Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
فقهنة الثقافة السعودية ومأزق فاعلية التنوير
سهام القحطاني

 

لا نستطيع أن نصف الثقافة السعودية أو على الأقل هذا ما أعتقده أنا بأنها «ثقافة تنويرية» أو أننا نستطيع أن نراهن على قدرتها أن تُصبح مصدرا تنويريا، ليس لأن الأمر متعلق بالجدلية القائمة هل الثقافة هي مصدر التنوير أم أنها تابعة لمصدر التنوير؟.

إنما الأمر هاهنا متعلق بعدة إشكاليات منها إشكالية الدور والتأثير وهذه الإشكالية تقوم على عدم قدرة الراصد على ضبط دور وأثر الثقافة في حاصل الإصلاح والتعديل الاجتماعيين، وإشكالية مدى تصديق الوعي الجمعي بقدرة الثقافة على إحداث تغير وتغيير في المنظومة الاجتماعية وهذه الإشكالية تُخرج الثقافة من الحسابات الإصلاحية للقرار الرسمي الداعم لإصلاح الوعي.

ثم إشكالية العلاقة مع المرجع المؤسِس لمنظومة الفكر الجمعي، أو بالأصح إشكالية الثقافة مع «المعادل للدين» أو «قدسنّة العرف».و تلك الإشكاليات جعلت الثقافة عاملا غير مؤثر في تكوين الفعل الفكري للجماعة وتعطيل تأثيره على إرساء الإجرائية المعرفية في تنفيذ التعديل السلوكي أو الإصلاحي.

إضافة إلى أن الثقافة لا تصبح مصدرا للتنوير إلا إذا أصبحت مصدرا للتشريع، وفقدانها حق التشريع هو الذي يعطل فاعليتها التنويرية في المجتمع، مع الاعتبار في المبتدأ أن حقها في التشريع هو إشكالية قائمة بذاتها، لسببين، السبب الأول أن المجتمعات المحافظة مثل السعودية «الدين» أو المعادل له هو مصدر التشريع لا الثقافة، مما يجعل الثقافة هي تابع للتشريع الديني، والسبب الثاني أن مطالبة الثقافة بحق التشريع الذي يحقق لها فاعلية التنوير يدخلها في دائرة الاتهام «بالعلّمنة».

و التفكير في مسألة حق الثقافة في التشريع وفق مقارنتها «بحق الدين في التشريع» هو الذي يُنشأ إطار الأزمة بين معادل الدين والثقافة.

وهنا علينا أن نقف عند مفهوم الدين والثقافة، فالدين هو ما نؤمن به لا ما نعتقده، والثقافة تقوم على ما نعتقده لا على ما نؤمن به؛ لأن الإيمان محقق للثبات أو هو «اليقين الأحادي»، والثقافة هي «الاعتقاد المتغير»، لذلك فالثقافة تختص دائما بتجديد الكيفية الإجرائية أو «عصرنّة الوعي الجمعي»، وبذلك يُصبح حقها في التشريع يتناسب مع وظيفتها وفق المقرر لا المطلق.

والمقرر الذي يدعم «عصرنّة الوعي الجمعي عبر فاعلية التنوير الثقافي لقبوله العامل النهضوي ومعالجة تطرفه في التمسك بالرجعي الذي يعيق اندماجه مع العامل النهضوي والمشاركة بالتفاعل في إنتاج المكتسب الحضاري.

لا يعني أن تلك الفاعلية تقصد أو يجب أن تقصد أن تُخرج الناس من دينهم أو تحرضهم على الثورة على دينهم بل وظيفتها أن تساعد الناس على تجديد رؤيتهم نحو دينهم لتطوير مدونتهم الفكرية والتقويمية والإجرائية. وبالتالي فالحق التشريعي للفاعلية التنويرية للثقافة لا يُزاحم الحق التشريعي للدين.

وقد يقول قائل لكن القواعد الثقافية يجب أن تؤسس وفق اليقين الأحادي لِم نؤمن به؛ أي «الدين»، فكيف هي «الاعتقاد المتغير» لبنية أسست على «اليقين الأحادي»؟. و الرد على ذلك القول يكمن في أن «القواعد الثقافية» هي من اختصاص جوهر الثقافة الذي يتصف بالثبات لأنه مُؤسس على بنية اليقين الأحادي، وغالبا هو ليس من شأن «الفاعلية التنويرية»؛لأن جوهر الثقافة يتضمن المنظومة القيمية، لا المنظومة الفهميّة والإجرائية لممارسة التفكير والإنتاج، ويحدث الصراع بين جوهر الثقافة والفاعلية التنويرية في حالة اعتبار «المنظومة الإجرائية لممارسة التفكير والإنتاج» جزء أصيلا من الجوهر غير قابل للإصلاح أو التغيير.

