روبرت ميردوخ مواطن أسترالي مسيحي كاثوليكي و«ليس» يهوديا كما هو شائع خطئا في المخيلة الشعبية العربية، ولكن هذا لا يغير من خطورة الأمر الذي سنناقشه هنا شيء. ولد ميردوخ عام 1931 في أستراليا، وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1985 ليتمكن من امتلاك قنوات تلفزيونية في الولايات المتحدة حسب النظام الأمريكي. ورث عن والده صحيفة أسترالية واحدة هي «نيوز ليميتد» عام 1953، ولكنه استطاع توسيعها بنجاح كبير وعبقرية فذة مثيرة للإعجاب حتى أصبح يملك ثالث أكبر إمبراطورية Conglomerate إعلامية في العالم هي مجموعة «شركة نيوز» (نيوز كوربوريشن التي تختصر عادة إلى «نيوز كورب»). وتأتي «نيوز كورب» في المركز الثالث عالميا من ناحية حجم العمليات بعد كل من مجموعتي «والت ديزني» و«تايم وارنر»، وفي عام 2009 تخطى مجمل دخل مجموعة نيوز كورب 30 مليار دولار وزادت قيمة موجوداتها عن 53 مليار دولار وكان يعمل فيها 64,000 موظف وموظفة (أصبح عددهم 51,000 في 2011 عام).
ومن المعروف أيضا أن ميردوخ داعم كبير وبشكل دائم للتيارات اليمينية المحافظة (دينية وسياسية) في الدول التي يمتلك فيها وسائل إعلامية مثل الحزب الجمهوري الأمريكي وحزب المحافظين البريطاني، وله للأسف تصريحات علنية مؤيدة بقوة للصهيونية العالمية معنويا كما أنه لا يبخل بالدعم المالي لأي مرشح لمنصب سياسي مؤيد لتيار اليمين المحافظ - وبالضرورة للصهيونية - في أمريكا وبريطانيا.
إن روبرت ميردوخ شخص إشكالي وخطر من حيث كونه يسعى لفرض إيديولوجيته اليمينية المحافظة والمتطرفة سياسيا على وسائل الإعلام التي يملكها حتى لو أدى ذلك لخرق ميثاق الشرف الصحفي المتمثل بحرية التعبير والتوازن في الطرح الإعلامي المتعارف عليهما عالميا. ويعتبر تطرفه المحافظ - في نظرنا على الأقل -لا يقل سوءا إن لم يزد على تطرف بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية. وفي مطلع نوفمبر 2010، طالعتنا وكالات الأنباء عن تأسيس جبهة من المؤسسات الإعلامية البريطانية المستقلة لتحتج وتحاول منع صفقة ينوي ميردوخ القيام بها ليشتري باقي أسهم شبكة «بي سكاي بي» BSkyB التلفزيونية الفضائية البريطانية (المشهور تجاريا ب Sky) التي ليست في حوزته حيث كان وقتها يملك فيها 39% من الأسهم فقط، وذلك ليستحوذ عليها ويصبح بالتالي هو مالكها الوحيد، فقد قدمت تلك الجبهة الإعلامية المعارضة له شكوى ضد الصفقة لوزير الإعلام في الحكومة الائتلافية البريطانية نظرا لما عُرف عن ميردوخ من عدم احترام المهنية الإعلامية وفرض توجهاته المحافظة الخطيرة على الرأي العام كما فعلت وتفعل شبكة فوكس الأمريكية خاصة عبر قناة «فوكس نيوز» الشهيرة (كما سنشرح بالأدلة لاحقا) عندما هيئت بل خدعت الرأي العام الأمريكي وجرته لتأييد حربي أفغانستان والعراق.
وفي خريف 2010 تسببت حملة «فوكس نيوز» الهوجاء في عودة الأجواء الماكارثية للساحة السياسية الأمريكية وهزيمة الحزب الديمقراطي المذلة والساحقة في انتخابات التجديد النصفية للكونغرس والتي قادها بنجاح باهر المعلق السياسي التلفزيوني اليميني المورموني المحافظ والمتطرف غلن بيك Glenn Beck في برامج تحليلية يومية على «فوكس نيوز» حيث انتقد الرئيس باراك أوباما بعنف غير مسبوق وردد مرارا أن أوباما أضاع هيبة أمريكا لأنه مصر على سحب الجيش الأمريكي من أفغانستان والعراق. وزعم غلن بيك بصراحة فجة وبدون تقديم أدلة بأن العامل المشترك الذي ربط والد الرئيس أوباما الكيني ووالدته الأمريكية هو – هكذا- «الشيوعية»!!
وبسبب عدم مهنيته الفاضحة بل واستهتاره بالحريات الصحفية التي كفلتها معظم الدساتير الغربية، قام بعض خصوم ميردوخ فكريا وهم من جمعية «موف أون» (تحركوا) MoveOn.org وهي من منظمات المجتمع المدني الأمريكي المؤيدة لحرية التعبير والمناهضة للتيار المحافظ بانتاج فيلم وثائقي عنه بعنوان مثير: «احتيال على محتال: حرب ميردوخ على المهنية الصحافية» Outfoxed: Rupert Murdoch›s War on Journalism.
وكانت جمعية «موف أون» قد اكتسبت شعبية كبرى لدى التيار التقدمي واليساري الأمريكي بعد إعلانها عن مسابقة «بوش في 30 ثانية» لرسم صورة تعكس حقيقة فكر الرئيس دبليو بوش ثم نشرت بالفعل على موقعها صورة لدبليو بوش على شكل هتلر ما أكسبها عشرات الآلاف من الأعضاء الجدد. ومن المعروف أن جمعية «موف أون» لا تقبل أي تبرع من أي شركة بل تطلب الدعم من أعضائها الذين يبلغ عددهم حاليا 7 ملايين شخص بحد أعلى للتبرع للعضو هو 50 دولارا سنويا فقط. ويبلغ طول الفيلم 78 دقيقة وهو من إنتاج عام 2004 للمخرج روبرت غرينوالد، ولم يكلف الفيلم سوى 200,000 دولار فقط لكون معظم المشاركين الذي قاموا بالتبرع بساعات طويلة من وقتهم لمتابعة تسجيلات لبرامج فوكس نيوز ورصد انحرافاتها حسب خطة موضوعة كانوا متطوعين. ورغم تواضع ميزانية الفيلم، إلا أنه كان مؤلما لميردوخ. وقد شاهدت الفيلم مؤخرا، ووجدت أن عرض بعض ما جاء في الفيلم من معلومات موثقة مفيد جدا لنا معشر العرب لاستيعاب خطورة توجهات ميردوخ لمن لا يعرفون عنه سوى الاعتقاد الخاطئ بأنه يهودي، وهذه بحد ذاتها ليست جريمة، وهو ليس كذلك كما أسلفنا.
قدم الفيلم نقدا عنيفا بالأدلة الموثقة لقناة «فوكس نيوز» ومالكها روبرت ميردوخ، مثبتا بالأدلة الوثائقية التسجيلية الدامغة أن ميردوخ يستخدم القناة للترويج لوجهات نظر يمينية محافظة متطرفة تؤدي بل أدت بالفعل إلى حروب. ويشير الفيلم أن هذا التحيز الإيديولوجي اليميني المتطرف يناقض ادعاء القناة الرسمي بأنها ذات سياسة «عادلة ومتوازنة» FAIR AND BALANCED كما تقتضي أصول مهنة الصحافة والإعلام الحر في الغرب، ولهذا يجادل الفيلم بأن «فوكس نيوز» تقوم بخداع واحتيال Fraud يرقى إلى جريمة من فئة «الاحتيال على المستهلكين» أي المشاهدين العوام والبسطاء الذين لا يفهمون دوافعها الأيديولوجية الخفية بل الخطيرة مما قد يجعلهم يشجعون أبناءهم وبناتهم للانضمام للجيش وخوض الحروب لحماية وطنهم من الخطر القادم من الشرق الذي تبالغ بل تكذب في تصويره «فوكس نيوز».
ولكن لسوء الحظ، لم يستطع منتج هذا الفيلم الوثائقي الهام عرضه في صالات السينما بسبب نفوذ وسطوة ميردوخ على الإعلام الأمريكي ويكفي أن نعرف أن مجموعته «نيوز كورب» تضم شركة الإنتاج السينمائي الشهيرة «تونتيث سينشري فوكس» 20th Century Fox التي أنتجت مؤخرا فيلم «آفاتار» الشهير الذي حقق أعلى دخل سينمائي في التاريخ (2.7 مليار دولار)، بل بالكاد استطاع المنتج بيع وتوزيع الفيلم على شكل أقراص «دي في دي»، وبيع على الإنترنت من خلال «أمازون دوت كوم» وأصبح رائجا جدا وحقق لقب «بست سيلر» بعدما نجح منتجه بدهاء في الإعلان عنه على صفحة كاملة في صحيفة «نيويورك تايمز» التي يوجد بين ناشرها آرثر أوكس سولزبيرغ وروبرت ميردوخ خلافات كبيرة وتنافس عظيم وخاصة بعد شراء ميردوخ صحيفة وول ستريت جورنال وتعهده بالقضاء على منزلة نيويورك تايمز كأهم صحيفة في الولايات المتحدة مهما كلف الأمر حيث صار يضخ المال من حسابه الخاص لتطوير وول ستريت جورنال بطريقة تقضي على شعبية نيويورك تايمز داخل مدينة نيويورك تايمز وخارجها فقد استطاع إضافة ملحق ثقافي يومي قوي جدا تفوق تقريبا على ملحق الكتب الشهير لنيويورك تايمز وسأعود قريبا لهذه الحرب المستعرة بين الوول ستريت جورنال و نيويورك تايمز في مقال مثير ومفصل بحول الله.
نعود للفيلم الوثائقي الذي يتناول بالريبة والشك دوافع وعواقب النمو العالمي المطرد لمشاريع ميردوخ الإعلامية القائمة على شراء حصص صغيرة في مؤسسات إعلامية صغيرة ناجحة ومن ثم زيادتها تدريجيا حتى يستحوذ عليها بالكامل. ويتم بعد ذلك توحيدها بالدمج مع باقي مؤسساته لكي تسحق منافسيها وبالتالي تروج لإيديولوجيتها اليمينية المحافظة المتطرفة. والجدير بالذكر أن مجوعة نيوز كورب اشترت 9% من أسهم مجموعة روتانا السعودية. ويجادل الفيلم بأن سياسة ميردوخ القائمة على توسع تدريجي مدروس لمجموعته يسمح لمستثمر واحد متطرف إيديولوجيا من أن يسيطر على مجموعة إعلامية ضخمة مما يعتبر «بالضرورة» مهددا لحرية التعبير الصحفية في البلد الذي توجد فيه المجموعة. ويرصد الفيلم قائمة اتهامات ضد «فوكس نيوز» على عدة محاور نختار منها الجوانب التالية: فهناك تغطيتها المتطرفة وطرحها غير المتوازن للآراء المؤيدة والمعارضة للحرب في الشرق الأوسط خلال الفترة التي سبقت ثم تلت حربي أفغانستان والعراق وعدم إتاحة الفرصة لمعارضي الغزو للظهور والحديث بصورة متكافأة مع المؤيدين.
ويؤكد الفيلم عبر مقابلات مع مراسلين سابقين «لفوكس نيوز» وصور لإيميلات ومذكرات داخلية سرية مسربة من القناة أن «فوكس نيوز» طلبت منهم الكذب بصراحة في تقاريرهم لدعم توجه القناة، وعندما رفضوا الكذب، طردوا من العمل. وعندما قاضوا «فوكس نيوز» في المحكمة مقدمين أدلة على ادعاءاتهم، قضت المحكمة التي رأسها قاض يميني محافظ أنه لا يوجد قانون حالي يمنع الكذب في برامج الأخبار!!
وأثبت الفيلم أن «فوكس نيوز» أعلنت عن فوز دبليو بوش عام 2000 على آل غور بالانتخابات المشكوك بصحتها قبل ثبوت ذلك رسميا مما أحدث تأثيرا شعبيا وضغطا غير مباشر على المحكمة العليا التي فصلت في الأمر لصالح دبليو بوش كما هو معروف. وأثبت الفيلم أن إدارة «فوكس نيوز» متمثلة بميردوخ ورئيسها التنفيذي روجر آيلس، وكلاهما من تيار اليمين المتطرف يفرضان أفكارهما على محتوى الشبكة بما يناقض حرية التعبير والطرح المتوازن التي تدعيها «فوكس نيوز»، وأثبت الفيلم أيضا تدخل ميردوخ وآيلس في تفاصيل التحرير لاختيار أخبار بعينها وصياغتها بما يوافق توجهاتهما اليمينية المتطرفة. وتم عرض صور مذكرات وإيميلات تحمل تلك التوجيهات.
وشرح الفيلم كيف يتم تعليق أو إعفاء كل صحفي أو منتج داخل الشبكة يحيد عن توجهات ميردوخ وآيلس المحافظة حتى على حساب الحقيقة. وشهد السيد «جون دو بري» وهو مدير مكتب «فوكس نيوز» في ولاية كاليفورنيا أنه فصل من عمله لأنه لم يتحدث ب «حماس كاف» - كما قيل له لاحقا - أثناء تغطيته ذكرى عيد ميلاد الرئيس الجمهوري المحافظ الراحل رونالد ريغان التي جرت في مكتبة ريغان في كاليفورنيا حيث قال على الهواء بعفوية: «إن المناسبة لم يحضرها سوى بضعة طلاب من الصف الرابع ابتدائي من مدرسة مجاورة».
وبالمثل شهد المحلل العسكري السابق في فوكس نيوز «لاري سي جونسون»، أن «فوكس نيوز» قاطعته وتوقفت عن استضافته بعدما قال في برنامج «الحرب على الإرهاب» بصورة عفوية وتلقائية: «لا يمكن للولايات المتحدة خوض حربين في أفغانستان والعراق في وقت واحد» حيث تم تجاهله تماما في البرامج اللاحقة لأنه كما شرحوا له: «ليس محافظا بدرجة كافية» رغم وجود عقد بينه وبين القناة بأن يكون متفرغا لخدمتها في برامجها الإخبارية دون سواها من القنوات.
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب