Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
الطريق إلى (برايتون):
مَشَاهِدُ تَأَمُّلِيَّة! (1)
د. عمر بن عبد العزيز المحمود

 

في صيف هذا العام كان لي لقاء مع الطبيعة البريطانية المتميزة امتدَّ أكثر من أسبوعين، حيث الأجواء الاستثنائية الخلابة، والثقافات المتنوعة، والعادات والتقاليد المختلفة، فبدءاً من (كامبردج) تلك المدينة الريفية الهادئة، وانتهاءً بعاصمة الضباب (لندن) التي يلفها الضجيج، ومروراً ب(أكسفورد) صاحبة المنارات العلمية الشهيرة، و(برايتون) التي تعجز الأحرف عن وصف شاطئها البديع، هناك كانت تلك الجولة القصيرة زمناً، الطويلة عُمُراً وذكريات، ولولا توثيق هذه الرحلة صوتاً وصورة لَمَا صدَّقت العيون ما رأته في تلك الأمكنة الرائعة.

إنَّ ما يشعر به المرء هناك من استرخاءٍ جسديٍّ وراحةٍ نفسيةٍ وصفاءٍ ذهنيٍّ حاجةٌ ضروريةٌ لتجديد روحه، واستعادة نشاطه الفكري والجسمي، بسبب ما وهب المولَى عز وجل تلك المناطق من أجواءٍ رائعةٍ ونسماتٍ مُنعشة، خصوصاً في الريفية منها، حيث النأي عن صخب المدينة، وزحام السيارات، ودخان المصانع، وغيرها من تعدِّيات الإنسان على الطبيعة العذراء، ولَم يكن التراث الشعري ليغفل عن هذه الحقيقة، فقد أنشد الأول:

مَا في المقَامِ لِذِي عَقْلٍ وَذِي أَدَبٍ

مِنْ رَاحَةٍ فَدَعِ الأَوطَانَ وَاغْتَرِبِ

سَافِرْ تَجِدْ عِوَضاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ

وَانصَبْ فَإِنَّ لَذِيذَ العَيشِ في النَّصَبِ

إنِّي رَأيتُ وُقُوفَ الماءِ يُفْسِدُهُ

إِنْ سَارَ طَابَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

وَالأُسْدُ لَولا فِرَاقُ الأَرضِ مَا افتَرَسَتْ

وَالسَّهْمُ لَولا فِرَاقُ القَوسِ لَمْ يُصِبِ

وَالشَّمْسُ لَو وَقَفَتْ في الفلك دَائِمَةً

لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنْ عَرَبِ

وَالتِّبْرُ كَالتُّرْبِ مُلْقَى في أَمَاكِنِهِ

وَالعُودُ في أَرْضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ

فَإِنْ تَغَرَّبَ هَذَا عَزَّ مَطْلَبُهُ

وَإِنْ تَغَرَّبَ هذا عَزَّ كَالذَّهَبِ

ولا أعتقد أن هناك تعارضاً بين أن يتغرَّب المرء عن وطنه لأجل التغيير والمتعة والراحة الجسدية والفكرية وبين أن يُفيد من هذه الغربة في إطالة النظر والتأمُّل، ومُحاولة استجلاب كلِّ ما هو مفيد وصالِحٌ اجتماعياً واقتصادياً، والتعرُّف عن كثبٍ على كثيرٍ من الأنظمة والقوانين التي كفلت لشعوب هذه الأماكن قدراً كبيراً من سهولة العيش ونيل الحقوق؛ مِمَّا يَجعل المرء هناك ليس قادراً على أداء مسؤولياته فحسب، بل راغباً بِشدَّة في ذلك.

لقد أعجبني في المدن البريطانية بساطة العيش، فلا تَجد هناك قصوراً ضخمة، أو سيارات فارهة، أو ولائم دَسِمَة، على الرغم من أحوالِهم المادِّية الممتازة، ومُرتَّباتِهم العالية، كما شدَّني هناك تلك العراقة والأصالة اللتين يفوح عبقهما من كلِّ شيءٍ حولك، وتشعر بِهما أمام كلِّ منزلٍ متواضع، أو مبنى حكوميٍّ شاهق، أو متحفٍ أو دار عبادة، وترى في هذه المباني طرازاً متميزاً فريدا، وتاريخاً تكاد تصغي إليه، وكأنك أمام شيخٍ هرمٍ يُحدِّثك عن مئات الأعوام التي قضاها في هذا المكان.

أمَّا الأجواء الصباحية التي ترافقك مع طلوع يومٍ جديد، وحين يشرع نور الفجر بالظهور فلا أظنُّ أنَّ أحرفاً قادرةٌ على وصفها، أجواء ترغمك على الاستيقاظ، وتُجبرك على العمل أو مزاولة رياضةٍ ما، بل إنك تتحسَّر على ما فاتك وأنت تَغُطُّ في نومٍ عميق، تشعر بِهذا حين تتسلَّل أولى النسمات الصباحية وهواؤها البارد إلى رئتيك لتمنحك جرعةً من الأمل، وتَهبك نشاطاً استثنائيا، وحياةً جديدة، وكأنَّك مولودٌ جديدٌ في هذه الدنيا، فالصباح البديع ونسماته الباردة، وصفاؤه المتميِّز يُغريك بفعل كلِّ شيءٍ فيه بِمُتعةٍ هادئةٍ، وروحٍ مُتجدِّدةٍ، قلَّما أن تشعر بِها في مكانٍ آخر.

في (كامبردج) يشعر الزائر لَها بريفيتها الأخَّاذة، ويبصر منازلَها البسيطة، ومبانيها الضخمة الشامِخة العريقة، وفاكهتها الشهيَّة التي تأخذ بالألباب، يصاحب ذلك شعورٌ من نوعٍ آخر، ذلك الشعور الذي يُخالِجك وأنت في مدينةٍ صغيرة، غير أنَّها تَضُمُّ في الوقت نفسه أشهر جامعات العالَم، بل هي التي تتربَّع الصدارة حسب التصنيفات الدولية المعتمدة، كما أنَّها ثاني أقدم جامعةٍ ناطقةٍ باللغة الإنجليزية في العالَم، وهذا الشعور يؤكِّد لك أنَّ مستوى التطوُّر في التعليم الجامعي والتميُّز في التخصُّصات لا يُقاس بِحداثة المباني، وتطوُّر الخدمات والمرافق، وفخامة الجدران، ولَمَعَان أغلفة الكتب، ومُجرَّد الإعلان عن مؤتَمراتٍ وندواتٍ ومُلتقياتٍ لأجل التظاهر والتباهي، وهي في الحقيقة لا تُسمن ولا تغني من جوع.

ومِمَّا يلفت النظر في المدن البريطانية -خصوصاً الصغيرة منها- تلاشي الازدحام فيها، رغم صغرها وكثرة سُكَّانِها نسبيا، مِمَّا يزيد من المتعة هناك، وهو من الأمور التي يقف المرء أمامها طويلا، خصوصاً إذا كان قادماً من مدينة يتحوَّل فيها مشوار الدقائق فيها إلى ساعات، بسبب الاختناقات المرورية المتكررة، وهذا هو الملمح الأهم الذي سأسعى إلى تسليط الضوء عليه في الجزء الثاني من هذه المشاهد.

Omar1401@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة