Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
القص الماورائي واختراق الجدار الرابع
في «هروب البطل» لمحمد الرطيان 2-3
لمياء باعشن

 

يعي بطل قصة «هروب البطل» معنى قصدية المؤلف فيتخذ منها موقفاً مضاداً يفرض فيه قصدية بديلة تنافسها على مستوى الحيز التأليفي، فيكشف مكونات ماوراء السرد، خاصة وهو يجسد قلق الكتابة في ملامح المؤلف حين يقف على باب غرفته:

« كانت ملامحه حزينة ومرهقة..

وعيناه مشوشتان ومرتبكتان..

قال لي: لم أنم البارحة».

تفضح هذه الملامح تخييلية السرد وتصور علاقة المؤلف بالعمل والرعب الذي يتملكه من عدم قدرته على لم أطراف الحكاية التي قد تتفلت من سيطرته.. حين تخرج الشخصية عن طوع وسيطرة الكاتب يصبح مجرد وسيط سردي ممكن الاستغناء عنه، وهذا ملمح من ملامح (موت المؤلف)، ففكرة موته مرعبة إلى درجة أنها قد تقتله.. ونسترجع هنا فكرة سارتر عن قيمة الكتابة في رسالته النقدية: «لماذا نكتب؟»، والتي يوضح فيها أن رغبة الكتابة هي إشباع لنزعة الحياة: أن تكون موجوداً يعني أن يكون وجودك ضرورياً لوجود شئ آخر. لذلك، حين يستشعر المؤلف أن وجوده ما عاد ضرورياً لوجود قصته يرتعد أمام خطر العدمية.

المنافسة بين المؤلف وبطله في هذه القصة تأخذ شكل الصراع من أجل البقاء، فوجود أحدهما على قيد الحياة يعني بالضرورة موت الآخر. وقد يبدو أن انسحاب البطل من النص هو تسليم النص لصاحبه دون منافسة، أي الخروج الانهزامي من ساحة القتال، لكن هذا الانسحاب يسحب خيطاً متشابكاً مع خيوط الهيكل التنظيمي للقصة والذي سيتهاوى بأكمله متأثراً بانسحاب البطل: «أعلم أنني تركت هذا «الروائي» المجنون في مأزق عظيم..». لذلك فالانسحاب خطوة تكتيكية تدك المعقل السردي وتضع المؤلف تحت ضغط عصبي كبير، وهذا يفسر ملاحقة المؤلف لبطله مستجدياً عودته للنص الذي أربكه الخروج، متنازلاً عن حقوقه التأليفية ومتعهداً بتنفيذ شروط العودة.

يحقق هذا النص إذاً خصائص مختلفة للقص الماورائي، فسارده يمارس بقصدية واعية فعالية السرد ويعمل على اختراق حدوده المرسومة بعناية، ومؤلفه يظهر كشخصية داخل النص، وبطله يلعب لعبة تمرد على مؤلفه ويرفض مصيره الذي قرره له سلفاً. يؤذن نبذ الهيمنة التأليفية بانحسار دور المؤلف، لكنه يفتح دوراً تأليفياً جديداً، بمعنى أننا في الواقع نتعامل مع نصين، أحدهما رئيسي غائب وهو النص الذي يستدعي موت البطل، وثانيهما فرعي حاضر وهو الذي يهرب إليه البطل. حين يخرج البطل من القصة التي تحكم عليه بالموت، فهو ينحرف انحرافاً مقصوداً عن سياق السرد ويعلن انشقاقه ورفضه لمخطط المؤلف بتدشين نص آخر يصبح هو فيه سيد الموقف.

في النص المنشق يحتفظ السارد لشخصه بدور البطولة، ويتسلم دفة الخطاب ويتحدث بصيغة الأنا المسيطرة على السرد، فيخرج بذلك عن كونه مجرد كائن افتراضي شكّله ذهن مؤلفِه إلى مؤلف يختلق شخصية المختلِق ويضعها في إطار المسارات الجديدة التي يفرضها عليه. البطل الهارب هو الآن السارد المتحكم الذي يقدم شخصية درامية يسميها (المؤلف).

ويتضح لنا بعد هذا الهروب أن البطل يعود أدراجه إلى مكان تم إخراجه منه عنوة في وقت سابق، فالمؤلف قد مارس سلطته الانتقائية في هذه الأرضية وقبل بدء النص الثاني. يتساءل البطل مستنكراً: «من الذي قال له أن يختارني أنا تحديداً بين أكثر من 20 مليون مواطن لأكون بطلاً لروايته التعيسة؟!» الباب الفاصل بين النصين هو باب موارب يسهل عملية الدخول والخروج للبطل والمؤلف، وقد كان البطل مجرد مواطن من بين 20 مليون حين اصطفاه المؤلف ليكون بطلاً لنصه. هذا الاختيار المطلق للمؤلف يسحب حرية الاختيار من المواطن ويجعله مسيراً لا حيلة له سوى الانصياع، وبذلك فإن سلطة المؤلف اللامتناهية تحرمه من مقاومة الاختيار الذي وقع عليه، ثم من القدرة على الهروب من تبعات ذلك الاختيار، أي القتل.

لكن السارد الجديد غير محيط بما يحيط به في نص العودة إلى خانة المواطنة، فيبدو وكأنه يتحرك في فضاءات مجهولة لديه، وعكس المؤلف الذي يبني هيكله السردي تبعاً لخطة تؤكد هيمنته وتحكمه في مصائر شخوصه، فإن هذا السارد لا يستطيع تحريك الخيوط السردية ولا أن يتنبأ بالحدث القادم. يحمل السارد الجديد مخاوفه من نص سابق إلى نص لاحق، بل هو يحتفظ لمؤلف النص الأول بالقدرة على التدخل في أحداث نصه الخاص به والذي أنشأه بهروبه: «كنت أعبر الشوارع بريبة.. كنت أنظر بخوف إلى كل السيارات.. لعلّ بينها سيارة أرسلها الروائي لكي تدهسني».. يعجز نص الهروب إذاً عن أن يوفر لم نشئه الأمان المنشود بعيداً عن المؤلف المريض المجنون.

يتمكن المؤلف الأول من اقتحام نص الهروب، والفضاءات التي ملأت قلب البطل بالريبة والشك حتى وجد لنفسه مخبأ يتوارى فيه عن الأبصار هي فضاءات مألوفة لدى المؤلف استطاع التحرك فيها والوصول إلى البطل في ذلك المخبأ دون عناء. لم يلغ تمرد البطل مركزية المؤلف الأول في النصين، وإنشاء نص الهروب لم يفلح في زعزعة سلطة المؤلف تماماً، كما أنه لم يعزز من موقف البطل التمردي، بل أكد أن البطل هو صنيعة المؤلف وإمكاناته الانفصالية هي إمكانات خلقها هو فيه ووحده من يعرف مداها ونقاط ضعفها.

هذه الانهزامية تضع مفهوم البطولة أمام المساءلة، بل إن مفردة الهروب تنتقص من حالة البطولة كمعادل للشجاعة ومواجهة التحديات. الهارب كان مغلوباً على أمره حين تم انتزاعه من حالة المواطنة العادية ليزج به في مغامرات تكسر حاجز الجمود والرتابة في العوالم المألوفة وأمانها التقليدي. لكن المواطن المختار يتفادى اختراق المجهول على عادة الأبطال ويركن إلى انهزامية الهروب والعودة إلى قواعده سالماً. وفي نفس الوقت، فإن الهارب حين يخرج من النص يصبح بطلاً لمجرد أنه آثر التفرد والاستقلال ومارس حقه في الاختيار، حينها يصبح تمرده هو خروج عن نسق مقبول وسائد متعارف عليه. خروجه عن النص يعكس روح المغامرة وكسر حاجز الخنوع والجمود فيثبت بذلك أنه جدير بالحالة البطولية وتحدياتها. إذاً، كان دخوله في النص لا إرادي، أما هروبه فقد كان خروجاً إرادياً، وهنا بالتحديد تكمن بطولته.

وهناك مفارقة أخرى يخلقها النص حين يتبادل البطل والمؤلف مواقعهما تربك العلاقة بين السبب والنتيجة، فالمؤلف الأول هو علة وجود البطل في النص الرئيس، لكن المؤلف الثاني (البطل) هو علة وجود المؤلف في النص المنشق.. حضر المؤلف لإعادة البطل الهارب إلى النص الأول، وهو لن يقتله في النص الثاني وعلى مرأى من القارئ لأن الهدف ليس قتله في حد ذاته، ولكن قتله داخل السياق السردي الذي نشأ فيه هو الذي سيعيد الأمور إلى نصابها. في هذا الضوء يتضح لنا إصرار المؤلف على عودة البطل إلى النص ليتولى قتله حضورياً، فقتله غيابياً يتنافى مع منطقية النظام السردي للقصة الأولى، بل إن غيابه يتسبب في توقف السرد تماماً، فالصفحة التي غاب عنها 127 ظلت مفتوحة ومعلقة تنتظر عودته لنقل الأحداث إلى صفحة مقتله 128.. وهكذا فإن كتلات البناء السردي كلها يجب أن تساهم في تحريك النص، وغياب أحدها حتماً سيعطل مسيرتها.

يضع البطل ثقته في المؤلف ويعود معه إلى الصفحة التي تركها عالقة، لكن مقتله في الصفحة التالية يفتح باباً آخر لمعضلة سببية أخرى: هل كان من المخطط له أن يموت البطل في تلك الصفحة أصلاً أم أن المؤلف قد عجّل في قتله خوفاً من هروب آخر؟ هل كان المؤلف سيقتله لو أنه لم يخرج على الأقل في تلك الصفحة؟ وهل خرج لأنه سيقتل أم قتل لأنه خرج؟.

يستند هذا الربط بين المستوى السردي والمستوى الميتاسردي إلى آلية التضمين، فكل نص يتضمن نصاً آخر تبادلياً، وتتغير أنظمة الإحالة والسياق لتختلط عناصر القص وتصبح كل قصة مرآة للأخرى، السابقة واللاحقة. تلك العملية الميتاسردية تخلق حالة من التناسل بين القصتين حيث تعطي كل منهما نبضاً من روحها فيكون التوليد متبادلاً. وتخترق كل قصة البناء الميتاسردي للأخرى لتتغير مواقعهما حسب منظور التأويل، فحين تكون إحداهما هي الرئيسية المؤطِرة والناقلة، تظهر الأخرى فرعية مؤطَرة ومنقولة.

lamiabaeshen@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة