غريب أن ينظر أبو عبدالوهاب إلى نفسه ومنذ مطلع شبابه، على أنَّه «الفهد التائه» في حين أنَّه كان الحاضر دومًا في الوسط الثقافي وفي أذهان محبيه، وفي المجتمعات الستّة التي عمل فيها سفيرًا، وكان مجلسه مفتوحًا على الدوام منذ أن بزغ نجمه قبيل الثمانينات الهجرية من القرن الماضي (الستينات الميلادية) وكانت مشاركاته الثقافية لا تغيب ولا تنقطع، وإبداعاته الشعرية تتجلَّى في كلِّ منعطف مرّ بالوطن، وفي كلِّ مناسبة أسرية أو عاطفية أحاطت به، وفي كلِّ لوحة طبيعيَّة سلبت خياله في ربوع بشرّي بلبنان ولوزان في سويسرا، وكيف له أن يكون التائه، وهو الذي أقسم في إحدى قصائده الحديثة نسبيًّا أن لن يضيع؟ ولن يستكين؟.
عرفه المجتمع الثقافي من قليل ما كان ينشره من مقالات وقصائد باسمه الصريح أو بأسماء مستعارة مثل «الفهد التائه وبدوي الدهناء والحطيئة وسليم ناجي» وسجّله عبد الله بن إدريس في كتابه (شعراء نجد المعاصرون) ضمن ثمانية من شعراء عنيزة التي قال فيها: «إن أكبر عدد من شعراء نجد ولدوا تحت خطرات نسيمها المنعش حيث ترقد كثبان الرمال الصافية وتتأوّد أغصان النخيل النضرة وأشجار الفاكهة الباسقة» وقال عن شاعرنا في حينه: «إنه شاعر عاطفي ذو طاقات فنيَّة رائعة في استغلال تلك الإمكانات الشعرية في إطار الذاتية المحدودة» وكان الكتاب قد طُبع عام 1380 هـ (1960 م) قبل أن يصدر أول ديوان للأستاذ العيسى.
إن هذه المشاركة التي تُقدّم بمناسبة تكريم المهرجان له في مسقط رأسه، لا تُقلّب في صفحات سيرته ولا تنقّب عن مفاتيح شخصيته، ولا تغوص في شعره، لكنها حاولت التجوَّل بانوراميًا في تحوّلات حياته لتتوقّف عند ثلاث محطات مؤثِّرة شكّلت نفسيّته وتركت بصماتِها وآثارها الواضحة في تكوينه:
أولاها؛ تلك الحقبة المبكّرة من شبابه التي قضاها متنقلاً بين مدن الحجاز، وأودعت ثقافته المعرفيّة كثيرًا من المؤثِّرات، فأبو عبدالوهاب ولد في عنيزة، ثمَّ نشأ وترعرع في المدينة المنورة تحت رعاية جدة لوالدته إمام المسجد النبوي الشريف الشيخ صالح العبد الله الزغيبي، ثمَّ عاش طرفًا من شبابه بين مكة المكرمة والطائف وجدة، وهي جميعها حواضر تجمع بين المحافظة والتمدّن المتنوّع (الكوزموبوليتان) تُكسِب ساكنها إرثًا ثقافيًّا ينعكس على طباعه وعلى تقاليد أهله وعاداتهم، ولقد استمرّ أبو عبدالوهاب في كهولته يستعيد صور مراتع صباه وذكريات مدرسته ومدرسيه، ويتذكّر أيَّامًا قضاها في حارات مكة المكرمة ومصايف الطائف بين روابي شهار ووادي وُجّ والمثْـنى، ومساجلاتٍ شعريةً شارك فيها، ولقاءاتٍ فكريةً جمعته بالمثقفين والأدباء في مقاهي مكة المكرمة في ذروة التألّق الثقافي لمحمد حسن عوّاد وحمزة شحاتة وعزيز ضياء ومحمد حسن فقي وحسين سرحان ومحمود عارف وأحمد إبراهيم الغزاوي ومحمد سرور الصبّان وعبد الله بلخير وغيرِهم، ولعلها الفترة التي كشفت مواهبه وألهمته الحس الإبداعي في معرفة الألحان والأوزان الموسيقية والشعرية والتراثية، حتَّى شاهدناه عند انتقاله للرياض - معقل التشدّد في الثمانينات الهجرية - يعلّق شارة النوتة الموسيقية على مدخل بيته عند شارع الفرزدق قرب الإذاعة، وكأنك داخل إلى دار بيتهوفن أو موتزارت.
أما المؤثِّر العميق الثاني، الذي استمرّ أبو عبدالوهاب مصدومًا بانعكاساته النفسية عليه بقية حياته وتسبّب في إيقاف صعوده الوظيفي، فكان هجمةً شرسة تعرّض لها في منتصف شبابه من أحد المشايخ المتشدّدين (محمد أحمد باشميل) في أعقاب صدور بعض قصائده الجريئة مطبوعةً في لبنان، إِذْ بقي في إثرها حبيس إقامة اختيارية فرضتها عليه ظروفُ تلك الزوبعة، بسبب ما تضمنته القصائد حقيقةً أو مُنتحلاً بعضُها من جرأةً نواسيّة وربما عقديّة غير مقبولة، خاصةً وقد كان حينها يشغل وظيفة قياديّة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعيَّة، وبقيت تلك القضيّة التي سبّبتها قصيدة «ليديا» وبعض قصائد ديوانه على مشارف الطريق (دار العلم للملايين بيروت 1383 هـ - 1363 م) مثل قوله في أبيات من قصيدة أحلام لا تزيد عمَّا تحويه كتب التراث:
يا حبيبي كلُّ ما في الكون من حب وغزل
ودعاءٍ مستفيض، بترانيم القُبل
فادن مني، نتعاطاها بأقداح الأمل
نشرع الكأس دهاقًا، لا نبالي من عذل
بقيت تلك الدعوى الاحتسابية - التي نظرت فيها المحكمة في مكة المكرمة برئاسة الشيخ سليمان بن عبيد وترتّبت عليها تنحيتُه من منصبه الإداري مع استمرار راتبه - بقيت حديث المجتمع الثقافي في تلك الفترة (أواسط الثمانينات الهجرية - الستينات الميلادية)، ثمَّ حاول احتواء الأزمة بنشر اعتذار في جريدتي المدينة وعكاظ لم يكن محل ارتياح بعض المثقفين حينئذٍ، ولا أظن أن حديثًا في السنوات اللاحقة من عمره سيطر على مجلسه ومع محبيه أكثر من استعادة تلك القصة وما حدث فيها من تداعيات فضفض عنها علنًا في اللقاء التليفزيوني (رجال في الذاكرة 1427 هـ من جزأين) وأفرغها نفسيًّا في قصيدته الجزلة «حرية الفكر» المنشورة في ديوانه (أين قفاة الأثر 1428 هـ - 2007م م)، مبينًا فيها وجهة نظره في القضيّة وموقفه حيالها، وكان مطلعها:
صبرًا أخا الحرف لا تعجل ولا تلمِ
فلن أضيع أنا، أقسمت بالقلم
الشمس تشرق من كفي أشعتُها
إن تُسجن الشمس عن أرضي وعن أُكُمي
سيعلم القوم صمتي في غدٍ ذهبٍ
والصوت من قلمي والحق ملء فمي
أني الأبيّ، سمائي فوق عالمهم
وفوق كل دعيٍّ ناعق قدمي
استثمر التلفزيون حديث النشأة آنذاك، عزلة العيسى هذه ومعرفته بالألحان والأوزان الموسيقية، في محاولة مشتركة معه لتدوين التراث والألحان الشعبية من كل أنحاء الوطن، كالخمّاري والدحّة والسامري والناقوز والصوت والخبيتي والصهبة والمجرور والمزمار والعرضة وغيرها، مع تبيان فروقاتها الإيقاعية، ومن، ثمَّ شرح طرقها وطُرُقها وأوجه التقارب والتباين بينها، ومقارنتها بما معروف من الفنون القديمة والموّالات والموشّحات والمقامات، وبشتَّى أنواع الأدوات التقليدية كالطبل والسمسميّة والربابة والعود، وقد وُجدت بين أوراقه نصوصُ خمس عشرة حلقة لبرنامج «من ألحاننا الشعبية» كتبها أبو عبدالوهاب وقدّمها المحاضر (1387 هـ - 1967م) وكانت فكرة البرنامج المقاربة لما يطبق اليوم في الجنادرية، تقوم على استضافة الفِرق من كل أنحاء البلاد لتسجيل مقطوعاتها في استوديو التليفزيون بحضور المعدُّ والمُقدّم، والالتقاء بقادتها لشرح أوزانها، وكأني هنا أقرأ صفحات من سيرة الصديق المشترك «أبو على الزامل» الذي عاش المؤثِّرات نفسها وشارك صولات السنوات الأولى من نشأة الإذاعة والتليفزيون وجولاتهما، وكان يستضيف الفنانين الشعبيين في منزله ويُسجل لهم، وأحسب أن معرفة العيسى والزامل بتلك المعارف الفولكلورية كانت متقدِّمة في مجتمعنا آنذاك، يجاريان فيها مطلق مخلد الذيابي صاحب الأغنية الشهيرة «يالله أنا طالبك حمرًا هوى بالي» وطارق عبدالحكيم صائغ الأغنية السعوديَّة الحديثة أبي الموسيقيين غير التقليديين الذي احتكر أداء أكثر قصائد العيسى الغنائية كان من أقدمها وأشهرها: أسمر عبر، لك عرش وسط العين، حبيبي في روابي شهار، حبيبي ضمّني ضمّـة، ثمَّ تبارى بقية الفنانين ومنهم طلال مداح ومحمد عبده وسميرة توفيق وهيام يونس لأداء كلماته الغنائية.
لم يكن أبو عبدالوهّاب يجيد الشعر النبطي ولا روايته، لكنه كان أينما حلّ يحمل قلمه الشعري بالفصيح المقفى وبالمرسل، فأصدر في مسيرته الأدبيَّة الطويلة نحو خمسة عشر ديوانًا (منها: على مشارف الطريق وليديا 1963م دروب الضياع والإبحار في ليل الشجن 1980م، وليلة استدارة القمر2001 م) وألّف كتابًا عن تاريخ الدرعية (قاعدة الدَّوْلة السعوديَّة الأولى 1415 هـ - 1995 م تقديم العلامة حمد الجاسر) واشترك في مسابقة إعادة كتابة كلمات السَّلام الملكي، وكتب بعض المقالات الاجتماعيَّة والقصائد الوطنيَّة والتمثيليّات والمسرحيات التي قُدّمت نصوصها للإذاعة والتليفزيون (1385 و1386 هـ) وخصّ ابنة عمّه ورفيقة دربه أم عبدالوهاب (فاطمة الصالح العيسى) بالأحلى من قصيده.
أما المؤثِّر الثالث الذي فاق غيره من المؤثِّرات، فإنَّ هذا الإنسان الذي لا تكاد الابتسامة والدعابة تفارقانه، مرَّت به وبأسرته مصائب بالغة الأسى، كان من بينها فقدُ الابن الأكبر عبدالوهاب والبنت الكبرى فوزية، ثمَّ الابن الأوسط نزار وحفيدتهم سارة (بنت عبدالوهاب) رحلوا جميعًا في (عز) الشباب في سنوات متقاربة، وفارق أبو عبدالوهاب الدنيا في آخر شهر رمضان المبارك دون أن يعرف بوفاة الحفيدة التي سبقته إلى الدار الآخرة بفترة وجيزة، وقد نظم في بعض تلك الرزايا قصائد من جميل شعره وأكثره حزنًا وشفافية، واحتسب وحرمه وأولادهما د. إيمان وعدنان وعبد العزيز وغادة في مصابهم وجه الله أبلغ احتساب.
وأحسب أن من نعم الله عليه أن جعل منه شاعرًا يُعبّر من خلال الحرف عن شكواه إذا اشتكى وآلامِه إذا ما تألّم، والشعر عند العيسى لا ينتظر تقريظًا من أحد بعد أن قال فيه د. غازي القصيبي (1419هـ) «لو تجسِّد الشعر رجلاً لكان رجلاً يشبه العيسى، يشبهه في أناقته، يشبهه في كرمه، يشبهه في طيبته، يشبهه في وداعته، يشبهه في دواوين شعره، إنّه يتنفس شعرًا، ويعيش شعرًا، ويأتيه الشعر من بين يديه ومن خلفه ولا يذهب إليه، مخلص للشعر، لا فجوة بين شخصيته الاجتماعيَّة وحياته الشعرية، فرومانسيته الشعرية تنبع من حياته وليس من خياله، ورقّة شعره وهدوء معجمه تنبع من رقّة مشاعره، إنّه يكتب شعره دون تكلّف أو تصنّع، فالعيسى - في نظر د. غازي كما نقلته جريدة الرياض - مخلوق شعري وديع أنيق، خفيف الوزن حسّيًا وشعرّيًا».
وقال عنه زميلنا المبدع ورفيقي في زياراته الثقافية والمرضيّة أبو يزن إبراهيم التركي عند رثائه: «حظّنا أنّه من هنا، وسوء حظّه أنّه لم يكن من هناك، وإلا لأصبح رقمًا إبداعيًا معادلاً لقيم شعرية لديهم تبوّأت القمم، تواصل الشاعر العيسى ليرسم لوحات العشق للأرض والأنثى غير آبهٍ بالأصوات المعترضة، وأعطاه اغترابه عن الوطن سفيرًا دفقًا عاطفيًا جميلاً لا تثنيه الرقابة أو القيود، ولم يكن غيابه سوى حضورٍ هادئ أبعده عن ذاكرة الإعلام ليبقى في طليعة الأعلام، وجد العيسى سلواه في البحر والنهر والسهل والصخر والطفل والمرأة، ووجدنا عزاءنا في صورة شاعر أحب للحب وأضاء الدرب، وظلَّ شاعر الخصب في زمن الجدب».
وبينما يترقّب المجتمع الثقافي كتابًا عن سيرته تعكف ابنته د.إيمان على إعداده، نُشر العديدُ من الدراسات الأدبيَّة النقديَّة لشعره، منها تلك الرسالة الأكاديمية التي أعدّها جبر الفحّام عن شعره، واستلّ منها محاضرةً ألقاها في النادي الأدبي بالرياض بُعيد وفاته (الأربعاء 14 شوال الماضي الموافق 21 أغسطس 2013 م).
وتلك الدراسة المطوّلة سالفة الذكر التي نشرتها جريدة الرياض (10 يناير 2013 م) بعنوان شاعر الحزن الشفيف، وتضمّنت قراءات لشعره من نقّاد بارزين هم د. غازي القصيبي ود. عبد العزيز المقالح ود. راشد بن عيسى ود. محمد عيد الخطراوي ود. محمد الشنطي وعبد الله عبدالرحمن الزيد.
ثم تلك الدراسة المعمّقة التي كتبها في شهر سبتمبر الماضي أحمد محمد الواصل بعنوان «أبو الأغنية السعوديَّة الحافية» مقررًا فيها أن الأغنية السعوديَّة الحديثة قد تطوّرت مع منتصف القرن الماضي بواسطة ثلاثة مجدّدين هم ابن الطائف طارق عبدالحكيم وابن مكة المكرمة إبراهيم خفاجي وابن عنيزة محمد الفهد العيسى، وانتقلت معهم من الموروث الشعبي الجماعي بأدوات الطرب التقليدية إلى الأداء الفردي بالآلات والمعازف الحديثة والنوتة الموسيقية.
وقبل ذلك، نشرت المجلة الثقافية الصادرة عن صحيفة الجزيرة ملفًا ضافيًا عنه معنونًا بشاعر اللَّيل والشجن (العدد257 الصادر في 20-10-2008 م) وكتب فيه عبد الله بن إدريس وعبدالرحمن السدحان ود. عبد الله المعيقل وآخرون.
وبعد؛
كان اختيار أبي عبدالوهاب للعمل الدبلوماسي في عهد الملك فيصل، بدءًا من موريتانيا (بلد المليون شاعر) خيارًا يتناسب مع روح هذا الفنان الجريء، الذي يكتب قصيدة الغزل واعيًا أن بين يدينا نصًا قرآنيًا صريحًا بأن الشعراء (يقولون ما لا يفعلون) ومتناسيًا أنّه يعيش في مجتمعات محافظة، وإن من يطّلع على نصوصه الشعرية القديمة والمتأخّرة بما فيها ديوانه الأخير «عندما يُزهر الحب» يجد صاحبنا هو كما كان (ابن الأربعين لم يتغيّر) مع أنَّه بقي في السنين الأخيرة من حياته عمودًا من أعمدة مسجده المجاور يطاله على ذات أربع كهربية، وكان في الوقت نفسه يكتب - كما فعل أبو العتاهية من قبله - في أغراض شعر التوبة ليمسح به ما كتب في شعر الغواية، وكان حتَّى آخر يوم في حياته التسعينيّة يحوز القدرات الذهنية والشعرية مُمضيًا في لقاء ربه كل يوم أكثر مما يمضي مع أسرته ومجالسيه، حتَّى أكرمه الله باختياره إلى جواره في العشر الأواخر من رمضان المبارك.
***
* بمناسبة تكريمه في مهرجان عنيزة الثقافي الرابع، الثلاثاء 24 ذو الحجة 1434هـ (الموافق 29 أكتوبر 2013 م).
- الرياض