Culture Magazine Thursday  16/02/2012 G Issue 363
كتب
الخميس 24 ,ربيع الاول 1433   العدد  363
 
كتاب جديد عن (الحج)
رسومات الحج:فن التعبير الشعبي المصري عن الرحلة المقدسة
سليمان الوائل اليحيى

 

لا شك أن أهم ما يفخر به السعوديون هو تشرفهم بخدمة الحرمين الشريفين، ولا شك إن اعتزازهم بهذا التشريف يسبق فخرهم بما حباهم الله به من نعم أخرى: (هذا الوطن الكبير الشبيه بالقارة بكل تضاريسه الجغرافية وتاريخه العريق، وهولاء الرجال والنساء الأوفياء لوطنهم الذي بذلوا ويبذلون من أجله مُهجهم محبةً له ودفاعاً عن حياضه، وهذه الثروات الزراعية والحيوانية والطبيعة الممتدة على أراضي ووديان وجبال وطنهم من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه بما فيها البترول الذي يلبي جزءاً كبيراً من احتياجات معظم دول العالم من الطاقة).

وانطلاقاً من هذا الاعتزاز فإنهم يفرحون بكل ما يقع تحت أيديهم عن بلادهم، وبالذات عن (الحرمين الشريفين) وما يتعلق بهما من كتب وبحوث ودراسات، خاصة إذا كان مؤلفوها من غير المسلمين، وبالذات إذا كانوا من المؤلفين الغربيين.. وهذا ما دعى المركز القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة المصرية لترجمة كتاب (Hajj Paintings: Flok Art Of The Great Pilgrimage رسومات الحج: فن التعبير الشعبي المصري عن الرحلة المقدسة، تصوير آن باركر وتحرير أفون نيل)، العدد 1495 من إصدارات المركز، ترجمة حسن عبدربه المصري، الطبعة الأولى، 2010م، 200 صفحة من القطع الكبير والورق « الكوشيه « الخاص بالصور.

يتضمن الكتاب رصداً لانطباعات الحجاج المصريين العائدين من رحلة الحج، وذلك من خلال رسومات يدوية على جدران غرفهم أو على الحوائط الخارجية لمنازلهم تخليداً لهذه المناسبة.

ويستمتعُ قارئ الكتاب بما يطلع عليه من رسومات بدائية تعكس سعادة هؤلاء الحجاج بإنجاز هذا الحلم الكبير، بل الحدث الأهم في حياة معظمهم، خاصة الفقراء من الفلاحين والعمال في مختلف القرى المصرية، بل إن ما يزيد متعة القارئ المسلم لهذا الكتاب هو تفهم ( المصورة الفوتوغرافية الأمريكية ومحرر الكتاب: زوجها المتخصص في الفنون الشعبية العالمية، وكاتب التقديم الدكتور فيرنا) لهذه الشعيرة الهامة عند المسلمين وإنصافهم لها، وعدم ذكرهم لما يجرح شعور المسلمين (مثلما يفعل بعض الكتاب الغربيين حين يتناولون الشؤون العربية أو الإسلامية عبر الكتب أو المقالات الصحفية أو المحاضرات أوالندوات).

ونظراً لمحدودية المساحة المخصصة لهذه القراءة فلن أتمكن من عرض صور الكتاب البالغة 157 صورة، بل سأكتفي بمقتطفات مختصرة (وبتصرف تقتضيه طبيعة القراءة) من تقديم الدكتور فيرنا وتمهيد المصورة ومقدمة المحرر مما يعطي القارئ فكرة عن الكتاب، مع التركيز على ما ذكره المحرر عن جهود الحكومة السعودية في تسهيل أمور الحج (باعتبار أن ما يكتبه كاتب غربي منصف عن بلادنا يثلج صدر كل سعودي).

يبدأ الكتاب بتنويه المركز القومي للترجمة: (يهدف المركز إلى تعريف القارئ العربي بوجهات نظر الكتاب الأجانب عند معالجتهم للشؤون العربية، والتي تتضمن اجتهادات أصحابها وثقافتهم، وبالتالي فهي لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز).

ثم تقديم بقلم الدكتور روبرت فيرنا الأستاذ بجامعة تكساس المتضمن: (لابد أن نأخذ في الاعتبار من البداية أن رحلة الحج إلى مكة المكرمة تُعد من أعظم التجارب في حياة المسلم، لأنها تعتبر إنجازاً لشعيرة يحض عليها القرآن الكريم بشرط ألا يترتب على القيام بها مصاعب أو مضار تنعكس سلباً على أسرة الفرد الذي عزم على القيام بها، لهذا يقوم غالبية المسلمين برحلتهم هذه - عادة - في أواخر سنوات عمرهم عندما تكون ظروف الأسرة المالية قد أصبحت أكثر يسراً واستقراراً وأمناً، وقد شرح عالم الإنسانيات الدكتور فيكتور تيرز التغيرات الطبيعية التي يتعرض لها الحاج عقب قيامه بهذه التجربة مشيراً إلى نوعية المشاعر التي يترتب عليها والمكانة الاستثنائية التي يحظى بها الحاج مظهرياً واجتماعياً عبر الزمان والمكان، كما أن تجربة الحج تمنحُ من أدوها إحساساً متجدداً بمكانتهم الاجتماعية.. ومن هنا جاء حرص العائدين من رحلة الحج على تخليد هذه التجربة الفريدة بالنسبة لهم برسومات تعكس - من وجهة نظر مبدعيها وفقاً لما تفرضه مفردات الثقافة الشرقية - عرضاً واقعياً لمدى التغير الذي لحق بحياة الحاج أمام الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران، وذلك لأن تقليد إبداع الرسومات التي تعبر عن أروع اللحظات في حياة الأفراد مظهر قديم من مظاهر الحياة في وادي النيل، وربما يكون التعبير عن تجربة روحية - عن طريق رسم مشهد من مشاهدها فوق جدران منزل أحدهم - أمراً غريباً عند أبناء المجتمعات الأخرى، ومع ذلك فإنا نرحب بهذه المجموعة من الرسومات التي تعكس عمق الإخلاص الديني لدى الذين رُسمت من أجلهم، كما أنها توضح مقدار الموهبة التي يتمتع بها الفنانون الفطريون الذين رسموها.. إن اهتمامنا الإنساني يفرض علينا أن نشارك المجتمعات الأخرى تجاربها الثقافية التي تعكس الأحداث المهمة في حياة أفرادها، ومن الملاحظ أن الرحلة المقدسة إلى مكة المكرمة تضفي بهجة على الملايين وتشكل حلماً لدى ملايين آخرين، لذلك لا عجب أن تعبر هذه الرسومات عن سبيل من سبل المشاركة في التعبير عن رحلة الحج).

ويعلق المترجم على هذه المقدمة بقوله: (على الرغم مما ذكره الدكتور روبرت فيرنا في مقدمته عن كبر سن الحجاج بصفة عامة، إلا أننا نلاحظ أن شريحة من متوسطي العمر من الرجال والنساء يتوافر لديهم المال اللازم للقيام برحلة الحج، كما نلاحظ أن أفراد بعض الأسر في المجتمعات الإسلامية يقومون لسنوات طويلة بإدخار جزء من دخلهم حتى يتمكنوا من تحويل حلم السفر إلى مكة المكرمة إلى حقيقة ).

أما المصورة آن باركر فتقول: (لدي ملاحظة توضيحية ربما تساعد القارئ على تفهم مدى افتتاني برسومات الحج التي أبدعها الفنان الشعبي المصري، وهي أن هذا الإبداع قادر بذاته على أن يفسر أبعاد مثابرتي على استكشاف العديد من المدن والقرى وحتى التجمعات المعزولة على امتداد نهر النيل وعبر أراضي الدلتا وعلى ساحل البحر الأحمر وداخل صحراء سيناء، ففي المرة الأولى التي لمحت فيها عيني - بنظرة خاطفة عبر نافذة القطار - رسماً من هذه النوعية كانت عندما سافرتُ من القاهرة إلى أسوان عام 1985م.. لقد بُهت بمرأى هذا الجمال البسيط المفعم بالحياة والذي يتحدى الزمن فوق حائط بيت من بيوت قرى الريف المصري النائية، وبعدما تعرفت على القوة الدافعة التي تقف وراء هذه الرسومات، لم أستطع مقاومة نداء داخلي بتعريف العالم الخارجي بها، لقد اقتنعتُ بأنها فن تقليدي شعبي له تاريخ استثنائي، فهي تخليد لشعيرة الحج أو رحلة الزيارة المقدسة إلى مكة المشرفة.. وبعدما توسع البحث لاحظت أن لدي كنزاً من الصور يفوق بمراحل كل توقعاتي، ولاشك أن تسجيل اللوحات التي تُعبر عن التقاليد الشعبية يثير شهية الباحث بطبيعته، لذا كلما غاص الدارس في عمق الموضوع وجَدَ الفن ذاته يواصل تعميق رسالته... غني عن القول أني تعرضت لمعوقات لا حصر لها مما يثبط الهمة: موقع مصر البعيد نسبياً عن موطني (أمريكا)، تكاليف الرحلة التي يصعب أحياناً توفيرها، محاصرة الوقت أمام مهمة كثيرة التعقيد، إلى جانب أن الترحال عبر الريف المصري ليس أمراً سهلاً: درجة حرارة الشمس الموجعة، ذرات التراب وحبيبات الرمال التي تغطي كل شيء مما يتطلب توفير أقصى حماية لأجهزة التصوير، حواجز اللغة، كما أني لاحظت ندرة رسومات الحج على حوائط بعض المنازل في عدد من أقاليم مصر مما حيرني كثيراً قبل أن أكتشف لاحقاً أن بعض هذه القرى يسكنها غالبية من المسيحيين..

لاشك أن المصورة أدت جهداً عظيماً لا يتحمله إلا عاشق مولع بما يقوم به، ولنا أن نتصور كمية الإحباطات التي تجابه امرأة غربية تتنقل بكاميراتها بين بيوت قرى صعيد مصر تحت وهج الشمس الحارقة وحبيبات الرمال المزعجة، إلى جانب عدم تفهم المحيطين بها لما تقوم به من إنجاز سيخلدهم في كتب الفن العالمي.. وأرجو أن يتلمس القارئ معي الأبعاد الإنسانية الشفافة والروح الشاعرة لديها عندما تقول: (أذكر أنه عندما اشتدت علي - في أحد أيام الصيف - حرارة شمس الصعيد الحارقة، وجدت نفسي مدفوعة دفعاً لأن أجسد لحظة انحسار الشمس شديدة الحمرة وراء الأفق، فنحيت جانباً كاميرات التصوير وأوراق التدوين واسترخيتُ متأملةً الطبيعة حولي، وبقيت على ذلك حتى صباح اليوم التالي)، أو عندما تصف أحداث أحد أيامها في صعيد مصر: (كلما اقتربت من إحدى القرى أحاطت بنا كتل من الزحام آتية من كل مكان، وفجأة أجد الكثير من الأيدي الصغيرة ممدودة لكي تساعدني على السير عبر الطرق الضيقة، وأسمع الصيحات تعلن عن وصول أحد الغرباء، وألمح النسوة الواقفات في الظل يهمسن موجهات الدعوة لي لكي أقبل منهن كوب الشاي التقليدي شديد الحلاوة شديد السواد، وسرعان ما أحس أني داخل عباءة من الود، أما الأطفال فإنهم من شدة الخوف أن يطردوا بعيداً عن المكان بسبب ما يحدثونه من شغب، فإنك ترى جمعهم الغفير المتراص يحملق في صمت خلف النوافذ المفتوحة حتى لا تفوتهم أي بادرة)، (لقد التقطت آلاف الصور لرسومات عديدة تتضمن مشاهد للكعبة وللأمكنة التي يزورها الحاج استكمالاً لأركان الفريضة، ولكني لم أعثر إلا على رسم واحد لحاج يرمي الجمرات مما يعني أن فناناً شعبياً واحداً تفرد برسم يحكي قصة آدم وحواء)، (وعلى الرغم مما تعرضنا له من تجارب قاسية ومحن كثيرة كان هناك التعويض المفرح، فليس هناك أكثر إثارةً للأحاسيس من مشاهدة مجموعة من المنازل التي تزينها جداريات الحج، مما يؤكد أن الثراء الإنساني الممتد على طول نهر النيل لا مثيل له، أما ضيافة المصريين للغرباء فلا تُقدر بثمن، خصوصاً عندما تتلاشى بسببها المواقف المحبطة ولحظات الإرهاق التي كادت أن تعوق مسيرة العمل الذي أقوم به)، وتختم تمهيدها بقولها: (إذا أذهلت هذه الصور القارئ، أو بعثت في نفسه السرور، أو أرشدته إلى معرفة شي جديد، أو جعلته يتفهم بعمق أكبر فلسفة فن تزيين بيوت الحجاج، فسأدرك حينها أن هدفي من وراء كشف النقاب عن هذا الكنز قد تحقق).

ومع أن الكتاب لا يشير إلى ديانة المحرر، إلا أن القارئ يلاحظ أنه تحدث عن تفاصيل هذه الفريضة وكأنه خريج أحد الجامعات الإسلامية، فقد أسهب في مقدمة طويلة عن الإسلام وأركانه وفريضة الحج ومكانتها لدى المسلمين في جميع أنحاء المعمورة مركزاً على عناية حكومة المملكة العربية السعودية بها وجهودها الجبارة لتسهيل مهمة الحجاج.

ورغم أن المعلومات الواردة في هذه المقدمة معروفة للقارئ السعودي، إلا أني سأورد هنا عدداً من فقراتها لإطلاعه على ما كتبه باحث أمريكي منصف عن بلادنا في النصف الأول من تسعينات القرن الميلادي الماضي.

يبدأ المحرر مقدمته الطويلة (30 صفحة) في تعريف قراء الكتاب من غير المسلمين بالإسلام وأركانه قائلاً: ( الإسلام في اللغة العربية هو « الخضوع لله «، وهو وصف دقيق لمعتنق الدين الإسلامي، فالمسلم الورع يسلم حياته كلها لله، ويلزم نفسه بأركان الإسلام الخمسة، والتي توفر - منذ القرن السابع الميلادي - الإرشادات الدينية لأكثر من بليون مسلم حول العالم وتمدهم بالغذاء والروحي الذي يضمهم معاً جنباً إلى جنب، أما الركن الخامس « الحج « فيعني سفر المسلم إلى مكة المكرمة حيث ولد رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) وتنزل عليه أول الوحي، وحيث توجد الكعبة في بيت الله الحرام الذي يعد المكان الأكثر تقديساً لدى المسلمين جميعاً، ولهذا تعد مكة المركز الروحي للإسلام، لذلك لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أن حلم كل مسلم أن يؤدي فريضة الحج، فترى جموعاً من المسلمين يتقاطرون إلى هذا المكان الأكثر تقديساً بأعداد هائلة تحكمهم جميعاً شعائر أداء الركن الخامس التي يتبعونها بكل دقة، إنها شعائر تعيد تأكيد حقيقة إيمانهم وتطهر أرواحهم وتلزمهم بمقام العباد المخلصين من أبنا الأمة الإسلامية.

كانت العقبات الجسام تكتنف رحلة الحج بصفة عامة حتى أوائل القرن العشرين، خاصة مهاجمة قطاع الطرق لهذه القوافل، وكانت رحلة الحج تستغرق لدى البعض عدة أشهر، وقد تصل إلى سنة كاملة للقادمين من بلدان بعيدة، لذا لا غرابة أن نجد أن عدد الحجاج كان يتجاوز بالكاد المائة ألف حاج، أما الآن فإن أعدادهم تصل المليوني حاج ( يذكر المترجم في الهامش أن الإحصاءات الرسمية السعودية للحجاج عام 2006م توضح أن عدد حجاج الخارج 1.557.447، وحجاج الداخل 573.147 أي ما مجموعه 2.130594 حاجاً).

طرق الحج: ظلت طرق الجزيرة العربية الملتوية تعيق التواصل بين نقاطها الرئيسية حتى وقت قريب حينما حدثت النقلة الحضارية التي شهدتها خارطة الطرق البرية في المملكة فشيدت شبكة الطرق السريعة التي تشمل السعودية كلها، مما سهل على الحجاج المتجهين إلى مكة سُبل الوصول إليها عن طريق البر، أما الحجاج القادمون عن الطريق الجو، فإن معظمهم يصل عن طريق مطار جدة الحديث الضخم الذي يعمل على مدار الساعة طوال أيام السنة، ويستقبل خلال موسم الحج أكثر من 300 رحلة يومياً حيث يتم إنهاء إجراءات دخول 50 ألف حاج يومياً بمعدل 2000 حاج كل ساعة أي ما يعادل 340 حاجاً كل دقيقة.

تشهد أراضي الحجاز كلها بالجهد الذي بذله الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أجل إعلاء كلمة الحق منذ أن كلف بالرسالة حتى لقي وجه ربه، ولكن لمكة والمدينة أهمية خاصة لدى حكومة المملكة العربية السعودية التي بدأت عنايتها بهما منذ بداية عشرينات القرن العشرين (1)، وما زالا يحظيان بدعم مالي كبير من قبل الحكومة السعودية، وما كان يعد في الماضي البعيد ضغطاً يسبب الفوضى أصبح اليوم نظاماً صارماً تديره مؤسسات حكومية مسؤولة مما خفف وطأة الكثير من المشاكل وأسهم في حل ما يطرأ من شكاوي، الأمر الذي يدعو للإعجاب، فشعائر الحج تتم بسهولة على الرغم من أعداد الحجاج الهائلة ونشاطاتهم المتتابعة وتنقلاتهم المتتالية، لكن العجب يختفي عندما نعرف أن أقل التفاصيل شأناً في برنامج الحج يجري تنظيمها بدقة شديدة من جانب السلطات السعودية، مما أضفى على « خطوات أداء الحج « ضبطاً استثنائياً لكل مراحلها حتى مسؤولية إرشاد الحجاج لأهمية الالتزام بما جاء في القرآن الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم).. هذا إلى جانب التخطيط المسبق على مدار الساعة لمتابعة مئات التفاصيل المتعلقة بأمور عمليه مثل: توافر أماكن الإقامة، توافر المواد الغذائية، سهولة تقديم المساعدات العلاجية، كفاية وسائل النقل، نظافة دورات المياه،... إلخ، سعياً وراء تلبية الحاجات الروحانية لكل مجموعة حجاج على حده.

المواصلات: يقطع الحاج المسافة بين جدة ومكة في أقل من ساعة، بعد أن كان يقطعها الحاج فوق الجمل أو الحصان في يوم وليلة.. لا زالت ذاكرة الماضي القريب تحمل في طياتها صورة صفحة الصحراء القاسية التي تغضن وجهها بطوابير طويلة من الإبل ذات الأحمال الثقيلة، تتهادى بتصميم في اتجاه الأماكن المقدسة، تتبعها هبات التراب الحلزونية التي تتصاعد في إثر مشية خفافها التي تخترق سكون الصحراء الساخن.. أما الآن.. فإن الحكومة السعودية تتولى تنظيم الحج ورحلات الحجاج الداخلية بشكل منظم عبر العديد من المهندسين المدنيين ومخططي حركة المرور، ويتولى ضباط شرطة مدربون مراقبة تدفق سيارات نقل الحجاج مقدمين مجهودات رائعة، وقد دفعت ضرورات الحج الحكومة السعودية إلى شق اثنى عشر طريقاً موازياً عبر الوادي غير المستوي بين مكة وعرفات لاستيعاب حركة تنقل الحجاج، ولنا أن نتخيل كيف يمكن لما لا يقل عن 120.000 مركبة أن تتحرك في وقت محدد بعد غروب شمس يوم عرفة منطلقة منها (وفق ما تقتضي السنة النبوية من أن على هذه الجموع مغادرة عرفات بمجرد غروب الشمس) متجهة نحو مزدلفة ثم إلى مدينة الخيام (منى) حيث أقامت الحكومة السعودية الخيام لإقامة نحو مليوني حاج، وقد أقيمت الخيام بنظام محدد بهدف توفير الملاذ المريح المؤقت للآلاف المؤلفة من الحجاج، فيتحول الوادي وسفوح جبال منى إلى بحر من الخيام البيضاء الممتدة في كل اتجاه بلا نهاية.

عرفات ومنى: الوقوف بعرفات هو قمة شعائر الحج كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) من منتصف النهار حتى غروب الشمس، الرجال حاسروا الرؤوس والنساء محتشمات، والكل يمدون أيديهم إلى السماء ضارعين متوسلين، ويصل الحاج هنا إلى ذروة تجلياته الروحانية معاهداً الله على إخلاص النية ومؤكداً حقيقة إيمانه.. ويسترجع كل واحد من هذا الحشد الهائل من الحجاج الذين يصل عددهم إلى نحو مليوني حاج وقفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نفس المكان وهو يلقي على المسلمين آخر وصاياه فيما عُرف فيما بعد ( بخطبة الوداع).. وما إن تغرب شمس ذلك اليوم إيذاناً بانتهاء شعيرة الوقوف بعرفات حتى يتجه الحجاج إلى مزدلفة، وسرعان ما تتحول الأرض المنبسطة بينهما إلى ساحة مزدحمة رغم الطرق العديدة التي شقتها باقتدار الحكومة السعودية.. ومن مزدلفة إلى منى، وبها يرمي الحاج الجمرات، وتعبر هذه الشعيرة عن رفض الإنسان للغواية وترمز للصراع بين البشر والشيطان، وعلى الرغم من الترتيبات التي تبذلها السلطات السعودية للحد من مظاهر الازدحام أو خروج بعض الحجاج عن المألوف تعبيراً عن هذا الرفض، إلا أن حالة الإثارة تتولد بسرعة لدى البعض منهم لتعكس رغبتهم القوية في قطع كل صلة لهم بالشر وتعبر عن الاستعداد القوي لفتح صفحة جديدة مع الله.

ويخصص اليوم العاشر من شهر ذي الحجة لذبح الأضحيات، لهذا السبب تستورد الحكومة السعودية أعداداً هائلة من الأغنام والجمال وتوفر أعداداً من الجزارين، كما أقيمت الثلاجات الكبيرة لحفظ تلال اللحوم الفائضة بهدف تجميدها وإرسالها فيما بعد إلى التجمعات الإسلامية الفقيرة حول العالم.

الكعبة: في وسط باحة المسجد الحرام تقف الكعبة شامخة ببنائها الأثري الفريد، ويُغطى هذا الصرح الشامخ كل عام بغطاء جديد هائل من الأقمشة السوداء مطرز بزخارف زاهية الألوان تُشاهد فوق واجهاتها الأربع، أما الكلمات المنسوجة عليها بخطوط ذهبية فمأخوذة من القرآن الكريم، وفي كل عام يتم إزاحة الكسوة القديمة من على هذا البنيان المقدس ثم غسله من الداخل والخارج من قبل أصحاب المنزلة الرفيعة في المجتمع السعودي، ثم تسدل عليه الكسوة الجديدة.

بعد أن يتم الحاج طوافه حول الكعبة يتجه لأداء شعيرة السعي وذلك محاكاة للسيدة هاجر عندما كانت تبحث ملتاعةً جيئة وذهاباً عن مصدر للماء يطفئ ظمأ ابنها إسماعيل.. هذا المكان الذي كان على زمن السيدة هاجر صحراء حارقة أصبح اليوم فسيحاً يعلوه سقف مرتفع يسمح بمرور موجات الهواء البارد، وتحولت رماله إلى ممر غطيت أرضيته بالرخام، وإلى جانب النبع الأصلي لبئر زمزم هناك خزانات صغيرة للمياه منتشرة في كل مكان داخل المسجد يتم ملؤها بهذا الماء طوال الوقت لتلبية حاجة الحجاج والمصلين.

المدينة المنورة: على الرغم من أن زيارة المدينة المنورة ليست من شعائر الحج إلا أن معظم الحجاج يحرصون على زيارتها للصلاة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وزيارة الأماكن الإسلامية التاريخية بها، والتجول في أسواقها التجارية الممتلئة بوفرة من البضائع ذات الأسعار القابلة للمساومة والمعفاة من الرسوم الجمركية ليعودوا محملين بها إلى بلادهم.

رسومات الحج: لقد كونت رسومات الكهوف ونقوش الصخور والمنحوتات خطاً واحداً غير منقطع لتجارب الإبداع الإنسانية، وقد أصبح لدى البشرية الآن الكثير من مفردات الفن العظيم المتمثل بالفن (الفطري) أو (البسيط) أو (الساذج) أو (الشائع) أو (الشعبي)، واللافت للنظر أن جنبات أرض مصر تحتضن نماذج حيوية يعكسها الفن الشعبي للحياة الدينية، والتي تعد محصلة لتداعيات حرص المسلمين المصريين على أداء ركن الحج إلى مكة، والذي يُعد الحدث السنوي الأكبر على مستوى المجتمعات الإسلامية، ويطلق على رسومات الزينة الرمزية هذه «رسومات الحج «، ورغم وجود رسومات حج مبعثرة في بلدان العالم الإسلامي، إلا أنها تقع في مرتبة متأخرة جداً عند مقارنتها بنظيراتها من الرسومات المصرية، وتقف قوة الإيمان - كما حدده الدين الإسلامي - وراء فكرة هذه الرسومات والتي تعكس ذكريات تجربة رحلة دينية يقوم بها المسلم مرة واحدة في حياته، كما تعكس تقدير وعرفان العائد من الحج لهذه الرحلة الإيمانية الفريدة.

ولا يستطيع أحد أن يحدد متى بدأت هذه الرسومات الجدارية المتعلقة بالحج فوق واجهات بيوت العائدين من هذه الرحلة المقدسة، إلا أن البعض يرى أنها جاءت من الأتراك بعد دخولهم مصر عام 1517م.. وفي البداية اقتصرت رسومات الحج على نقوش بسيطة تتضمن آيات قرآنية واسم الحاج وتاريخ أدائه للفريضة، وكان هذا كافياً لإعلام الآخرين بأن (حاجاً) يسكن هذا البيت، ثم تطورت إلى رسم الكعبة الشريفة، ثم بدأ الرسامون يشبعون الصور بالكثير من التفاصيل والكثير من الخيال الساذج، وعدم تناسب الأحجام والأبعاد والمساحات الفسيحة الخالية، والألوان الفجة، والأشكال الكاريكاتورية، والشخوص ذات البعد الواحد، وانعدام التوازن.. كما أن هناك بعض الصور المنقولة من الصحف والمجلات والكتب، أو من الصور التي تشاهد على شاشة التلفزيون.

وعلى الرغم من قناعتنا إنه لا توجد وسيلة عملية لتجميع هذا التراث الاستثنائي وعرضه ضمن متحف للمقتنيات البشرية، فإننا نرى أن الطريق الأسهل والأكثر ملاءمة للحفاظ على ما بقي من هذا التراث الإنساني (الذي لا يعيش البعض منه فترة طويلة ثم تذوب ألوانه وتبهت ثم تضمحل) هو تسجيلها بالصور الفوتوغرافية التي تجمعها في كيان مرئي.

لا يملك القارئ بعد انتهائه من قراءة الكتاب سوى أن يدرك حقاً أنه كتاب ممتع ينقل القارئ لأجواء روحانية جميلة، ويصدق فيه قول مترجمه (أطلعتُ الدكتورة سهير جابر عصفور على النسخة الإنجليزية من الكتاب، وما إن تصفحت الصفحات العشر الأولى حتى شهقت إعجاباً، ولم تترك الكتاب من بين يديها إلا بعد أن أمعنت النظر في كل صورة مُعلقة على أشياء لا تراها إلا العين المحبة)،

ولعل أهم ملاحظتين يلاحظهما قارئ الكتاب:

الأولى: ما تضمنه من صور غير مقبولة عقائدياً، مثل صورة أحد الأنبياء عليهم السلام أو أحد الصحابة رضوان الله عليهم، ولكننا سرعان ما نتذكر استنكار محرر الكتاب لهذه الصور حين قال عن بعض الرسامين بأنهم: (أشبعوا صورهم بالخيال الساذج، بل إن الفنانين الطموحين ذوو الخيال الواسع اتخذوا من إعجابهم بقصة إقدام سيدنا إبراهيم على ذبح ابنه إسماعيل فرصة للتعبير عن رؤيتهم لها إما بالرسم أو بالكلمات، مما يدل على أنهم مبهورون بها إلى حد بعيد)، وبالطبع فإننا نستنكر وبشدة أي رسومات تظهر ما نهى عنه ديننا الحنيف.

الثانية: أن محرر الكتاب سجل تحليله عن الجهود الجبارة للحكومة السعودية في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة قبل حوالي عشرين عاماً، ومع معرفتي أن كلماته تلك المنصفة - خاصة أنها من كاتب أمريكي ليس لدينا ما يشير إلى أنه مسلم - تُفرح كل سعودي، إلا أني أثق أن أكثرنا سعادة بها هو من يقف حالياً وراء ما تحقق من إنجازات في المشاعر المقدسة (خادم الحرمين الشريفين)، كما أنها تسعد من واكب تنفيذ هذه الإنجازات بإشرافه المباشر سنوياً على شؤون الحج تسهيلاً لأداء الحجاج لمهامهم بكل يسر وسهولة (سمو ولي العهد الأمين) أمدّ الله في عمريهما.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة