اخترنا لتلقي المداخلات، في ملف هذا العدد، قضية العلاقة بين العلوم الإنسانية وفعل النهضة. وهو اختيار يجري باتجاه الإغناء لمحور حددناه لموضوعات الملف في هذه الفترة، تحت عنوان «آفاق العلوم الإنسانية المعاصرة» وذلك بالقصد إلى بحث جوانب التشارك والتداخل المنهجي والموضوعي في العلوم الإنسانية، وتحولاتها ومعرِّفات قيمتها ومعاييرها الأكثر حداثة. وبالطبع فإن المداخل المتنوعة في هذا الصدد تجاوز الانحصار في حقل إنساني إلى رؤية الموضوع الإنساني بوصفه علاقات متعددة، وحقولاً متشاركة.
وقد يكون فعل النهضة أحد تجليات القيمة التي ترتسم عبرها أهمية العلوم الإنسانية. فالعلوم الإنسانية من حيث استدارتها على الثقافة وعلى المنتجات الرمزية للإنسان وخصائص وعيه وما ينشئه من علاقات ويصنعه من معان، تسهم في تخليق وعي الإنسان وتوجيهه وإكسابه معاني مختلفة، وتمنحه من أدوات الرؤية والتحليل والتأويل ما يقتدر به على فهم معوقات وجوده وفاعليته وعلى مجاوزتها. ولم تكن النهضة أينما وجدت صناعات تقنية أو علوماً بحتة فحسب، بل كانت أدبًا وفنوناً وعلوماً أدبية واجتماعية ونفسية ولغوية.
لكن مفهوم «النهضة» يمكن أن يُفهَم في سياقات مختلفة باختلاف المجتمعات والحقب التاريخية. فلقد أسهمت النشأة الحديثة للعلوم الإنسانية في قيادة وعي النهضة الأوربية وتوجيهه، فكانت متصلة بمعنى الولادة المتجددة والإحياء الذي كان الوعي فيه بالتراث الإغريقي مقدمة لانطلاق فكر اجتماعي وأدبي وإنساني جديد. ولم تبرأ هذه النشأة من أثر المركزية الأوربية بعد ذلك، ومن النظرة التي تمثِّلها للعالم وللشعوب والجغرافيا والثقافة والإنسان... خارج أوروبا، حتى بدت حقول من العلوم الإنسانية وكأنها متخصصة في دراسة غير الأوربيين، ممن يوصفون بالبدائيين، وأخرى متماسة مع خدمة طموحات الأوربيين إلى الهيمنة، وإلى تكريس الرؤية إلى تفوقهم.
ولقد تجدّدت النظرة في العلوم الإنسانية إلى النهضة والتقدم وإلى المعنى الإنساني بتجدد الأطروحات المنهجية والأبستمولوجية، سواء من جهة تنامي النقد للمناهج والأطروحات التقليدية الإنسانية في أوروبا نفسها، ضمن تنامي الوعي والتمرد على عقلية لم يمنعها تقدمها من أن تقترف أعظم حربين كونيتين أو تمارس الإبادة أو الاستعباد والتمييز ضد غيرها، أم من جهة ما تطورت إليه العلوم الإنسانية في الوعي بها لدى غير الأوربيين من شعوب العالم، واستثمارها في استيلاد نهضتها ومجاوزة عقبات وجودها التي لا تشبه الأوروبيين شبهًا كاملاً أو لا تشبه غيرها من الشعوب.
ويشاركنا في ملف هذا العدد أساتذة ثلاثة، فيكتب محمد شوقي الزين عن الثقافة والنهضة منذ عصر الأنوار؛ لأن المهارات التي وضعها الإنسان على محك التقدّم كانت عبارة عن ظواهر ثقافية، وكانت تحتاج إلى إطار نظري وفكري يحتضنها. وقد وجَدَت هذا الإطار في عصر الأنوار عندما أصبحت المعارف البشرية أكثر تنظيماً وتنسيقاً بفعل النُضج العقلي والتماسك المنطقي للمشاريع الموضوعة. ومن هنا يلحظ الدكتور الزين أنه في الوقت الذي كان العلم فيه يرتقي إلى مصاف النموذج والمعيار، كان لا بدّ من تصحيح منهجي قامت به العلوم الإنسانية، وخصوصاً الأنثروبولوجيا الفلسفية بإعادة وضع الإنسان في صُلب الاهتمام والنظر إليه بوصفه ذاتاً فاعلة وصانعة، وليس فقط ، موضوع المعرفة العلمية في الميادين التجريبية الرائدة آنذاك. وعلى إثر هذه العودة إلى الأنسنة التي رافقت النهضة في سيرورتها التاريخية، تمّ التركيز على الجانب التكويني للإنسان بالبحث عن الأمر الذي يجعل منه كائناً عاقلاً يتميّز بالابتكار النظري والفني ويجعل من هذه الابتكارات والمهارات قيماً فكرية وروحية وثقافية.
