هنا حوار نادر أجرته الصحافية ماري جيفسكي مع الزعيم السوفياتي المختفي عن الأنظار ميخائيل غورباتشوف، ونشر في 7 حزيران - يونيو 2010، في صحيفة «إندبندنت» اللندنية ونظراً إلى نشره على شكل مقالة، فقد وضعنا كلام غورباتشوف بين علامتي «تنصيص». وقد كتبنا سيرة موجزة للرجل قبل الحوار تحتوي على بعض الأمور المجهولة عنه كما نعتقد.
غورباتشوف: سيرة موجزة
ميخائيل سيرغيفيتش «غورباتشيف»، أو كما تنطق بالروسية بصورة دقيقة «غورباتشوف» هو زعيم سوفياتي سابق ولد في 2 آذار - مارس 1931، وقد شغل منصب الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي (أي إتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية USSR) من عام 1985 حتى عام 1991، وكان آخر رئيس للاتحاد السوفياتي من عام 1988 حتى تفككه عام 1991، والأمين العام الوحيد للحزب الشيوعي السوفياتي الذي ولد خلال الحكم الشيوعي.
ولد غورباتشوف في مدينة ستافروبول كراي في عائلة روسية-أوكرانية من الفلاحين، وعمل في مراهقته في تشغيل أجهزة جمع الحصاد في مزارع تعاونية. وتخرج في جامعة موسكو فعام 1955، بشهادة في القانون. وبينما كان في الجامعة، انضم إلى الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي، وأصبح نشطاً للغاية في الحزب حتى تم تعيينه عام 1970، كأول أمين عام للحزب في منطقة ستافروبول كرياكوم الفيدرالية، ثم أصبح سكرتير أول لمجلس السوفيات الأعلى في عام 1974، وعيَّن عضواً في المكتب السياسي في عام 1979؛ وفي غضون ثلاث سنوات من وفاة ثلاثة من القادة السوفيات العجائز: ليونيد بريجينيف (تـوفي عام 1982 عن 75 عاماً)؛ ثم يوري أندروبوف (تـوفي عام 1984 عن 69 عاماً)؛ وأخيراً قسطنطين تشيرنينكو (تـوفي عام 1985 عن 73 عاماً)، انتخب ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف الذي كان وقتها عمره 54 عاماً فقط كأمين عام للمكتب السياسي في عام 1985م.
تمحورت سياسته الإصلاحية حول فكرتين. الفكرة الأولى، «البيريسترويكا»، وتعني «إعادة البناء» وهي برنامج للإصلاحات الاقتصادية يهدف إلى إعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفياتى ليبتعد عن سيطرة الدولة ويتبع اقتصاد السوق الحر. أما الفكرة الثانية، «الغلاسنوست»، والتي تعني الشفافية. أدت الفكرتين معاً إلي انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه عام 1991، ما أدى بدوره - وياللأسف- إلى وقوع أكبر كارثة سياسية إستراتيجية في العصر الحديث، أي انهيار نظام القطبين (الاتحاد السوفياتي ضد الولايات المتحدة) وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة والتلاعب في العالم كما تشاء. ولعل هذا هو السبب الحقيقي للتقدير الذي يجده غورباتشوف في الغرب حتى الآن كما سنشرح. أدت محاولات غورباتشوف في الإصلاح وكذلك مؤتمرات القمة مع رئيس الولايات المتحدة رونالد ريغان، وإعادة توجيهه للاستراتيجية السوفياتية إلى نهاية الحرب الباردة، ونهاية السيادة السياسية للحزب الشيوعي داخل الاتحاد السوفياتي، وبالتالي إلى تفكك وانحلال الاتحاد السوفياتي. ونظير هذه الجهود التي خدمت مصالح المعسكر الرأسمالي، حصل جوائز غربية غير مسبوقة لسياسي فرد من حيث الكيف والكم مثل: ميدالية أوتو هان الألمانية الرفيعة للسلام في عام 1989؛ ثم جائزة نوبل للسلام في عام 1990؛ ثم جائزة هارفي الإسرائيلية الرفيعة في عام 1992؛ وكذلك على عدد من درجات الدكتوراه الفخرية من جامعة كالغاري الكندية في عام 1993، وجامعة درم الإنكليزية في عام 1995، وكلية ترينيتي الأيرلندية في عام 2002، وجامعة مونستر الألمانية في عام 2005، وكلية يوريكا الأمريكية في عام 2009م.
وفي أيلول-سبتمبر 2008، أعلن غورباتشوف ورجل الأعمال الروسي الملياردير ألكسندر ليبيديف أنهما سيؤسسان حزباً سياسياً «الحزب الروسي الديمقراطي المستقل»؛ وفي أيار-مايو 2009، أعلن غورباتشوف أن إطلاق الحزب أصبح وشيكاً. وكانت هذه محاولة غورباتشوف الثالثة لإنشاء حزب سياسي، بعد أن بدأ بالحزب الاشتراكي الديمقراطي في روسيا في عام 2001، ثم إتحاد الديمقراطيين- الاجتماعيين في عام 2007م.
هل آمن بالله أخيراً؟!!
كان غورباتشوف قد عُمِّدَ في الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية وهو طفل. ولكن في نهاية مقابلة تلفزيونية مع قناة سي سبان (CSPAN) الأمريكية في تشرين الثاني-نوفمبر 1996، بمناسبة صدور الترجمة الإنكليزية لمذكراته، تحدث غورباتشوف عن خططه المستقبلية للكتب وذكر كلمة (الله) إعلامياً لأول مرة في حياته بعد بروزه سياسيا: «لا أعرف كم سنة سيمنحني الله لأعيش أو ما خططه لمستقبلي؟».
وبعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني في عام 2005، وصف غورباتشوف البابا الراحل قائلاً: «إن إخلاصه لأتباعه هو مثال رائع لنا جميعاً. ماذا يمكنني أن أقول، إنها مشيئة الله وكان الراحل يتصف بالشجاعة حقاً». في لقاء له مع البابا عام 1989، قال غورباتشوف له: «نحن نقدر رسالتكم ومقتنعون أنكم ستتركون بصمة كبيرة في التاريخ».
في 19 آذار- مارس 2008، خلال زيارة مفاجئة للصلاة على قبر القديس فرنسيس في أسيزي، إيطاليا، صرح غورباتشوف للإعلام بكلام تم تفسيره بأنه آمن بالله فعلاً وأصبح مسيحياً حيث قال إن «القديس فرانسيس هو، بالنسبة إلي، المسيح البديل، إنه مسيح آخر. قصته تسحرني، وأدت دوراً أساسياً في حياتي». وأضاف: «من خلال القديس فرانسيس وصلت إلى الكنيسة، لذلك من المهم أن أزور قبره».
ولكن مهلا...
ولكن بعد بضعة أيام، قال غورباتشوف لوكالة الأنباء الروسية إنترفاكس: «في الأيام القليلة الماضية رددت بعض وسائل الإعلام بعض «الأوهام الفانتازية» بخصوص معتقداتي. ولا يمكن وصف ما تردد بغير «أوهام فانتازية»، وبإيجاز ولتجنب أي سوء فهم اسمحوا لي أن أقول إنني كنت وسأبقى ملحداً»!!!
والكنيسة ترد...
ورداً على ذلك، قال متحدث باسم بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية لوسائل الإعلام الروسية: «في إيطاليا، تحدث غورباتشوف بعاطفة وليس بإيمان. ولكنه بالتأكيد في طريقه إلى المسيحية. وإذا وصل، فسوف نرحب به بكل حرارة».
الثمانون في لندن
وأقام مجموعة من أصدقاء الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف في الغرب، حفلة عيد ميلاد وتكريم رفيعة خاصة بعيد ميلاده الثمانين في 2 آذار-مارس 2011، بقاعة رويال ألبرت الشهيرة في لندن بمناسبة إنجازاته واحتفالاً بـ «الرجل الذي غيَّر العالم» بحسب شعار الحفلة. وتلقى غورباتشوف بطاقة تهنئة من منظمي الحفلة كتب فيها:
عزيزنا ميخائيل سيرغيفيتش!
فريق «غوربي-80» يهنئك من القلب في عيد ميلادك. نتمنى لك جميعاً طول العمر والصحة الجيدة. ونحن جميعا حقاً ممتنون ليس من أجل التغييرات التي حدثت في حياتنا بسبب جهودك التي بذلتها فحسب، ولكن لنبل وصدق وإنسانية نشاطاتك في كل من المجالات السياسية والعامة. وإنه لمن دواعي الشرف لنا العمل معكم في مشروعاتكم الخيرية،
المخلصون
فريق «غوربي-80»
انتهت المقدمة والآن مع الحوار:
الحوار
مضى تقريباً 19 عاماً منذ أعلن ميخائيل غورباتشوف استقالته من منصب الرئيس، وبالتالي، تفكك الاتحاد السوفياتي. ولكن حتى بعد كل هذه السنوات، وكل ما حدث خلالهما، لا يزال هناك شيء مدهش ورائع بخصوص تحية ميخائيل غورباتشوف وقيامه برد التحية إليك من جناح فندقه اللندني المضاء بالشمس. إنه أثقل قليلاً الآن، وأقل رشاقة مما كان عليه، وتبدو عليه لمحة من التعب الذي رأيته عليه للمرة الأولى لدى عودته إلى موسكو بعد أن نجا من محاولة انقلاب ضده في آب-أغسطس 1991.
كيف تغيرت الأمور! «فوروس»، المنتجع الصغير والجميل في القرم حيث تم وضعه تحت الإقامة الجبرية من قبل المتآمرين أصبح الآن في دولة أوكرانيا التي انفصلت عن الإتحاد السوفياتي. وفي الوقت نفسه، لا يزال غورباتشوف يملك تلك الخصائص الجميلة: العيون العطوفة، والنظرة المباشرة لمن أمامه والسلوك المهذب وهي الخصائص التي أضفت على سنوات الشيوعية السوفياتية الأخيرة وجهها الإنساني، ولا يزال هناك كراهية أن تتم مقاطعته أثناء الكلام والتي أذكرها جيداً بعد قضائي ساعات طويلة في مؤتمرات الحزب الشيوعي والبرلمان السوفياتي. ولم يخطئ وزير الخارجية السوفيتية الراحل أندريه غروميكو، عندما وصف غورباتشوف ساخراً: «ابتسامة لطيفة ولكن أسنان حديد»!!
كان الزعيم السوفياتي السابق في لندن لأجل حدث بات مثل الحج السنوي: الاجتماع الصيفي للمؤسسة الخيرية التي أسسها لذكرى زوجته الراحلة: رايسا. التي تمول علاج الأطفال المصابين بالسرطان. رايسا، التي توفيت بسرطان الدم في عام 1999، أثارت الجدل في الاتحاد السوفياتي لكونها أول امرأة سوفياتية تحمل لقب «السيدة الأولى» على الطريقة الأمريكية، وكذلك لكون خزانة ملابسها عصرية، في الوقت الذي كانت معظم نساء الاتحاد السوفياتي يواجهن ندرة في اختيار الملابس. ولكنها أيضاً استخدمت موقعها لتشجيع فكرة العمل التطوعي في بلد كان من المفترض أن تتمكن الدولة من جعل العمل الخيري لا لزوم له. كما تبنت قضايا اجتماعية وإنسانية عديدة.
التقى الزوجان في جامعة موسكو ولم يبتعدا عن بعضهما كثيراً منذ ذلك الحين، وهو أمر غير عادي في أرض الزواج المبكر والطلاق المبكر. وفاتها، بعد معاناة مع المرض دامت عدة سنوات، تركت غورباتشوف وحيداً ومفجوعاً. إنه يعيش في موسكو، ولم يتزوج، ويجد عزاءه مع ابنته وحفيداته. لا يمكن إقناعه ليتحدث عن رايسا، باستثناء لمحة عابرة في سياق الأعمال الخيرية.
لقد كان في مزاج سياسي جيد ويكثر من تبرير الذات، ربما لحديثي عن أنني كنت مراسلة في موسكو عندما كان الاتحاد السوفياتي ينهار وقرب الذكريات السنوية والشخصية المتصلة بذلك الحدث التي تتزامن مع هذه السنة (2010): الذكرى الـ 25 لوصوله إلى زعامة الاتحاد السوفياتي وكمهندس البريسترويكا، والذكرى الـ 30 لقبوله كعضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، والذكرى الـ 20 على تنصيبه كأول رئيس تنفيذي للاتحاد السوفياتي، وأيضاً الذكرى الـ 20 على حصوله على جائزة نوبل للسلام.
انطلق مباشرة إلى الإجابة عن سؤال لم أكن قد سألته: كيف يوفق بين عضويته الطويلة في الحزب الشيوعي مع اعتناقه الديمقراطية لاحقاً؟ قال: «أنا ديمقراطي»، وأضاف: «اشتراكي ديمقراطي» تحديداً. لقد انضم إلى الحزب عندما كان في المدرسة، معتقداً أن الشيوعية تيار عظيم من الفكر العالمي. سأل والده ما إذا كان ينبغي أن ينضم إلى الحزب، وكان والده - الذي عاد لتوه من الحرب - عضواً قديماً في الحزب القديم، مثل جده لأمه، وكلاهما قالا: نعم. وتم ترشيحه للعضوية، ولكن، كما يضيف، «كنت شخصاً مختلفاً وقتها».
لقد كان، على الرغم من كونه في السابعة والتسعين (وقت الحوار عام 2010)، طموحاً ومتحمساً، وينخرط في كل المجالات. صعوده، كما يلخصه الآن، كان بلا مجهود خارق تقريباً. «دخلت لأول مرة الكومسومول (الذراع الشبابي للحزب)، ثم انتقلت إلى السياسة الخالصة، ثم السياسة العميقة، ثم وصلت بعد ذلك إلى القمة».
ومثل الكثير من المصلحين السوفيات والروس، يرجع غورباتشوف أول تغيير رئيس في فكره لشجب خروشوف لستالين عام 1956، والذوبان الثقافي الذي أعقب ذلك. يقول إنه انجذب إلى صفوف جيل الستينيات الروسي الذي يتوق للتغيير، واستنتج أن الإصلاح الجاد لم يكن مسألة «تغيير أشخاص بل تغيير نظام».
نواصل بقية الحوار في الأسبوع القادم بحول الله
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب