Culture Magazine Thursday  16/02/2012 G Issue 363
فضاءات
الخميس 24 ,ربيع الاول 1433   العدد  363
 
الاغتراب كأزمة عربية (2)
عبدالله العودة

 

في المقال الأول حول الاغتراب.. كان الحديث عن حالة العجز كاستعمالٍ أول للاغتراب.. حين يشعر العامل أو الموظف.. أو المثقف أو المواطن بالعجز تجاه المجتمع.. وبأن وجوده لا يعني المشاركة بالقرار ولا إمكانية التغيير.. فهذا الإحباط وسوء الظن بالمجتمع يدفع إلى الاغتراب والانعزال إما عن المجتمع أو عن خياراته أو عن العمل معه أو لأجله..

أما الاستعمال الثاني للاغتراب -حسب “سيمان”-.. فهو عدم الإحساس بالمعنى.. حين يصل الإنسان إلى النقطة التي لا يستطيع فيها التنبؤ بقيمة ما يعمل ولا قيمة ما يبذل.. فهو لا يعرف كيف يكون القرار وكيف تتحدد القيم ولا كيف يسير المجتمع.. بل يحس بأن المجتمع الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي أو كل هذه مجتمعه مما لا يمكن تخمين ردود أفعالهم.. وهذه بالتحديد هي ما تجعل الإنسان يحس باللا معنى. وحين تطبيق هذا الإنموذج على الحالة الثقافية العربية.. فالمثثقف والإنسان العربي الذي يعتقد أن المجتمع لا يسير وفق معايير يفهمها هذا المثقف وبأنه تحكمه عوامل مختلفة لا يمكن التنبؤ بها ولا توقع نتائجها.. فإنه سيدفعه الإحباط والملل إلى الانتفاش وتزييف الآخرين.. والإحساس بأن المجتمع بأكمله لا يحمل أي معنى.. على حين أن هذا المثقف أو الإنسان لن يفهم أي معنى يختلف معه أو يقف ضده أو ضد خياره. لطالما كال الكثير من المثقفين العرب التهم على المجتمع في الوقت الذي يعدون أنفسهم نخبته “الواعية”.. فهم يجمعون بين عدم الوعي باهتمام المجتمع وأولوياته.. وبين الغباء الذي يقودهم إلى الاعتقاد بأنهم النخب التي تقود في عالم من اللا معنى.. وفي مجتمع لا يمكن فهمه ولا الاعتراف به.

وثالث استعمالات الاغتراب.. هو ارتباك التقاليد، وهي الحالة التي تحدث عنها عالم الاجتماع الشهير “دوركايم” فيما سماه “أنومي” (Anomie) ويقصد فيه الإنسان الذي يحس بأن التقاليد والعادات الاجتماعية مضطربة وأنها لم تعد تحكم المجتمع.. فهو في الوقت الذي يحس بأن مجموعة كبيرة من التقاليد الاجتماعية والعادات والسنن قد فقدت قوتها وسيطرتها.. لم يعد يحس بأي عادات اجتماعية أخرى تحكم المنطق الاجتماعي.. بل مجتمع يعيش في الفراغ.

هذا المغترب.. لم يعد يحس بتلك العادات ولم يعد يقدرها ليس فقط لأنه غير مقتنع بها ولكن لأنها أيضاً لا يجد أي معايير تربطه بهذا المجتمع وعاداته وتقاليده.. فربما كان المثقف العربي يصف كل التقاليد الاجتماعية بأنها هشة وبالية.. في الوقت الذي يرى عادات مجتمعات الآخرين المشابهة مظهراً اجتماعياً وحضارياً لا ينفك عن حضارة ذلك المجتمع وثقافته..

ليس على المثقف العربي أن يؤمن بتلك العادات.. بل يكفيه فقط أن يعترف بها وبأنها جزء من هذه الثقافة الاجتماعية.. وجزء من قَدَرها الحالي على الأقل.. ثم ليقدم نقده كيفما يشاء.. فهذا النقد سيطور من الحالة الاجتماعية دون شك.. لكن عدم الاعتراف بوجود تلك المعايير والتقاليد الاجتماعية يؤدي إلى خلق مسافة كبيرة بينه وبين المجتمع.. في الوقت الذي يريد هذا المثقف أن يكون من رواده و”نخبته”..!

أما رابع حالات الاغتراب وخامسها التي تحدث عنها “سيمان” فهي “العزلة” و”الغربة الذاتية”.. فالعزلة تعني حين يصل المثقف أو المفكر لقناعة أن الكثير من القيم والمعايير المقدرة اجتماعياً قيم تافهة وغير مجدية.. فالمثقف العربي مثلاً قد يقدم معاييره الخاصة ومبادئه لتكون القيم البديلة التي يريد للمجتمع بأكمله أن يتبناها لسبب بسيط هو أنه شخصياً يراها كذلك! فإن لم يستجيب هذا المجتمع لتلك المبادئ والقيم غدا في نظره مجتمعاً أحمق.. يملك كل صفات الجهل والتخلف.. حين لم يستمع لنصائحه وتوجيهاته.. على حين أن الاعتقاد أساساً بأن قيمه وخططه البديلة ومعاييره هي “المخلصة” كانت بالتحديد سبباً من أسباب التخلف الذي لا يعرف ولا يعي.

وحينما يحس هذا المثقف ببعد أفكاره عن العمل والاهتمام والقبول ينحى باللائمة على الناس.. ثم “يعزل” نفسه.. في كهفه.. ليقرأ عليها تراتيل المجد ويتحسر على قومه الذي لم يسمعوا نصيحته وصرخته.. بل ربما تمثل قول دريد بن الصمة الذي كان يظن نفسه المسيح المخلص:

أمرتهموا أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشدِ

وهذا الإحساس بالتفرد والضياع وفقدان المعنى هو الذي يدفع للغربة الذاتية.. وتقصد الانفراد والبعد عن الناس بل وعدم محاولة التأثير في حالات متطرفة جداً.. وكل ذلك أمراض تعود للحالة الرئيسية في اغتراب هذا الإنسان المثقف الذي عليه أن يعالج نفسه.. قبل أن يكتب وصفات العلاج لهذا المجتمع الذي يملك ثقافة وقيماً وأخلاقاً ومبادئَ.. لم يستوعبها المغتربون !

aalodah@hotmail.com أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة