كنتُ في الجزء الأول من هذا المقال أتحدَّث عن الضعف الواضح الذي أصاب مناقشات الرسائل العلمية التي يُقدِّمها الباحثون في جامعاتنا السعودية، وتعجَّبتُ من عدم وجود حالات رفض لرسائل علمية بسبب عدم أهليتها، وعدم أهلية الطالب الذي قدَّمها، حيث لا يستحقُّ أن يمنح الدرجة العلمية المقصودة بالنظر إلى ضعف رسالته الواضح علمياً ومنهجياً، ونحو ذلك من الأسباب التي تُحتِّم على المناقش أن يعلن عدم إجازته للرسالة أمام الملأ.
إنَّ عدم وجود مثل هذه الحالات في المناقشات العلمية يفتح سؤالاً كبيراً مفاده: هل كلُّ ما يُقدَّم من رسائل في مختلف الجامعات وشتى التخصصات قد بلغ مرحلةً عاليةً من الإتقان والجودة؟ وهل كلُّ ما فيها يستحق أن يُجاز علمياً وأن يمنح لأجله الباحث درجةً علمية؟.. وإذا كان هذا صحيحاً فلماذا مستوى البحث العلمي في جامعاتنا يعاني من ضعفٍ واضح؟.. ولماذا جامعاتنا لا تحتلُّ مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية، حيث إنَّ جودة البحث العلمي تُعدُّ معياراً مهماً لهذا التصنيف؟.. ولماذا لا نشاهد أو نسمع بطلابٍ موهوبين تمكنوا من الوصول إلى العالمية وأسهموا في رقيِّ المجتمع من خلال بحوثهم العلمية؟
إنَّ نتائج المناقشات العلمية تؤكد أنَّ مثل هذه الحالات لا تكاد توجد، وهو ما يعني وجود خللٍ واضحٍ في هذه المناقشات، وهو خللٌ أساء إليها، وجعلها أشبه بإجراء إداريٍّ لا قيمة له، مما جعل الطالب يستخفُّ بمثل هذه المناقشات، ويعد حصوله على الدرجة العلمية مجرَّد وقتٍ لا أكثر، ما دام أنه قدَّم ورقاتٍ مجموعةً تحت اسم (رسالة علمية) الله أعلم بما فيها، أما المسرحية الهزلية التي تُدعى (مناقشة) فهي مجرَّد غطاء لكي يكون منحه الدرجة رسمياً لا أكثر.
وأعتقد أنَّ هناك أسباباً كثيرة لظهور المناقشات العلمية بهذه الصورة الضعيفة، يأتي في مُقدِّمتها عدم وعي المناقشين بأهمية ما يقومون به، وعدم إدراكهم أنَّ إقرارهم للنتيجة أياً كانت سيؤثر في مسيرة البحث العلمي في الوطن سلباً أو إيجاباً، فإن أجازوا رسالةً لا تستحقُّ أن تجاز فهم في الحقيقة يسمحون بإضافة فكرٍ مغلوطٍ وأسلوبٍ مهترئ إلى المكتبات، ويقرأها غير المتخصص فينخدع بما فيها، وإن منحوا درجةً علميةً لمن ليس أهلاً لها أضافوا إلى هذا المجتمع شخصاً جديداً غير مؤهل وضعيفاً في تخصصه، وغداً يدرس على يديه طلاب يأخذون عنه الترهات التي كان يهذي بها في رسالته، ولك أن تتخيل مستوى الجيل الذي سيتخرَّج على يديه، وبقية الأجيال الذين سيتخرَّجون على يد أمثاله من أصحاب الدرجات العلمية الذين حصلوا عليها بغير حق؛ بسبب مناقشٍ لم يعِ خطورة ما يفعل وهو يجيز رسالةً لا تستحقُّ الورق الذي كتبت به، ويمنح درجةً علميةً عاليةً لطالبٍ سيشرف غداً على طلابٍ آخرين، ولك أن تتخيَّل - مرَّةً أخرى - ما سينتجه هؤلاء على يدي باحثنا الموقَّر!!
ومن الأسباب التي تُظهِر المناقشات بهذه الصورة المخجلة المجاملات العلمية التي تحصل بين المناقشين والمشرف من جهة، أو تلك التي تكون بينهم والطالب من جهةٍ أخرى، خصوصاً حين يكون من منسوبي القسم، أو حين يكون أهله حاضرين، وفي هذه الحالات تطغى غالباً المجاملة المقيتة، وتتوارى العلمية والمنهجية، حيث يضطرُّ المناقش إلى مراعاة المشرف، والتقليل من حجم الأخطاء الفاضحة في الرسالة؛ لأنه لا يريد أن يخسر علاقته مع المشرف عليها، خصوصاًً مع علمه أنه سيجلس بجانبه غداً في مجلس القسم أو مجلس الكلية، فيضطرُّ إلى مجاملته من خلال الثناء غير المستحق على الرسالة، وربما يفعل بعضهم ذلك شعوراً منه أنَّ هذه المجاملة ستفيده فيما لو تبادلا الأدوار، وأصبح المشرف مناقشاً لرسالة هو يشرف عليها، وهي مجاملاتٌ علميةٌ مخزيةٌ مخجلةٌ يسعى أصحابها إلى تحقيق مصالحهم الخاصة على حساب العلم والثقافة والأمانة، ومثل ذلك حين يجامل المناقش الطالب، ويعتقد أنه بذلك يوثِّق علاقاته مع أعضاء القسم أو الدارسين، وهو لا يعلم أنه يخون الأمانة، ويعبث بالعلم، ويسهم في تأخر البحث العلمي في الوطن، وتشويه سمعته.
ثم إنَّ من أسباب ضعف المناقشات العلمية اعتقاد بعض المناقشين أنَّ المناقشة مجرَّد استعراضٍ للعضلات، حيث يرون زملاءهم حاضرين، فيحاولون أن يبينوا لهم مدى قدرتهم على المناقشة، وكيف أنهم قضوا وقتاً طويلاً في قراءة الرسالة، وكيف أنهم استطاعوا الوقوف على كلِّ هذه الأخطاء والمخالفات، وعند النتيجة تكون المفاجأة أنَّ الرسالة مجازة بأعلى تقدير مع التوصية بالطباعة، وحينها يتضح أنَّ ما شوهد في المناقشة هو مجرَّد استعراضٍ للعضلات لا أكثر، دون أن يُقصد منه تقويم الرسالة وتوجيه الطالب بتعديل ما يستحقُّ التعديل!
ومن أسباب ضعف المناقشات استسلام المناقشين للضعف العلمي والثقافي الذي يعاني منه كثيرٌ من الطلاب اليوم، ومن ثم نزول معيار الجودة عندهم، فتصبح الرسالة المتوسطة ممتازة ويُوصى بطباعته!.. وتصبح الرسالة الضعيفة مجازة مع بعض التعديل الطفيف، ومن عجيب ما رأيته في هذا السياق أنَّ بعض المناقشين أصبحوا يعدُّون الأمانة العلمية أو التوثيق الدقيق من مميزات الرسالة، وأنَّ تنوع المصادر أو قلة الأخطاء اللغوية والإملائية من أسباب تفوقها، وأعتقد أنَّ سبب ذلك انخفاض مستوى الجودة في الرسائل العلمية واستسلام المناقشين للضعف الذي تنضح به، ومن ثم يضطرهم ذلك إلى البحث عن أمور رئيسة وبدهية في الرسالة وعدِّها من المميزات!! ليست هذه الأسباب فقط، فالجزء القادم من هذه المقالة سيحمل البقية.
omar1401@gmail.com
- الرياض