى معنى التعدّدية، وإقرار المؤمن بتبعيّته لمعتقد التوحيد توجبه الإقرار بالتوحيد لله والتعدّدية للإنسان، وإلاّ انتهكَ معنى الشهادة بشقّيها. والإقرار بالتعدّديّة يتعدّى الحيّ والجماد ليشمل الأفعال والأفكار أيضاً، فكلّ فكرٍ ذي قابليّة للتعدّد والنقض والتحوّل والتغيّر سيكون قادراً على التكييّف مع طبيعة الأشياء والأفكار، وكلّ فكرٍ يعتمد الحقيقة النهائيّة وجمودها فإنّ مآل استبداده إلى زوال.
(ب)
إذا حُمّل الإصلاح الديني معنى: (إعادة قراءة الأصول والتأويل وإنتاج فقه يواكب موجبات العصر) فإنّ هذا الحملان ثقيلٌ أن يكون إصلاحاً لما يضمره على الاقتضاء ببُطلان القراءات الأخرى وحملانها على معنى الاعوجاج؛ وفي هذا تصادمٌ يحمل عواقب غير محدودة وغير محمودة، ونتائج مشكوك فيها إذا بقي الفكر الإصلاحي محصوراً في حدود الفقهاء وبعيداً عن الساسة والمشرّعين؛ ولذلك بقيت كلّ القراءات المعاصرة كإسهامات في اتّساع مدوّنة الفقة ولم تؤثّر على الراهن العربي، لأنّها لم تُناقش في البرلمانات العربيّة أو لدى أصحاب القرارات التشريعيّة والسياسيّة؛ فإذا حُمّلت القراءة الجديدة معنى الإصلاح -ودلالة الإصلاح تختلف عن دلالة التجديد أو التطوير- فإنّ مفهوم الإصلاح الديني قد يتحمّل نزعة فوقيّة يجب الحذر منها، حيث غرور امتلاك الحقيقة وتثبيتها بعيداً عن مفهوم تداوليّات الحقيقة، ولسنا هنا نتبنّاه في مفهومنا للإصلاح الذي لا نراه في إيجاد تأويل محلّ آخر أو فقه يزيح آخر، إنما نقدّم له على أساس مبادئ تقوم على تشريع حقوق المعتقد ولا نقول حرية المعتقد، فشتّان بين: (تشريع محدود وتأويل مطلق) وبين: (مفهوم الحقوق ومفهوم الحريات) فالحقوق ضمانة للحريات، بينما إطلاق الحريّات تفريط في الحقوق. وهذا الحقّ بحدّ ذاته يتضمّن حرية المعتقد كضامن وضابط لها؛ وهذا الحقّ في مفهومنا ينتمي إلى الإصلاح السياسي الديني في إقراره التعدّديّة والاختلاف والتنوّع كعصمة وقوّة للوطن، وهو حقّ مفصول عن أيّ أحاديّة ضيّقة، نُجلّ القيم الدينيّة الكبرى أن تنحصر بها وهي الداعية إلى التعدّديّة والتنوّع والاختلاف، ونجلّها أن تتورّط في نزاعات دنيويّة تخدش معانيها، وهي نزاعات لا ينفكّ غلاة رجال الدين وخصومهم المدنيّين يورّطون الوطن بصراعات تضيّق الفكر الديني الواسع بأحاديّة مطالب الفريق الأوّل وتكفيره أو تضليله لمن سواه، وتفريغ القيم المدنيّة عن معانيها حينما تسمع من دعاة الحريّة من يؤمن بإرهابيّة مبدأ: (لا حريّة لأعداء الحريّة).
ولابدّ من الإشارة هنا، أنّ عدم تبنّي مفهوم الإصلاح بمعنى تقديم بديل فقهي، لا يعني وقف نقد الفكر الديني وتقديم رؤى جديدة لعصرنة موروثات الفكر الديني وتطويرها، لكنّ هذه الممارسة بحدّ ذاتها لا تعدّ إصلاحاً سياسيّاً إنما تعدّ نقداً دينياً وهو ما يزيد ويوسّع في المدوّنة الفقهيّة المرجعيّة. أمّا الإصلاح السياسي الديني فهو تشريعات تسنّها السلطة التشريعيّة وتصونها السلطة التنفيذيّة شرعنة ووقعنة لحقوق المعتقد، تجرّم العبث بها وبمعتقدات الناس وفق أجندات تخصّ أصحابها ولا تخصّ وحدة الوطن وسلامته.
لا يقدر رجال الدين أن يقودون إصلاحاً بالمفهوم الذي نقدّم له سياسيّاً، وذلك لأنّ الإصلاح السياسي الديني يتعارض مع أجندتهم الدنيويّة، وفي الوقت عينه مع مضمون تفسيرهم الإيماني وتقواهم، إذ أنّنا لا ينبغي أن نقصي نيّة التقوى أمام كلّ من يقصينا إلى جوار نيّة الأجندة الإقصائيّة بحدّ ذاتها كآلة لمحاربة التعدّديّة الفكريّة، أو على أقل تقدير نوايا الأتباع الذين غُرّر بهم، لأنّ ممارسة الإقصاء تنطلق في بعضها من مفهوم التقوى لعصمة تأثيرات المجتمع والمحافظة عليه ا؛ فهناك من يُقصيك لأنّ مجرّد وجودك بما تحمله من فكرٍ تعدّدي يهدّد مصالحه، على أساس أنّه منتفعٌ بالحقيقة الأحاديّة الفكرية التي يقدّمها، وهناك من يقصيك من منطلق نوايا حسنة مضلّلة، والتضليل ليس في قيمة التقوى التي يحملها، إنّما التضليلٌ واقعٌ في الظنّ بملكيته للتقوى منفرداً، فلا يظنّها موجودة لدى المختلفين عنه، فأيّ فكرّ هذا الذي يحصر التقوى في طريقته! بينما حقّ التقوى لكلّ شخص قائمٌ على التعدّد ولا يمكن حصره على التشابه.
(ج)
حسناً؛ فما هو الإصلاح؟ سبق وأن ناقشنا في موضوع (الإصلاح ... سلامة المشروع وعورته) المنشور في الثقافية عدد (390) أنّ التغيير لغة واصطلاحاً يتضمّن (الإصلاح والاختلاف)، وأنّه في الحقل السياسي يكون على إصلاح ما هو قائم باختلاف المضامين والأساليب، بينما نعرّف الإصلاح: على أنّه أداة من أدوات التغيير السلميّ التي تعيد تداوليّات التغيير وتحرّر الحقيقة إلى مجراها على أساس التعدّد والتنوّع والاختلاف، بحيث ينصبّ مشروع الإصلاح في تقويم ما يظنّه المصلحون التشريعيّون والسياسيّون سبباً في عوار كلّ ما يُهدّد السلم الأهلي. فأين يقع اعوجاج ما يُراد تقويمه سياسيّاً؟ لطالما ليس في مسار الموضوع –ولا في نيّة كاتبه- أن يقوّم المذاهب على أنّها معوجّة، أو أنّ عصاة الإصلاح -بيد ثلّة من المفكّرين- قادرةٌ على إصلاح ما وقع بين أتباع المذاهب من خلافات بسبب تحويل المذهبيّة إلى طائفيّة، إذ نقع حينها في تطرف لا نسعى له، بل السعي في معالجته على مستوى المذاهب الدينية والسياسيّة أيضاً، (فالمذهبيّة) عندنا، هي سعة فكريّة في المدوّنة الفقهيّة وهي محلّ ثراء لمَ تضمّه من تفريج وتخريج، بينما (الطائفيّة) أجندة سياسيّة إقصائيّة يتعصّب بها أتباعها للمذهب بحجّة سلامته دون المذاهب الأخرى. إذّاك فإنّ الإصلاح الذي نريده أن يعالج اعوجاجا إنّما محلّه التشريع والسياسة بقدرة التشريع، وليس المذاهب الدينية والمدنيّة، على الرغم من ممارسات متطرّفة من الأفرقاء جميعاً، ما كانت لتقوم لولا ثغرات في التشريع، يتذرّعون بها في هذه الفسحة من الفتنة ولا يسدّها عليهم وعلى خصومهم على السواء.
وعلى ذلك، فإنّه إلى زوال وعبث كلّ جدال بين أطراف متعدّدة تدعو إلى مدنيّة الدولة وتغفل عن شرعنة حقوق المعتقد للأكثريات والأقليّات العرقيّة والمذهبيّة، وبين أطراف تتمسّك بما هو عليه الحال غلبة لفكرٍ أحاديٍّ على جميع الأفكار، وتقليصاً للمدونة الفقهيّة الواسعة المتعدّدة إلى حدود مدوّنة أحاديّة ضيّقة جدّاً؛ فكلّ هذا الجدال لا يثمر إصلاحاً بل يزيد في التناحر والاقتتال بين مكوّنات الشعب المتنوّع والمتعدّد فكريّاً، لأنّ أطرافه المتجادلة: (لا تملك حقّ التشريع، ولا صناعة القرار، ولا سلامة تنفيذه، ولا إدارة الإصلاح) ، على ذلك فإنّ الجدل ذا الفاعليّة والذي يمكن أن يعوّل عليه تطويرا وتغييرا يكون مع ممثّلي السياسة وصنّاع القرارات والأوامر فيها. فإنّ عدنا إلى إصلاحات مؤثّرة -في السعوديّة مثلاً- وقف اليمين الأصولي عثرة أمامها، فإنّ مسائل حداثيّة: (كالتلفزيون، تعليم البنات، القنوات الفضائيّة، التعاملات المصرفيّة، العلاقات الدوليّة، عمل البنات في المشفيات والأسواق، وغيرها) كلّ تلك المسائل لم تكن لتكون لولا تشريعات قامت بها الدولة وقامت بحمايتها، وكانت هي الطرف الأصيل في مواجهة التطرّف.
فلئن كان واقعاً أنّ السلطة السياسيّة تمثّل المظلّة الحاميّة للفكر الديني، ونطمح سياسيّاً أن تلمّ تحت مظلّتها كلّ الأفكار المدنيّة وتيّاراتها، لكنّ في الوقت نفسه لا يعني ذلك أنّ الفكر الأحادي الديني يمثّل السلطة السياسيّة، وهو ما تورّط فيه ممثّلو الفكر الأحادي في محطّات عديدة من التاريخ المعاصر، ولا نتوقّع أن يفلت أيّ مشروع للإصلاح من معالجة اختصار الوطن بتنوّعاته وتيّاراته واختلافاته التي هي قوّته، إلى حدود تيّار فكريّ أحادي -أيّا كان هذا الفكر دينيّاً أم مدنيّاً- يختزل الوطن ويمثّله بالنيابة والإنابة، لأنّ الوطن بإيمانه بتعدّد مكوّناته قادرٌ على تمثيل الجميع، إلاّ أنّ فريقاً دون آخر مهما علا شأنه لا يستطيع أن يمثّل بمفرده ويختصر كلّ الوطن.
Yaser.hejazi@gmail.com
-جدة