أما عبد الله يتيم فقد أماط في مداخلته اللثام عن شخصية فرنسية بارزة في حقل الأنثربولوجيا خلال القرن العشرين، وهو ميشيل ليريس. فالحديث عنه يعني الحديث عن أطروحات أسهمت في تغير النظرة إلى الشعوب غير الأوربية، وإلى الأفارقة تحديداً الذين اضطر ليريس إلى السفر إليهم والانصهار في أتون حياتهم، كما تقضي بذلك المنهجية الأنثربولوجية الصارمة. وهذا يقفنا على ما كان سائداً في الأنثربولوجيا من التعبير عن الرغبة في تغيير العالم؛ تغيير طرائق التفكير، وتغيير حياة الشعوب المستعمرة، واتصال ذلك بالاعتقاد بأن العلم سيقود إلى التطور ليس على المستوى التقني فقط وإنما على المستوى الأخلاقي للإنسانية. لكن ليريس يرى أن ذلك تعبير عن الخلط السائد بين مفهومي «العلم» و»التطور»، وكذلك بين التطور العلمي من جهة، والتطور الإنساني من جهة أخرى. فالأنثروبولوجيا لديه كالفن، ليست نفعية ولا تستطيع تغيير العالم، ونجد لدى ليريس اعتقاداً بأن أمام المجتمعات الغربية فرصة للتعلم من تجارب المجتمعات غير الغربية، كما نجد تبنيه لمواقف مناهضة للاستعمار، ومقالته التي تغدو إحدى مرجعيات الدكتور يتيم، في هذا الصدد، بعنوان: «الإثنولوجيا في مواجهة الاستعمار».
وتتجه مداخلة بو بكر بو خريسة إلى تحليل دور العلوم الإنسانية في تشخيص أزمة النهضة العربية ومحاولة بعض المفكرين الإسهام في بحثها. وفاعلية هذا الإسهام متصلة -لدى بو خريسة- بجانبين، ومتصفة بهما: الأول الصلة بصفة العلم فالحياد فيه هو مؤهل عالميته التي تجاوز به الارتهان لمكان أو الانحصار في زمان، والثانية أخلاقية العلماء التي تفرض على كل صاحب علم أن يشعر بالتزامه بمبادئ مماثلة لتلك المبادئ في يمين «أبوقراط» الطبي التي أصبحت متداولة في قَسَم الأطباء في كل الثقافات، وذلك بتعبيرها هنا عن المسؤولية تجاه بحث مشكلات المجتمع. وهذا يفضي بكاتبنا إلى التساؤل عن فائدة المقاربات العلمية الإنسانية التي تتخطى مجرد تأليف كتاب أو إنتاج معارف تتجه إلى الزملاء والنخبة المختصة. فأين موقع العلوم الإنسانية في المجتمع العربي؟ هل هناك استعمالات عمومية للبحث هي استعمالات نافعة اجتماعياً؟. وقد قاده ذلك إلى التعرض للصلة بين العلوم الإنسانية ومفهوم «المثقف» الذي يكون من صميم همومه الانخراط في ترقية الحياة، وذلك بتمييزه عن «الأكاديمي» من جهة وعن «الخبير» من جهة أخرى.
ويستهل قسم الأبحاث في هذا العدد، بحث عبد الحق بلعابد عن «المنهج السوسيونقدي للنصوص الأدبية» وفيه يتعقب الباحث الأطوار المنهجية المتعاقبة في جهة الرؤية للعلاقة بين المجتمع والنص الأدبي، تلك الرؤية التي ابتدأت بما يسميه الباحث «نص المجتمع» حيث الحسبان لانعكاس المجتمع على النص، وانتهت إلى التركيز على ما يسميه «مجتمع النص» وهو ما يغدو المجتمع فيه ناتج تخييل وفعل سردي وإبداعي. ثم تأتي «تجليات العجائبي في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري» التي تختصها أسماء معيكل بالقراءة والتحليل، واصلةً بين المفهوم المنهجي الحديث لمصطلح «العجائبي» وحضوره في السرد العربي القديم. وبقدر ما نفذت الباحثة عبر تجليات العجائبي في «رسالة الغفران» إلى ما أضفاه عليها من الحيوية والانفتاح والخلود، فقد وقفت في الآن نفسه على ما تنشئه خاصية العجائبي في الرسالة من علاقة بطبيعة المتلقي وحمولاته الثقافية بما يؤدي إلى اختلاف مستمر في تلقي الرسالة. أما حسن منصور فيستهدف في بحثه المختص في حقل الإعلام الإلكتروني أو ما يسمى بـ»الإعلام الجديد» قياس مستويات الكفاءة والتفاعلية في المواقع الإلكترونية التابعة لوزارة الصحة السعودية، وصولاً إلى الكشف عن مستوى جودة الخدمة الإعلامية في هذه المواقع ومدى تحقيقها الرسالة الإعلامية المناطة بها. ومن حقل الشبكة العنكبوتية نفسه، لكن في سياق الخدمة الاجتماعية الإكلينيكية، يدرس عبد العزيز البريثن توظيف التقنية. فالخدمة الاجتماعية، فيما يرى، من التخصصات التي أعطت اهتمامًا خاصًا لتقنية الاتصال الشبكي، سواء في جانبها الأكاديمي (التعليم عن بعد)، والبحثي (جمع البيانات وتحليلها ونشر النتائج)، أم في جانب الممارسة المهنية. وهو يتخذ من الممارسة الإكلينيكية تحديداً، في علاقتها بالتقنية، موضوعاً لبحثه، الذي يبتغي به رصد سبل توظيف وسائل التقنية وأدواتها أثناء الممارسة الإكلينيكية مع العملاء. وفي البحث المشترك بين خالد الهديب وسعيد العنز، محاولة للتعرف على الأسباب ودراسة المعوقات التي تؤدي إلى عزوف الطلاب والأكاديميين عن الإفادة من قواعد البيانات الإلكترونية التي تقدمها مكتبة الجامعة.
أما في باب «مراجعات وقراءات» فيعرض عبد القار سلاّمي وخيرة شولي لمعجم ألفاظ القرآن الكريم الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وهو عرض يعرِّف بهذا الجهد الذي يضاف إلى جهود مجمع اللغة العربية بالقاهرة في التصنيف المعجمي، وذلك بتوصيف مميزاته وطرق تتبُّعه لألفاظ القرآن الكريم وشرح معانيها وقد سعى هذا العرض إلى التعريف به وبالظروف التي رافقت تأليفه مستعرضاً منهج المجمع فيه وبعضًا من مميزاته وخصائصه، والطرق التي اعتمدها في تتبّع ألفاظ القرآن الكريم وفي ترتيبها وشرح معانيها.
وفي غضون ذلك تحليل وتصويب واستدراك لبعض ما وقع فيه المعجم. وقد تضمن باب «تقارير» تقريراً عن ندوة « إدارة المخاطر الاجتماعية في السياسات الاجتماعية بدول مجلس التعاون» كتبه محمد نجيب بو طالب الذي شارك في الحضور إلى الندوة وتقديم إحدى أوراق عملها.
وفي قسم الرسائل الجامعية ملخص رسالة دكتوراة، في تخصص اللسانيات، مقدمة من أمل الراشد، إلى قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود. بحثت فيها دلالات خطاب الصمت في التواصل اللغوي ووظائفه. أما في القسم الإنجليزي، فهناك بحثان، أولهما لعبد اللطيف الخياط، عن «قوة الإمساك عن الكلام في رواية «قلب الظلام» للروائي الإنجليزي جوزف كونراد، أي ذلك الغموض الذي اتسمت به تلك الرواية بالإمساك عن أكثر التفاصيل والتوضيحات.
والباحث هنا يحلل وظيفة ذلك دلالياً ويقرأ معانيه الرمزية. وثانيهما لأيمن أبو شومر عن «تحامل هيمنة كانون الأدب الإنجليزي» وهو دراسة نقدية للكانون ضمن مؤسسات التعليم العالي في مجتمعات ما بعد الاستعمار عموماً والمؤسسات الأكاديمية الأردنية خصوصاً.
- الرياض