أشرنا في مساقنا السابق إلى أن (محمود درويش) عاد في كتاب يوميّاته الذي نُشر بعنوان «أثر الفراشة» إلى الشِّعر البيتيّ في عددٍ من النصوص. بل لقد خاض في مجموعته تلك شيئًا من التجريب في البحور الشِّعريّة العربيّة، وذلك كأن يُضيف على وزن البسيط تفعيلتين: (مستفعلن/ فاعلن)، ليصبح البيتُ على عشر تفعيلات، لا ثماني تفعيلات، كما في قوله، من نَصّه بعنوان «عالٍ هو الجبل» (1):
يمشي على الغيم في أحلامه، ويَرَى
ما لا يُرَى. ويظنُّ الغيمَ يابسةً..
عالٍ هو الجَبَلُ...
وقد مضى على هذا النظام في أربعة مقاطع، بحيث يَمُدّ نهاية تفعيلات البسيط بتفعيلتين تحملان القافية في نهايتهما. وهو كسرٌ للقالب التقليديّ، جاء جميلًا، وإنْ كان قد أخلَّ بتوازن الشطرَين فيما لو قُسم المقطع إلى شطرين في كلّ شطرٍ خمس تفعيلات، وذلك من حيث تراتُب التفعيلات؛ فكان الشطر الأوّل سيصبح على (مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فَعِلُن/ مستفعلن)، والثاني: (فَعِلُن/ مستفعلن/ فَعِلُن/ مستفعلن/ فَعِلُن). إلّا إنْ نَظَرنا إلى الشطر الثاني بصفته مقلوب الشطر الأوّل من حيث ترتيب التفعيلات. وفي هذا تصرّفٌ جيّدٌ، يحاكي مراودات الموشّح لتجديد الموسيقى الشِّعريّة العربيّة في نطاقها، وإنْ كان من الموشّح ما خَرَجَ إلى آفاق مختلفة لا حصر لها، كما بَيَّن (ابن سناء الملك) في كتابه «دار الطراز».
وتأتي قيمة تلك الأَوبة الدرويشيّة إلى العَروض العربي من أنها تُعبِّر عن عدم القطيعة مع الشِّعر العربي في قوالبه الأصيلة، كما يحلو لبعض شُداة الحداثة، بلا حداثة، أن يَهِمُوا. كما أنها تدلّ على وعيٍ بإمكانيّة تحديث التراث من خلاله، لا من خارجه، وأن في الإمكان تفجير أشكال لا نهائيّة من «عرابسك» الموسيقى الشِّعريّة العروضيّة، عِوَض القفز عليها جملةً وتفصيلًا، لاستبدال الشِّعر بخواطر نثريّة- «مصرّحة وغير مصرّحة»- تُسمَّى شِعرًا؛ لا لشيءٍ سوى أنّ الجميع يُحِبّون أن يُسَمَّوا شعراء، ولْتذهبْ القواعد النوعيّة لجنس الشِّعر في مَهَبّ «الشَّعْرَنَة»، مثلما أن طائفة مقابلة تريد أن تُكتب جميعًا في زمرة الروائيّين، ولْتذهبْ القواعد النوعيّة للجنس الروائي في مَهَبّ ادّعاء الرواية. إن القصور قصور، والتجديد تجديد. والقصور لا يسوِّغ انتهاكَ الجنس الأدبيّ، وَفق خصائصه النوعيّة. بل إن بعضهم ليُردف ذلك- تغطيةً عاريةً- بدعوَى أن فعلته ما هي إلّا تجديد للجنس الأدبيّ، في وقتٍ قد لا يُتقن مدَّعي ذلك التجديد أبجديّات الخَلْق الأصل كي ينهض بتجديده. وتلك مفارقةٌ طريفةٌ في دعاوَى التجديد العربيّة! إنّ أحدهم ليأتيك منتفشًا، مغرورًا ببضع كلماتٍ طفوليّةٍ ساذجة، لا خَلْق فيها ولا إبداع، حتى إذا قاده النَّزَقُ إلى الافتضاح، ظَهَرَ على الملأ بخُفَّي حُنين، فلا نحوَ هنالك، ولا لغة، ولا بلاغة، ولا عَروض، وليس سوى هواجس تَعِنُّ له بين وقتٍ وآخر، كسائر البشر، وحين يريد ترجمتها من عاميّتها إلى فصحاها، يُعربها إعرابًا على ظَلَعٍ، يُصيب تارةً ويَخيب أخرى، على حدّ قول القائل: «يُريد أنْ يُعربَه فيُعجمه»! ذلك مبلغ عِلْمه من الشِّعر والإبداع واللغة، ومع هذا فقد امتلأ هواءً، وانتفخ انتفاخًا.. يُخِبُّ فيه ويَضَع.
وعودًا على بدء، فلقد تعاملتْ بعض المتابعات مع كتاب «أثر الفراشة» على أنه كلّه قصائد شِعريّة. وهو ما ينمّ على ضياع مفهوم الشِّعريّة بين ظهرانينا، الثقافيّ والإعلاميّ! فالكِتاب خليطٌ من نصوص، شِعريّة ونثريّة، اختار لها المؤلِّف أن يسميها: «يوميّات». ما يَدُلّ على أن الشِّعر والنثر صارا بُحيرةً واحدةً، لا برازخ فيها بين الأجناس، من الذوق العربي العامّ حتى الخاص. أمّا ضياع مفهوم الشِّعر العربي والشِّعريّة العربيّة، فيزيد طينَه بلّةً غيابُ النقد الأمين. كيف لا، وقد بات بعض النقد يُستثمر لتوطيد علاقات وصداقات، أو لتصفية حسابات شخصيّة. وبعض النقّاد- حتى أولئك الذي كانت لهم مكانتهم الأكاديميّة- جرفهم الصراع السياسيّ، أو الفكريّ، ليرفعوا بعض الأعمال والكُتّاب؛ لأنهم وافقوا هواهم في الحياة الثقافيّة أو الاجتماعيّة العامّة، ويحطّوا من بعض الأعمال والكُتّاب؛ لأنهم لم يوافقوا ذلك الهوى (2).
وبالتأمّل في موسيقى الشِّعر الدرويشيّة بصفةٍ عامّة، فإن من الحقّ القول- وعلى الرغم من طول التجربة وتنوّعها- إنها تظلّ إجمالًا فقيرةً إيقاعيًّا، ومعظم شِعره يدور في فَلَكِ سببٍ ووتدٍ لوحدتين نغميّتين: (فاعلن)، أو (فعولن). ولستُ ممّن يرون أن الخليل قد أهمل البحر المتدارك- الذي اتكأ عليه درويش كثيرًا، وكذا فَعَل غيره من المحدثين- عن جهلٍ أو سهوٍ، ولو زعم الزاعمون، ولكن السبب، على الراجح، أن المتدارك إيقاعٌ نثريٌّ أصلًا، سائد في مستويات العربيّة المختلفة، فضلًا عن قلّة نماذجه في الشِّعر القديم. وقد ضربنا مثالًا من قبل بإمكانيّة سماع أحد العرب يقول، بتلقائيّةٍ نثريّةٍ مطلقةٍ، في خُطبة أو خطاب أو رسالة: «فابعث رجلًا ممّن ترضَى دِرْءًا لأبي بكر والجيش الإسلاميّ معه...»، فيخرج كلامه على وزن الخَبَب دونما قصد. بل لو أراد المتحدّث أن يكون حديثه كلّه على الخَبَب لأمكنه ذاك. فليس، إذن، هذا بإيقاعٍ يكشف عن مهارة تركيبٍ موسيقيٍّ، ولا عن تميّزٍ إبداعيّ شِعريّ، بل هو نَظْمٌ شائعٌ على الألسنة العامّة، من شِعريّة وغير شِعريّة. ولذلك اطّرح الخليل هذا الوزن. ومع هذا، فإن من الدالّ على ضعف السلائق اليوم أن تجد بعض شعراء التفعيلة لا يَنْجُون من الخطأ حتى في الخَبَب! وقد يأتي في هذا المضمار تصوّرٌ نمطيٌّ مبتسرٌ، يُعَبَّر عنه عادةً، اعتذارًا عن ضعف الحِسّ الموسيقيّ، يذهب إلى أن ما يُقرّره القدماء في موسيقى الشِّعر يأتي اعتباطًا، أو تشدُّدًا، وتصلُّبًا، ونحو هذه من التعلّات. وما الأمر كذلك، ضربةَ لازب. فمثلًا، نحن نجد في بعض نماذج الشِّعر الحديث استخدام (فاعِلُ) في الخَبَب إلى جوار تفعيلاته الأخرى: (فاعلن، فَعِلُن، فاعِلْ)، مع أنْ ليس من الزحافات الجائزة في الشِّعر العربيّ حذفُ آخر الوتد المجموع دون إسكان ما قبله. فإذا اعتُرض بمِثْل هذا الاعتراض على أحدهم في نقد موسيقى شِعره، وقيل إن ذلك قد أخرجها إلى النثريّة، قال ببراءة: علام التشدّد والتصلّب، إبقاءً على قواعد القدماء، ولِمَ لا نُجدّدها؟ وهي كلمة حقٍّ، لكنها تَصْدُر عن عَمَاء، إنْ لم يُرَد بها باطل. ذلك أن الأمر هنا لا علاقة له لا بالقديم ولا بالحديث، ولا بالتشدّد والتصلّب ولا بالتساهل والتراخي، ولا بالخليل وعَروضه ولا بمحاولة التجديد، بل علاقته أوّلًا وأخيرًا بالبنية الصوتيّة النغميّة من اللغة. ولا يمكن باسم التجديد الزعمُ بوجود نغمٍ لغويٍّ غير موجود! ذلك أننا لو تساءلنا لِمَ انتفَى ورودُ تفعيلة (فاعِلُ) في وزن الخَبَب؟ لتَبَيَّنَ أنه كان سيؤدّي إلى مجيء مقاطع تتكوّن من أحرف متحرّكة، متقاربة أو متوالية، بل قد تتوالى خمسةُ أحرف في حال ورود تفعيلتَي (فاعِلُ/ فَعِلُنْ) متتاليتين. وتوالي المتحرِّكات مستثقَلٌ، حتى في الكلام الاعتياديّ، مستصعبٌ النطق به. فأيّ موسيقى ستبقى عندئذٍ؟! وتوالي ثلاثة متحرّكات- ناهيك عن أربعة أو خمسة- مستثقَلٌ في وحدات النغم الشِّعريّة: (التفعيلات). ألا ترى- على سبيل المثال- أنهم استحسنوا زحاف (الإضمار) في تفعيلة الكامل (مُتَفاعِلُن)، بتخفيفها إلى (مُتْفاعِلُن/ مستفعلن)، بتسكين الثاني الذي كان متحرِّكًا؟! فإذن القضيّة في مثل هذا قضيّةٌ لغويّةٌ، موسيقيّةٌ، بحتة.
*.
شُرْفَة:
إذا التاريخُ مهموزٌ، لماذا
يكلِّف نفسَهُ بالجودِ (حاتمْ)؟!
(عناد المطيري)
* * * *
(1) أثر الفراشة، (بيروت: رياض الريس، 2008)، 198.
(2) ومن نماذج ذلك ما كتبه ناقد كبير، في (صحيفة الحياة، الأربعاء 6 مايو 2009، ص30)، تحت عنوان «وكم ذا بمصر من المضحكات»، حول حريّة التعبير، مستشهدًا بقضيّة ما نشرته مجلة «إبداع» من نصٍّ بعنوان «شُرفة ليلى مراد»، أدّى إلى سحب العدد من المجلّة، وحذف مقطع من القصيدة وقع عليه الاعتراض، بل صدور حكمٍ إداريٍّ بإلغاء ترخيص مجلّة «إبداع». والواقع أن ذلك النصّ كان من الجناية على الشِّعر أن يُسمّى شِعرًا، فهو تجديفٌ شِعريٌّ، قبل أن يكون تجديفًا تقريريًّا في حقّ الذات الإلهية. وعلى الرغم من ذلك؛ ولأن القضيّة لم تعد نقديّة، ولا شِعريّة، بل باتت سياسيّة تيّاريّة- تدور رحاها بين طائفتين متناحرتين- فقد أُضفيت على القصيدة هالة من التقدير، وعلى صاحبها نعوتًا إبداعيّة هائلة، لا يعبِّر عنها بحالٍ من الأحوال نصّه ذاك، فوُصِف بأن «له وزنه ومكانته في الشِّعر العربيّ المعاصر!» هكذا! وهكذا يقف المتابع أمام ضربين من النقد اليوم: إمّا ممارسات نقديّة قاصرة، أو نقد مسخَّر لمآرب وحسابات أخرى، تياريّة، أيديولوجيّة، اجتماعيّة، توظيفيّة للأدب في سبيل غيره، وكلّها في النهاية كتابات غير عِلميّة، تنحطّ بالأدب والنقد معًا.
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
الرياض