خُلق إبليس قبل آدم، وخلقت حواء بعد آدم. وفي تلك التراتبية «آية للمتأملين».
الشر والخير والمتعة.. ثلاثية تصنع الوجود والحيوية.
خلق الله إبليس من «النار» وخُلق آدم من «الطين» ونفخ فيه من «روحه العظيم».
ومن هنا بدأت فلسفة «حقيقة القيمة» التي أسست قاعدة «جدلية المعارضة».
فالظن القائم بأن «نوع الماهية» أساس التمييز والمفاضلة هو الذي دفع «إبليس» إلى «نشأة حزب المعارضة»، وأقول «الظن» نسبة إلى حصول «تقدير خاطئ» لتقييم تلك الماهية. حكايات كثيرة تُحكى عن «تاريخ السيرة الذاتية لإبليس» قبل «خلق آدم».
تتفق تلك الحكايات غالباً على محتوى واحد للسيرة الذاتية «لإبليس» فتقول إن «إبليس» كان «ملكاً» على الدنيا، وكان الجن يستوطنون الأرض ففسدوا وسفكوا فيها الدماء، فبعث الله إبليس إلى الأرض ليطهرها ممن فسد فيها وسفك الدماء.
فالوظيفة الأولى لإبليس هي «الخير» من خلال «آلية التطهير».
والأنانية المحرضة من فاعلية توهم «القيمة» هي التي حوّلت إبليس من «منفِّذ للخير» إلى «مُحرض على الشر». واعتزاز إبليس بهذا التاريخ «مُنفذ التطهير» إضافة إلى «طبيعة خلقه النارية» هي التي أسست لديه معتقد «المعارضة» فرفض في ضوء ذلك الاعتقاد «السجود» «لآدم عليه السلام».
الطين والنار.. التاريخ و.. اللا تاريخ..
«فآدم» مخلوق من «طين» كما أنه لا يحمل أي «سيرة تاريخية»، في حين أن إبليس مخلوق من «نار» والنار كما يعتقد إبليس أفضل من الطين.. {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } - الأعراف:12-.
إذن قاعدة المعارضة هنا مبنية على «التفضيل بالخيرية المُضاف إلى قيمة النوع».
لكن «آدم» لم يُخلق من طين فقط إنما من طين ونفخة من روح الله.. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} - الحجر :29 -.
لذلك أخطأ «إبليس» في «التقدير الصحيح» «لنوع الماهية» التي أسس عليها «حزبه المعارض».
وبذلك تصبح «مقابلة التفاضل بين نوعي الماهية» «الطين المندمج بروح الله» و»النار».
وهكذا خرجت المقارنة عن «الطبيعة الأصلية» إلى مقارنة بين «طبيعة خالصة» و»طبيعة محسّنة بالتهجين».
لتصنع «حزبين خلافيين» حزب «آدم» الموالي «لله سبحانه وتعالى» وحزب»إبليس» المعارض «لله سبحانه وتعالى»، ومن هنا بدأت جدلية الصراع المبنية على «الخلاف».
إن وهم تثمين القيمة وفق نوع المادة هذا الوهم هو الذي وقع فيه إبليس هو الذي جعله بمشيئة الله أن يكيد لآدم وحواء عبر دفعهما للأكل من الشجرة المحرمة. وفي ظل هذه المعارضة الفئوية الصامتة والحرب الباردة المبنية على التمييز العنصري التي كانت تسكن الجنة «خلقت حواء».. وفي طريقة خلقها الغامضة الكثير من الجدل والتأويلات.
وخلقت «حواء» وكان عليها أن تختار أحد الحزبين مع «آدم» أم مع «إبليس».
لكن يبدو أن المقدّر لها أن تختار الاثنين معاً،»آدم» اختيار «الاكتمال» و»إبليس» اختيار «نزعة الهوى» وتجريب الاستقلال.
إن الغموض والمجهول هما عادة روح الجدل والتأويل. والغموض والمجهول الذي يكتنف «طريقة خلق حواء» هما من أكثر التأويلات المعقولة وغير المعقولة التي تناولت «طريقة خلق حواء» أول شهرزاد في البشرية.
عندما نقرأ القرآن لا نجد فيه أبداً ذكراً للفظ «حواء» في «قصة الخلق الأولى» لآدم، وقد ذُكرت قصة خلق آدم عليه السلام «سبع مرات» في القرآن، وخلال هذه المرات لم تُذكر قصة خلق حواء، مما جعل هذه القصة على مر الأزمنة قابلة للتأويل.
كما أن «حواء» لم تُذكر «باسمها الخلقي» إنما ذُكرت من خلال «وصفها الوظيفي» «زوج».
ولذلك أمر الله تعالى آدم بعد خلقه «لحواء» بالسكن في الجنة بذكر حواء من خلال «وصفها الوظيفي».. {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} - البقرة: 35 -.
وليس من العقلانية أن نستبعد «وجود حكمة» لذلك الغموض والمجهول اللذين يُحيطان «بطريقة خلق حواء». أو وجود» منطق اقتضائي» «لتغيب أو السكوت» عن «طريقة خلق حواء».
وبذلك فإن خلق حواء أسس القواعد الأولية لفلسفة الجدلية. ولو بدأنا من الفرضية الثانية التي تقوم على «وجود منطق اقتضائي»، فالقرآن لم يذكر «طريقة خلق حواء» لأنه ذكر «طريقة خلق آدم»، ولم «يكرر ذكر طريقة خلق حواء» لأنها هي نفس طريقة «خلق آدم».
وهنا القرآن الكريم يعتمد على «منطق الاقتضاء بالتشابه»،كما يعتمد على الاستطراد الضمني لبقية البراهين المتعلقة بالخلق والتشابه.
أو لعل السبب هو «الاستنتاج الحتمي» المصاحب للمقدمة الأولية؛ فتبيان طريقة خلق آدم عليه السلام هي المقدمة التي نستنتج في ضوئها كيفية طريقة خلق حواء؛ إذ إن التوحيد في الطريقة يمنع من ذكر تكرارها، وبذلك تُصبح طريقة خلق حواء هي نفسها طريقة خلق آدم.
والاختلاف هو الذي يُوجب التصريح، وبما أن الاختلاف بين «آدم» و»حواء» هو الوصف الوظيفي ذكر القرآن «حواء» من خلال اختلافها عن «آدم» من حيث الوصف الوظيفي وليس من خلال تشابهها مع «آدم» طريقة الخلق التي «سكت عنها القرآن».
كما أن القرآن الكريم حافظ على «الاختلاف التكويني» بين «آدم» و»حواء» ولذلك بعد خلقها الذي سكت فيه عن «طريقة ذلك الخلق» صرح بالوصف الوظيفي لها «زوج»؛ لأنه الأهم وظيفياً في عملية الاكتمال الإنساني.
ويُفسر تصريح القرآن الكريم «بالوصف الوظيفي لحواء» أول الأمر في حالة «الإسكان» بلفظة «زوجك».. في حين كان «السكوت» عن «طريقة خلقها» كما ذكرته سابقاً أن الأهمية في هذا المقام ليس «لطريقة الخلق» التي ستُعرف وفق مقتضى التشابه والتكرار؛ إنما الأهمية ها هنا هي «وظيفة حواء» التي عبَّر عنها القرآن بلفظة «زوج». وهي التي تتكرر دوماً في مقام «عظمة خلق الرجل والمرأة معاً» والوصف الوظيفي لحواء «الزوج» هو الذي يتكرر في آيات القرآن.
ولفظ «زوج» الذي تكرر في القرآن عند ذكر عملية الخلق يمر بدرجتين من الدلالة.
الدرجة الأولى بمفهوم السكن» علاقة الزواج بين الرجل والمرأة التي ضبطها بقيم المودة والرحمة».
ومن إعجاز اللغة في القرآن أن لفظ «زوج» لا يُطلق في «العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة» إلا في ضوء تحقق الضابطين السابقين «المودة والرحمة». والدرجة الثانية أن كلمة «زوج» تدخل في معنى مساواة التوازن الوظيفي بين «الرجل والمرأة».
وهنا تحمل كلمة «زوج»؛ الشيء الذي يُبنى على الاقتران القائم على التماثل والتشابه والتكامل.
وبذلك فالقرآن يعزز «نظرية المساواة» بين الرجل والمرأة؛ إضافة إلى تقدير الاختلاف الوظيفي للطرفين يتم في حالة «علاقة الزواج» بينهما لا في كل الحالات.
والقرآن ها هنا كما يحافظ على «الخصوصية الوظيفية» للمرأة أيضاً يحافظ على تعزيز «قيمة المساواة بينها وبين الرجل». أما الفرضية الأولى التي ترى وجود «حكمة» للغموض والمجهول اللذين يُحيطان «بطريقة كيفية خلق حواء».
وذلك الغموض هو «جزء أصيل» من شخصية المرأة. فالمرأة «كائن غامض» لعل قدر الغموض الذي يحيط بها مصدره الغموض الذي يُحيط بطريقة خلقها؛ وتلك مشيئة إلهية قبل أن تكون مشيئة إنسانية أو فكرية أو أدبية. لتظل المرأة دوماً داخل «دائرة الجدلية الفلسفية».
إن الغموض الذي يعتري «الخلق الأول» لحواء ظل أمراً غالباً ما يُجيّر ضدها لتدعيم كينونتها الناقصة وقدرتها غير المؤهلة، وهو ما يُشكك في طبيعتها غير الناضجة بالفطرة. وهذا أمر غير صحيح. فقيمة المساواة التي يُعلن عنها القرآن الكريم فيما يتعلق بالإيمان والكفر والحساب والثواب والعقاب مماثلة للرجل هو دليل على «كمال أصل طبيعتها الخلقية». والطرفان اللذان يتساويان في قانون العقاب والثواب هما بالاقتضاء متساويان في أصل الطبيعة وأصل طريقة الخلق.
إن مصدر «الغموض والمجهولية» ها هنا - طريقة خلق حواء - هو اختلاف عقائد أصحاب الرأي من المرأة.
إن أفكار أصحاب الرأي هي التي «تصنع عقائد الناس» قبل الأديان.
وكل التأويلات التي ورثناها عن «طريقة خلق حواء» هي من صناعة أفكار «أصحاب الرأي» للأمم الغابرة من رجال دين ورهبان ومفسرين.
إن حديث «الضلع» الذي ورد بعد التوصية بالنساء خيراً يؤكد رعاية المرأة واحترامها لا كما جاءت به نظرية «الضلع الأعوج» الشائعة في التراث الإسلامي التي كانت تسعى لتعزيز فكرة «التبعية للرجل» لا فكرة «التكامل بين المرأة والرجل»، وهو عكس ما يقتضيه المنطق القرآني في «نظرية الخلق» والمفهوم الحديثي في العناية. ويذهب أصحاب «خلق المرأة من الضلع الأعوج لآدم» بأن هذا الأمر هو مفخرة لها وليس انتقاضاً بدعوى أن الطب الحديث أثبت أن الضلع الأعوج هو الذي يحمي القلب. ووفق ذلك على المرأة أن تردد مقولة على غرار المأثور اليهودي «الحمد الله الذي خلقتني من ضلع العوج حسب مشيئتك».!
«إن المعرفة ليست بالضرورة حامية من التخلف أو مقاومة له»؛ لأن ما نؤمن به من أعراف قد يهزم غاية المعرفة، فغالبا ما نتوارثه من اعتقادات هو أقوى من مكتسب المعرفة؛ لأن الاعتقاد ها هنا يتحول إلى سلطة. وعندما نقدر تلك المعلومة العلمية بقيمة «الضلع الأعوج» وأهميته في حماية القلب، وبالتالي فإن طريقة خلق المرأة بالكيفية ذاتها هي»قيمة» كبرى وليست نقطة ضعف تُستغل لتحقير المرأة وإهانتها والانتقاص من «كينونتها وإنسانيتها».
أقول عندما نقدر تلك المعلومة العلمية ونقدمها كمكتسب معرفي لذهنية اجتماعية تربت على اعتقاد أن «الضلع الأعوج» هو رمز للضعف والنقص والسلبية. فإن ما سيحدث أن الاعتقاد العرفي المترسخ في تلك الذهنية والذي يتصف بمصداقية ثابتة سينتصر على المكتسب المعرفي ومن أهم تلك المشجعات على الانتصار «الجهل» وفقدان الإيمان بالمكتسب المعرفي، وقلة المؤمنين بالمكتسب المعرفي الذين يعجزون على «فرض المكتسب المعرفي» وتثبيت الثقة فيه ومصداقيته.
وبالتالي فالمكتسب المعرفي الذي يُعلن «أهمية قيمة خلق المرأة من ضلع أعوج» لن يفيد في تغيير تلك الذهنية المتطرفة في رؤيتها للمرأة القائمة أن «خلقها من ضلع أعوج» إثبات لضعفها ونقصها وتفوق الرجل عليها إذا هي جزء منه.
وفاصلة القول ها هنا قوله تعالى {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} - الأنبياء: 37 -
والعجل هنا هو الطين أو التراب الذي عُجن بالماء حتى صار طيناً لازباً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً كالفخار.
والإنسان هنا مصطلح يدخل فيه «الرجل والمرأة» والآية وفق ذلك تؤكد على «وحدة أصل طبيعة الرجل والمرأة» وأصل «وحدة طريقة خلقهما».
ورغم هذا الوضوح ظلت المرأة تقود حركة الجدلية كما أسست قواعدها منذ البدء.
- جدة