ذكرتُ في المقالة السابقة رفع الحرج عن السابقين في نقولهم غير المنسوبة لأصحابها، وذلك لانتفاء نية القصد في السطو على آراء الآخرين، وأستكمل هنا بقية حديثي ليتبين موقع الأمانة العلمية وفهمها، وبين سوء القصد من أخذ كلام الآخر ونسبته إلى النفس دون وجه حق.
يذكر الهاشمي - رحمه الله تعالى - في كتابه جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع أن السرقة تأتي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يسمى النسخ.
النوع الثاني: يسمى المسخ.
النوع الثالث: يسمى السلخ.
فأما النسخ فهو أن يأخذ الشخص اللفظ والمعنى معا بلا تعبير ولا تبديل، فهذا هو الذي يسمى سرقة محضة لا لبس فيها ولا غموض، وهو ما سوف أنوّه عنه في هذه المقالة بحول الله تعالى.
وأما المسخ فهو أن يأخذ بعض اللفظ ويغير بعض النظم.
وأما الثالث فهو السلخ فهو سرقة المعاني فقط، ويمكن أن توضع الكتب التي تترجم وينزع منها اسم مؤلفها منسوبة إلى المترجم وكأنه هو المؤلف من هذا الصنف.
ولعل أشهر من اتهم بمثل هذا النوع من عدم الأمانة العلمية الدكتور طه حسين، حين ذكر أنه أخذ مقالات مرجليوث ونقلها إلى العربية ناسبا إياها لنفسه، ومن هؤلاء الذين اتهموا بهذا النوع من السلخ - كما ورد في كتاب المعارك الأدبية - المازني ؛حيث اتهمه عبد الرحمن شكري بأنه يترجم شعر بعض الشعراء الإنجليز وينقله إلى قصائد دون الإشارة إليه، كما وجهت له اتهامات بأنه ترجم قصة ابن الطبيعة وأنه نقل فصولا كاملة منها في قصته الأولى «إبراهيم الكاتب».
وأعود إلى النوع الأول من أنواع السرقة وهو النسخ - نقل الأفكار بلفظها ومعناها - ما ذكره الدكتور عبد الله العطوي في كتابه - تلقي المعلقات - ص 472، أن الدكتور مصطفى الشورى في كتابه: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري قد تجاوز التوثيق في مواطن كثيرة ؛ بل ذهب إلى أن هذه المواطن من كثرتها بحاجة إلى بحث مستقل.
ويؤكد الدكتور العطوي على أن تهمة الدكتور الشورى بالسرقة ثابتة ولا يمكن الدفاع عنها.
كذلك أشار الدكتور عبد القادر الرباعي في مقال له بعنوان: السرقات الأدبية بين الأمانة العلمية وحق المؤلف» إلى اتهام الدكتور مصطفى الشورى بالسطو على بعض مؤلفاته وسرق أفكاره ومضامينها بالنص، مع الأخذ في الاعتبار أن الدكتور الرباعي كان يشير إلى النصوص في مصادره، ويذكر النصوص نفسها في كتاب الشعر الجاهلي تفسير أسطوري.
إن هذا الكلام الذي ذكره العطوي - نقلا عن الرباعي - هو مصدر القلق والخوف على البحث العلمي في العالم العربي، وذلك لأنه يشكل خطرا كبيرا على مستوى التعليم في بلادنا، ولأنه ببساطة يعود الباحثين الجدد على عدم الدقة والأمانة في التعامل مع النصوص المنقولة من الآخرين.
أو قل - بتعبير آخر - إن مثل هذا يمثل سوء القصد في عدم الأمانة العلمية عندما يكون هناك مثل هذه النوعية من سلخ النصوص وإعادة إنتاجها باسم شخص آخر ليس له من الجهد إلا القص واللزق.
إن هناك أسماء كبيرة قد عرفت بحسن سمعتها العلمية على مستوى العالم العربي، لقد فجعنا عندما سمعنا باستنساخ الأستاذ الدكتور عبد الصبور ضيف بحثا كاملا من الأستاذ الدكتور محمد الهدلق، وكلاهما علم في تخصصه، وكذلك ما اشتهر مؤخرا عن التلاعب في جائزة الشيخ زايد، وتم على إثره سحب الجائزة من الدكتور حفناوي البعلي بعد ثبات سطوه على كتاب الدكتور عبد الله الغذامي.
إن غاية ما يمكن أن أنشده هنا في نهاية المقال أن افرق بين نوعين من النقول التي تنسب إلى أكثر من شخص، فهناك نقول لم نستشعر فيها سوء القصد، وإنما كان نقلها بفهم ووعي تام وأن مجيء النص خلوا من صاحبه كان اتجاه مرحلة من مراحل الفكر العربي وهذه سمة المرحلة القديمة في أغلب التصانيف والمؤلفات.
أما النقول الأخرى التي جاءت دون الإشارة إلى أصحابها في العصر الحديث، فليس لهذا تبرير غير أنه أسيء للمعنى العام للأمانة العلمية إذا تحققت القصدية في تجاهل الإشارة.
تبوك