أما «منظومة المفاهيم» التي قد تختزنها «بنية اليقين الأحادي» في «الجوهر الثقافي»فالقول فيها يتفاوت، ولعل ذلك التفاوت هو ما يجعل بنية المفاهيم جدلا قائما بين ما هو ديني والفاعلية التنويرية للثقافة. ففي حين يرى ما هو الديني أن بنية المفاهيم يجب أن لا تخضع لفاعلية التنوير الثقافي لأنها من جوهر «بنية اليقين الأحادي» وبهذا الرأي يدعم ما هو الديني»فكرة فقهنة الثقافة» أي «ممارسة الفاعلية التنويرية للثقافة» لدعم ما يُعتقد بأنه ممثل «لبنية اليقين الأحادي» ورسم الإجرائية العصرية وفق ذلك المعيار والمقاس. في المقابل ترى الفاعلية التنويرية للثقافة أن توجيه وظيفتها وفق ذلك المعيار والمقاس رجعية وتخلف، وهذا الموقف لها هو ما يدفع ما هو ديني إلى اتهامها «بالعلمّنة» لتحريضها على تجاوز «بنية اليقين الأحادي» في إجراءاتها وإنتاجها الفكري.

ومن هنا يبدأ مأزق الفاعلية التنويرية عبر حصارها «بفقهنة الثقافة».

إن مشكلة الفاعلية التنويرية للثقافة ليست «الدين» بل «ما هو ديني» ما يُعتقد أنه «معادل للدين»؛إنها قدسية العرف» التي تمارس «فقهنة الثقافة» لتحمي نفسها من «المحو والتغير».

و يكمن خطر «قدسنة العرف» على الفاعلية التنويرية للثقافة من خلال «تأليفها» «لبنية يقين أحادية» تتشابه مع «بنية اليقين الأحادي للدين»، وذلك التشابه يمكنها من إلحاق بينيها ببنية اليقين الأحادي وخداع الوعي الجمعي من خلال ذلك التشابه بأنها جزء من البنية الرئيسة لذلك اليقين الأحادي.

إن ما هو ديني «قدسنة العرف» يقوم على تأسيس بنية اليقين الأحادي بما يُروجه للوعي الجمعي مما يعتقده بأنه صحيح المفهوم والقيمة، وجماعية الاعتقاد تُلّحق ما يُعتبر صحيح المفهوم والقيمة ببنية اليقين الأحادي.

وهذا الذي «يسوّد جوهر الثقافة» عبر «فقهنتها» ويخلط الثابت بالمتحول ويُثبت المتحول، وهو ما يحاصر قدرة الثقافة على فاعلية التنوير إذا يجعل كل شيء حولها ضمن الثابت والقدسي واليقين الأحادي الذي يجب أن «تتراكم عليه» لا أن تُصلحه وتبني وفق ما تُصلح. وذلك الحصار من خلال الدفع للتراكم هو الذي يُجبر الثقافة على «العلّمنة الصورية» للبحث عن مخرج تشريعي لفاعلية التنوير، باعتبار أن من يمارس فاعلية التشريع مفاهيميا وإجرائيا يقينه مّزيّف وقابل للتغير والإصلاح ويجوز الخروج عليه وتغيير مفاهيمه.

إن مبتدأ الفصل بين الدين والثقافة كان بسبب «قدسنة العرفي» وتزييف «بنية اليقين الأحادي» عبر التشابه، وإحلاله محل اليقين مما أعاق الثقافة في أداء دورها كفاعل تنويري للمجتمع؛ إذا أصبح للمجتمع «دينان» بدلا من دين واحد، وكل دين يملك «بنية اليقين الأحادي الخاصة به، وأصبح على الثقافة أن تلتزم بوصاية «ببنية اليقين الأحادي» الأصلي والمزيّف بالتشابه.

إن إتمام الفاعلية التنويرية للثقافة في المجتمعات المحافظة لا بد أن تقوم على تطهير «الوعي الجمعي» من هيمنة «قدسية العرفي» أو تفكيك بنية اليقين الأحادي المزيفة بالتشابه والثورة عليه، لأن هيمنة قدسية العرف هي التي تُعطل الفاعلية التنويرية للثقافة بسبب اعتبارها للثقافة «مصدر عداء ليقينها» المزيّف الذي قد تكشفه الفاعلية التنويرية للثقافة للوعي الجمعي.

هل ترتبط الفاعلية التنويرية للثقافة بعلمنتها؟ أو هل فقدان الثقافة قدرتها على التنوير بسبب ارتباطها بالدين؟.

إن ربط الثقافة بالعلّمنة لتحقيق فاعليتها التنويرية هي فكرة غالبا ما تكون حقيقية، ولا يعني أنها حقيقية بأنها صحيحة.

وكونها غالبا حقيقية هو ما يجعل ردة الفعل الطبيعية من «حراس قدسنة العرف» تلجأ إلى «فقهنة الثقافة». فالمقدس «لا الدين» دائما ضد فاعلية التنوير؛لأن التنوير يُلغي المقدس ويرفع من المستوى العقلاني للوعي الجمعي الذي يقوّم ويفرق بين الصحيح والقيمة بالأصل والصحيح والقيمة بالتشابه أو التجاور، وهذه العقلانية تهدد كشف كل زائف مُلّحق ببنية اليقين الأحادي الأصلية، بمعنى أنها تمثل تهديدا لوصاية «قدسنة العرف».

ولحماية «قدسنة العرف» من الانكشاف يلجأ حراس تلك «القدسنة» إلى حصار الفاعلية التنويرية «بفقهنة الثقافة» وإخضاعها لشكية دائرة «التكفير» كلما اقتربت تلك الفاعلية من كشف زيف اليقين الأحادي الذي تروجه قدسنة العرف لنفسها.

و بالتالي فتلك «الفقهنة» هي التي «تعطّل» الفاعلية التنويرية للثقافة؛لأنها تلزمها بمراعاة ما تحسبه ضمنا «يقينا أحاديا» يُعادل «اليقين الأحادي» لمحتوى الدين. إضافة إلى أن تلك الفقهنة هي مسوغ جاهز لإثارة الصراع بين الثقافة والوعي الجمعي متى ما حاولت الثقافة ممارسة فاعليتها التنويرية لكشف زيف قدسية العرف.

وتتم جاهزية الصراع من حلال الدمج مع قصدية التعادل بين القدسي والدين، وهذا الدمج هو الذي يوهم «الوعي الجمعي» بخطورة الفاعل التنويري للثقافة على ثوابت الدين، ويخلق الصراع بين الوعي الجمعي والاعتبار التنويري للفاعل الثقافي.

عندما نقول أن علمنة الثقافة هي الضامن لفاعلية التنوير، فالعلّمنة هنا ليست الثورة على الدين، فالدين في أصل تشريعه هو فاعل تنويري، إنما الثورة على «قدسنة العرف» لأنه أصبح معادلا بخدعة التشابه لبنية اليقين الأحادي.

ولا أظن أن الاعتقاد «بفقهنة الثقافة» قد يحقق القدرة على ضبط الفاعلية التنويرية عن الانحراف وحماية الهوية الثقافية للجماعة، على العكس قد يؤدي إلى جاهزية التبرير لتطرف الفاعلية التنويرية للثقافة ووقوعها في دائرة العلّمنة الوجودية.

إن الفاعلية التنويرية للثقافة لا تتحقق إلا عبر «علّمنة الدين» تجديد مفاهيمه وإجراءاته، وليس «بتهميشه كمرجع تشريعي».

كما إن علمنة الفاعلية التنويرية للثقافة تقوم على «الثورة» على «شكلانيات المفاهيم» لا على أصل التشريع باعتبارها قيدا يشد الوعي الجمعي للرجعية وتعيق تجديد المفاهيم.

في حين تسعى فقهنة الثقافة إلى «تقديس» «الشكلانيات» باعتبارها ضامنة لفاعلية التشابه الذي أسست عليه بنية يقينها الأحادي الذي يمثلها وإن أدعت أن التمسك «بشكلانيات المفاهيم» هو حماية لرمز هوية الوعي الجمعي.

لا شك أن الفاعلية التنويرية تُصبح مأزقا لأي ثقافة لعدة عوامل منها؛ التصاعد العكسي بين الخاص والجمعي للمفاهيم ودلالاتها، عدم اكتمال الاستعداد المعرفي للتغيير الفكري عند المجموع، سيطرة وهم المؤامرة لهزيمة الهوية الخاصة، تطرف الفكر الأولي للمجتمع وهيمنته، كهنوت المعرفة التقليدية، تطرف الفكر الجديد ومبدأ المحو الذي يؤمن به كمسرع لنشر التنوير، انعزاليته عن الواقع المعرفي للمجتمع الإجرائي، تكرار لعبة «الخدعة بالتشابه» بين «اليقين الأصلي والصوريّ».

إضافة إلى «فقهنة الثقافة» وصراع «العلّمنة الثقافية مع قدسية العرف».

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة