Culture Magazine Saturday  02/11/2013 G Issue 415
فضاءات
السبت 28 ,ذو الحجة 1434   العدد  415
 
الساخر الساحر
فيصل أكرم

 

في الأزمات دائماً تتولّد المعجزات، وينفجر الإبداع عادة في أجواء تحيطها الاضطرابات، وقد يظنُّ المعتادون على سوء الظن بأن النجم الذي يصعد في حالات كهذه مشحونة بالأحداث والتناقضات إنما هو مستغلٌّ لمأساة حدثت ولولاها لم يكن؛ بينما الواقع الذي أراه أنه ما كان للمأساة معنى لو لم تنجم عنها نجوم!

حديثي هنا ليس عن صانع حدث من الأحداث التي تتكالب علينا من كل مكان، ولكنه عن صانع مادة تلفزيونية تسخر من الأحداث بإتقان أحسبه سحراً.. باسم يوسف.. صاحب برنامج (البرنامج) الذي أصبح في جمهورية مصر الشقيقة أشهر برنامج تلفزيوني على الإطلاق في وقتٍ قياسيّ، وما كان له أن يكون الأكثر جدلاً بين المثقفين لو كان إسفافاً أو تهريجاً كما تراه فئة من الناس، كما أنه ما كان له أن يصل إلى كل طبقات المجتمع المصريّ ويكون الأكثر مشاهدة بين عامة الناس لو كان بالعمق والمغازي التي تراها فيه فئة أخرى من الذين كتبوا عنه. إنه - كما أرى - وبكل بساطة: برنامجٌ ساخرٌ ساحر!

لم يترك باسم يوسف حدثاً من الأحداث أو شخصية من الشخصيات المؤثرة في مصر إلا وجعل منها - بصدق موثق لا تزوير فيه - مادة رائعة وممتعة وغاية في الضحك البريء، وكنتُ أتابعه إلكترونياً على شاشة (يوتيوب) قبل أن ينتقل إلى شاشات التلفزيونات المصرية التي - بحسب بدرية البشر - لم تستطع معه صبراً (!) فكل قناة بعد عرض كل حلقة تضطر إلى إصدار بيانات لإرضاء أحبابها ممن قد أصابتهم بعض طلقات البرنامج القاتلة ضحكاً لا يضاهيه ضحك. فهل حتى عن الضحك يعتذر الإنسان؟!

وقد تم إيقاف (البرنامج) أكثر من مرة، كان آخرها قبل ثلاثة أشهر، حتى عاد في الأسبوع الماضي بحلقةٍ أولى في موسم جديد قال تمهيداً له في مقالة نشرتها صحيفة (الشروق) المصرية قبل عرض الحلقة بأيام: (سنبذل قصارى جهدنا لوضع ابتسامة على شفاه من أصابهم الملل من البرامج التقليدية وسنضحك معهم بدلاً من أن نبكي) واختتمها باعتذار قال فيه للمشاهد: (أعتذر مقدما لأنك لن تتفق مع كل شيء أقوله، وربما ستكرهنا أو ننزل من نظرك). شدّني هذا الرجل الطبيب الشاب المثقف الذي دخل إلى عالم الشهرة من بوابة الشاشات المرئية بوسيلة يتقنها تماماً (السخرية) وكأنما اجتمع فيه الساخرون جميعاً، من أدباء وفلاسفة وفنانين بمختلف الفنون، فهو يقدم صورة وصوتاً وأفكاراً وملاحظات وموسيقى وأغنية ورقصات مع فريق عمل محترف جداً في انتزاع الضحكات عن جدارة رغم حداثة عهده بالظهور الإعلامي..

وباسم يوسف لا أعرفه شخصياً وأظنه لا يعرفني، ولكنني مع إعجابي بما يقدمه في برنامجه ازددتُ إعجاباً به حين شاهدتُ حلقة من (الحكم بعد المزاولة) الذي استضافه على أنه برنامج لقناة فرنسية ثم في نهاية الحلقة أخبروه بأن القناة إسرائيلية (!) معظم الفنانين والمشاهير الذين استضافهم ذلك البرنامج الفكاهي المصري بالكامل والذي هو عبارة عن مقلب من مقالب الكاميرا الخفية وصادوه وحيلهم بينهم وغيرها التي تبث في المواسم الرمضانية، كانوا يثورون ويتشنجون لمجرد ذكر كلمة (إسرائيل) أمام الضيف، إلا باسم يوسف الذي كان رزيناً ومتوازنا ومسؤولاً عن كلام يجب أن يقال بخاصة عندما أدان فريق العمل ووضعه في موقف محرج جداً حين قال لهم أنتم بهذا الأسلوب في الخداع تثبتون لشعبكم أيضاً أنكم غير صادقين وتنتهجون كل الطرق البعيدة عن الأمانة.. ومع ذلك تثور على باسم يوسف جهات كثيرة وتحوّر وتبدّل في كلامه وتتفلسف وتتهم وتزعم وتقسم بأنه عميل (!) وهل لساخر ساحر أن يكون عميلاً؟ تؤكد الدراسات أن من يملك القدرة على إضحاك الناس هو أكثر الناس صدقاً، تماماً كمن يملك القدرة على إبكائهم. فمثل هذه القدرات الخارقة لا يمكن أن يأتي بها عميلٌ أو جاسوسٌ أو مراوغٌ أو منافقٌ أو أفّاق؛ وإن حاول فستبوء كل محاولاته بالفشل قبل أن تبدأ!

أحيّي باسم يوسف وفريق عمل (البرنامج) وأشدّ على يده بالاستمرارية حتى لو عاد إلى (يوتيوب) بقناة خاصة لن ينتقص من عدد مشاهديها إن لم تكن منسوخة من قناة تلفزيونية، فالإنترنت وسيلة متاحة للجميع في زماننا الذي يحتاج بشدة إلى من يجعل الناس يضحكون ضحكات جماعية على تصرفات فردية من أشخاص صنعوا أحداثاً لم يكن فيها ما يضحك أو يبكي ولكنها كانت كوارث لا نقول معها إلا (حسبنا الله).

كما أنني أدعو هذا المبدع - باسم يوسف - أن يتوسع في طرحه الساخر ويتمادى في أسلوبه الساحر ليشمل صانعي الأحداث في العالم كله، وليس في مصر وحدها، فالإنسان إنسان في كل مكان، والعالم كله يشبه بعضه بعضاً، وما نطلق عليهم مسمى (الرموز) في عصرنا هذا هم أكثر من يستحقون منا أن نضحك على تصرفاتهم التي لم تجلب لنا إلاّ الكوارث. فهل كثير على الناس العاديين ساعة من الضحك المحايد؟

أقول (المحايد) وأعرف أن لا حياد الآن، فالكلُّ منحاز إلى ما يرى فيه مصلحته، وأنا أنحاز لباسم يوسف لأن من مصلحتي أن أضحك قليلاً (!) أما باسم يوسف فأظنه الشخص الوحيد المحايد جداً في زماننا هذا، وربما لن يظهر حياده للناس إلا بعد زمن طويل، لو استطاع أن يقاوم كل الضغوط ويستمر..

ffnff69@hotmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة