Culture Magazine Thursday  16/02/2012 G Issue 363
قراءات
الخميس 24 ,ربيع الاول 1433   العدد  363
 
«مشيخات الخليج العربي في الأربعينيات الميلادية»
«مشاهدات وذكريات» (4)
أحمد عثمان البسام

 

4- من «دبي» إلى «الكويت»:

بعد إقامة دامت قرابة السنة ونصف السنة في «دبي»، تسلمت عن طريق أخي خطاباً من تاجر كويتي من ذوي القربى أسميه هنا «العم»، وهي الصفة التي تسبق اسمه، احتراماً لسنه، وتقديراً لمكانته، يعرض عليَّ فيه القدوم إلى «الكويت» للعمل لديه في محله التجاري براتب جيد في حساب تلك الأيام مقداره ثلاثمائة روبية، شهرياً، فرحبت بطلبه، واستشرت أخي الذي قال لي: كنت أتمنى لو بقيت معي فترة أطول، فقد ساعدتني أثناء وجودك، ولكني لن أقف حائلاً دون أن تعيش حياتك وتقرر بنفسك مستقبلك، وفقك الله!

كان النشاط التجاري، آنذاك، سواء في «دبي» أم في شقيقاتها الأخريات في الخليج متواضعاً، فيما عدا «الكويت» و»البحرين» نوعاً ما، وكان مركز التاجر المالي والعملي يتناسب مع هذا النشاط، فعمله، بطبيعته، لا يتسع لسواه، فهو يستطيع بسهولة إدارة شؤونه بنفسه، اللهم إلا أنه قد يحتاج إلى «معقب» يتولى مراجعة بعض الدوائر التي له علاقة بها، كما أن رأسمال تاجر الأمس، أو ثروته لا تصل إلى «المليون» الذي لا يجري على ألسنتهم، بل الرقم المألوف لديهم، تلك الأيام، هو ال»لَكْ» وهي كلمة هندية معناها «مائة ألف»، فالتاجر الذي يملك ثروة مقدارها «لَكْ» أو أكثر من الروبيات، يعتبرونه من فئة أصحاب ال»لُكُوك»، التي قد لا تصل إلى «المليون» بَلْهَ «المليار»!

كانت سفراتي البحرية السابقة تتم بواسطة المراكب الخشبية والسفن الشراعية، وما يكتنفها من مخاطر ومتاعب، أما سفرتي هذه المرة إلى «الكويت»، فقد كانت سفرة مرفهة وبلا مشاكل أو عقبات، إذ أقلتني باخرةٌ من بواخر شركة «كري مكينزي»، «Grey Mackenzie»، بعد أن حصلت من دائرة «المعتمد» البريطاني في «الشارقة» على «جواز مرور، «Emergensy Certificate»، صالح لسفرة واحدة فقط، أوصلتني إلى «الكويت» بعد رحلة استغرقت ثلاثة أيام!

وفور مغادرتي الباخرة، توجهت رأساً إلى السوق التجاري، وهو السوق القديم في المدينة، حيث مقر عمل «العم» التاجر الذي وجدته في مكتبه داخل المحل، وبجانبه يجلس شاب من أقاربه يعلم لديه مديراً ومحاسباً ونائباً «للعم» في غيابه!

لقد كان «العم» التاجر إنساناً طيباً، يعامل الموظف لديه معاملته لابنه، يسكنه في بيته ولا يريد له الخروج، قدر الإمكان، من البيت أو الاختلاط بأحد بعد ساعات العمل التي تمتد من الصباح الباكر حتى العودة إلى المنزل بعد أذان المغرب، فيما عدا ساعتين وقت الظهر لتناول طعام الغداء، وأخذ قسط من الراحة، ثم العودة للعمل عند أذان العصر، وكنت أنا «حامل مفاتيح» المحل، أُشرف على فتحه صباحاً ومساءً، وكذلك على غلقه بعد نهاية عمل الفترتين!

إن عملي ليس له مواصفات معينة، بل كنت أقوم بمهام عديدة وأعمال شتّى، مثل كتابة الرسائل والبرقيات وأخذها إلى دائرة البريد، وإحضار ما يرد للمحل منهما، ومراجعة البنك لإيداع النقود أو استلامها، وتسجيل بيانات العمليات التجارية في سجلاتها النهارية، ثم إدخال كل عملية أجريناها نهاراً، نقوم بقيدها في سجلها الخاص بها ليلاً وذلك في البيت، ونبقى نعمل أحياناً حتى منتصف الليل!

والحقيقة، أن عملي كان لا يخلو من مشقة، فهو عمل مستمر، سواء كان في المحل أو خارجه، فليس هناك من راحة إلا تلك السويعات التي كنا نخلد فيها للنوم ليلاً، فلا وقت للتمشية أو الترويح عن النفس، ولا زيارة لقريب أو صديق وبقيت على هذه الحال عدة أشهر، رغم أنني لم يسبق لي خوض تجربة كهذه في عمل غيره من قبل، وأخيراً قررت أن أبحث عن عمل آخر على أن يكون براتب أفضل وشروط عمل أيسر، إلى أن حل ذلك اليوم الذي كنت ذاهباً فيه وقت العصر إلى دائرة البريد لإنجاز مهمة تخص المحل، حينما مررت بركنٍ في السوق التجاري، فرأيت عدداً من الناس متجمعين حول إعلان ملصق على الجدار يقرأونه، فأردت أن أكمل مهمتي في البريد أولاً، ثم العودة لقراءة الإعلان على مهل بعد أن ينفضَّ الجمعُ من حوله، فلما عدت إليه، وقرأته وجدته يدعو من يجد في نفسه الكفاءة لشغل وظائف كتابية شاغرة في «إحدى الدوائر الرسمية»، وأن هناك فئتين من هذه الوظائف، إحداهما راتب وظيفتها أربعمائة وخمسون روبية في الشهر، والفئة الأخرى راتب وظيفتها الشهري ثلاثمائة وخمسون روبية، أما شرط الحصول على الوظيفة فهو اجتياز اختبارين بنجاح، أحدهما تحريري، والآخر شفهي، ومكان إجرائهما «مقر الدائرة»، وحدد الإعلان عصر أحد الأيام القريبة موعداً لذلك، فقررت اغتنام الفرصة والتقديم على الوظيفة ذات الراتب الأعلى، وأداء اختبارها المطلوب، والذي سأجتازه بنجاح لأفوز بالوظيفة إن شاء الله!

والحقيقة أنني وجدت إعلان الوظيفة مُغرياً، فالراتب جيد، ومزاياها لا يتوفر مثلها في العمل لدى التجار، فساعاتها محدودة، وفيها العطل الرسمية، والإجازة السنوية، والزيادة الدورية في الراتب، والعلاوات وغيرها، كما قررت أن أجد العُذر المقبول لمغادرة المحل عصر يوم الاختبار للوظيفة، وقد وجدت هذا العذر، وسُمح لي بالمغادرة، على ألا أتأخر كثيراً، فأسرعت إلى مقر الاختبار التحريري في «الدائرة»، حيث وصلتها قبل الوقت المحدد له بقليل، ودخلت القاعة مع الداخلين، ووزعت ورقة الأسئلة التي كانت منوعة، منها أسئلة في قواعد اللغة العربية، وأخرى في الحساب، وغيرها في أمور الدين، أجبت عليها، ثم غادرت إلى مكانٍ آخر حيث إجراء الاختبار الشفهي والمقابلة الشخصية، أمام أحد موظفي الدائرة الذي سألني أسئلة تخصني شخصياً، ثم انصرفت وعدت إلى المحل وكأن شيئاً لم يحدث! كنتُ، في الحقيقة، مسروراً وراضياً ومقتنعاً بما فعلت، فمن حق المرء أن يبحث عن صالحه، وأن يسعى وراء رزقه، ويُحسن وضعه، ولكني بدأت أفكر وكيف أتصرف تجاه «العم» عند علمه بالخبر، وهو الذي يعاملني كابنه، والذي كان يعتقد أنني تكيفت لظروف العمل، وسوف أظل أعمل لديه طويلاً، خصوصاً إنه مرتاحٌ لحسن أدائي فيه، وحبي له، وحرصي على إنجاز ما يعهدُ به إليَّ من مهامَّ!

وانتهت أمسية يوم الاختبار على خير، ولكني صرت قلقاً فيما عساه أن يحصل في اليوم التالي: فقلتُ في نفسي: «اليوم تمرٌ وغداً أمرٌ»، وكل ما أرجوه أن يبقى «الأمر» طي الكتمان حتى ظهور النتيجة، وهي النجاح والفوز بالوظيفة، عندها يجد «العم» نفسه أمام «الأمر» الواقع!

وفي صباح اليوم التالي، وفيما كنتُ أهم بفتح المحل، مرَّ بي مبكراً، كعادته صباح كل يوم، والسوق لم يستيقظ بعد، شخصٌ أعرفه يعمل وسيطاً نشطاً في السوق، يجول فيه بحثاً عن صفقة تجارية يتوسط في بيعها أو شرائها لأحد التجار، والذي فاجأني بقوله: تهانينا! فاستبعدت أنه يعرف شيئاً عن الوظيفة بهذه السرعة، ولكني لا أستغرب إن كان عَلِمَ بها، بسبب طبيعة عمله كجوال يذرع السوق طولاً وعرضاً، ولعلاقته الواسعة فيها، فأردت أن أتأكد أكثر، فسألته: ولكن، التهاني على أي شيء!

قال: على نجاحك في الاختبار، فأنت الأول على الجميع، قلتُ له: الله يُبشرك بالخير، ولكن كيف عرفت بهذه السرعة والنتيجة لم تُعلن بعدٌ؟! أجاب وهو يبتسم: هذه أسرارُ المهنة، فأنا وسيط، لا أفشي الأسرار!

ثم شكرته وقلت له: أرجو أن يبقى الأمر طي الكتمان، (فالعم) لا يعرف عن الموضوع شيئاً حتى الآن! قال: لا تهتم! سرك في بئر!

ولما غادرني قلت في نفسي: إن هذا اليوم يوم حاسم، وما دام الوسيط الذي لا علاقة له بالأمر قد علم به، فلا بد أن آخرين قد عرفوه، فالكويت مجتمع صغير تنتشر فيه الأخبار بسرعة، وقلت في نفسي: فليكن ما يكون، فقد اجتزت الامتحان، وصارت الوظيفة قاب قوسين مني أو أدنى!

وانقضت ساعات العمل في الصباح على خير، وعدنا للعمل في فترة المساء، وقبل حلول مغرب ذلك اليوم، وفيما كنا جميعاً جلوساً في المحل، وفي المقدمة يجلس (العم) حدثت مفاجأة لم تكن محسوبة، وذلك حين جاء صديق (للعم) من عادته المرور عليه مساء بين الحين والحين، يجلسان معاً بعض الوقت، وقد هدأت حركة السوق، يتحدثان ويتلاطفان، وفيما كان الصديق يهم بالجلوس إلى جانب صاحبه سمعته يسأله: (هل تعرف) واحد اسمه: وكان يعنيني؟! أجابه العم وهو يشير بيده نحوي: ذاك هو.. يراك ويسمع صوتك! ولكن لماذا سؤالك عنه؟! فقذف الرجل بقنبلته الصوتية قائلاً: عندك وما تدري؟ نجح في اختبار الوظيفة! واعتدل (العم) في جلسته، واعتدلت أنا استعداداً للهجوم، وراح يسأل الرجل غاضباً: كيف؟! ولكن أي اختبار؟! وأي وظيفة؟! ما عندي عنها خبر! أجابه الرجل: وظيفة كاتب رسمي بالدائرة! وتكهرب الجو من حولي، وسكت (العم) لحظات ليسترد أنفاسه من شدة المفاجأة، ثم التفت إليَّ حيث أجلس منادياً، فجئت ووقفت أمامه كما يقف التلميذ (المذنب) أمام معلمه، فسألني أية وظيفة هذه؟ ولماذا لم تخبرني؟! أجبته: أنا آسف يا عم.. إنها وظيفة جيدة.. وكنت سأخبرك إذا ظهرت النتيجة.. وإنني.. ولكنه لم يدعني أكمل ما أردت قوله، إذ صاح بالمحاسب قائلاً: أعطه حسابه، ودعه يذهب! قلت له مودعاً: ما بيني وبينك حساب.. مع السلامة!

وغادرت المحل.. وغادره معي كذلك صديق (العم)، الذي مر بي مسرعاً وهو يحوقل آسفاً، ويقول بصوت مسموع: والله، لو كنت أدري أن (الولد) يشتغل عنده، ما أخبرته، ولكن (قدر الله، وما شاء فعل!) وإذا بي وجهاً لوجه مع صاحبي الوسيط، وهو يجوب السوق، الذي أخذ يسألني: خير.. خير.. أراك لست على بعضك.. هل حصل شيء؟!

أجبته وأنا أمشي: وقع المحذور انكشف المستور! فسمعته يقول: هذا ما كنت أخشاه، فالرجل الذي كان مع (العم) قبل قليل هو موظف قديم في الدائرة التي ستعمل فيها، وهو صديق لمديرها!

وتوجهت تلك الليلة إلى (عزبة) أصدقائي، وأمضيتها معهم، فليس للغريب سوى الغرباء، ولكني سعيد لأن الوظيفة الجديدة صارت مضمونة وهي تنتظرني، وسوف أراجع (الدائرة) غداً صباحاً لاستلامها ومباشرة العمل فيها!

وفي صباح اليوم التالي خرجت مبكراً، وكلي همة ونشاط، قاصداً (الدائرة) لإنهاء إجراءات التعيين، وكان العمل في (الدائرة) على وشك أن يبدأ حين دخولي، فقصدت مكتب المدير الذي كان موجوداً، فسلمت عليه، وقدمت إليه نفسي على أنني أحد المتقدمين للوظيفة وأنني اجتزت اختبارها بامتياز، ورأيته يتناول من أمامه ورقة فيها قائمة أسماء راح يبحث فيها عن اسمي، ثم رفع رأسه نحوي، وتمنيت لو لم يرفعه، وقال:

لم أعثر لك على اسم هنا، وهؤلاء المذكورون في هذه القائمة هم الناجحون، وقد استلم كل واحد منهم وظيفته، ولم تبقَ لدينا وظيفة شاغرة!!

وأذهلتني المفاجأة عن أي سؤال أوجهه إليه، فقد رأيت عدم جدواه، إذ كان وهو يخاطبني عابساً ومتجهماً، وخرجت من عنده أجر قدمي ورائي جراً والعرق يقطر من جبيني رغم برودة الجو، ومررت وأنا في طريقي للخروج على غرف الموظفين الجدد التي كانت فارغة عند دخولي، والتي كنت أمني النفس أن تكون إحداها غرفتي، وإذا بي أرى في كل غرفة موظفها الجديد، وقد جلس على كرسيه الهزاز، وفي عينيه نظرات شاردة وعلى شفتيه شبح ابتسامة حيرى!

وعاد الغريب إلى (عزبة) الغرباء وهو حزين، وسألني الأصدقاء عما حدث، فحكيت لهم ما جرى، فقال أحدهم: هل تريد الحقيقة؟! قلت: هات.. قال: لقد استبعدوك لأنك لا تحمل جنسية البلد، قلت: لم تكن الجنسية في الإعلان شرطاً للحصول على الوظيفة! قال: الاختبار صوري.. وما دام عدد أبناء البلد بعدد الوظائف الشاغرة فقد فضلوهم على غيرهم، ولا قيمة للاختبار! ثم انبرى صديق آخر يدلي برأيه قائلاً: هناك احتمال آخر.. قلت لنا إن الوسيط التجاري أخبرك بأن الرجل الذي قص على (العم) الخبر هو من موظفي الدائرة موضوع البحث، وهو صديق (للعم) قلت: نعم، هذا صحيح! قال: لقد اتضح الأمر الآن، فمن المحتمل جداً أن يكون (العم) قد طلب منه التوسط لدى مدير (الدائرة) لاستبعادك، وشطب اسمك لكي تبقى أمام الأمر الواقع، وتعود إليه نادماً!

واقتنعت، كما اقتنع الأصدقاء بأن كلا الاحتمالين واردان ومعقولان، وعلى أية حال، فقد أسلمت الأمر إلى الله، وطلبت منه الفرج الذي جاء بعد أيام قليلة حين أخبرني أحد أصدقاء (العزبة) أن هناك وظيفة تنتظرني لدى تاجر، ويمكنني مباشرتها فوراً!

وانضممت بعد الحصول على عملي الجديد، إلى جماعة (العزبة)، وصرت واحداً منهم، وكان عددهم خمسة، وفي البيت القديم الذي استأجروه، وكل الكويت كانت قديمة آنذاك، أربع غرف أشغلوا منها ثلاثاً للراحة والنوم، وجعلوا الرابعة مجلساً يجتمعون فيه، ويتناولون طعامهم ويستقبلون ضيوفهم، والعادة الطيبة لديهم هي استعدادهم لإيواء واستضافة أي شاب يعرفونه يأتي الكويت بحثاً عن عمل، فيقيم معهم، يأكل ويشرب وينام بلا مقابل، حتى يحصل على عمل، وهذه لا شك، خصيصة طيبة، وخصلة حميدة، يتحلى بهما شبابنا الطيبون!

رحم الله (العم)، وغفر له، وأسكنه الجنة، فقد كان إنساناً فاضلاً، وذا خلق كريم!

(تمت)

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة