كتبت ذات مرة موضوعاً، وقد نشرته في مواقع وشبكات الكترونية محددة، ربما تخدم الغرض الذي أرمي إليه حسب مقتضى أهدافي المجردة من التبعية، وذات الصبغة الاستقلالية، والتي تتمحور في ساحة الحيادية، وإنني سأعاود نشره هنا مع بعض التعديلات التي أوصل بها رسالتي بصورة تحمل لوناً واحداً بعيداً عن الطائفية فلا طائفية ولا تحزبية في مساحة أوسع وأكبر للفكر والحوار، والذي كان «أي المقال» في مجمله يركز على (لمِ..؟) التقليل من جهود بعض العلماء (علماء الدين) في البحث العلمي الذي يعتمد على المنهجية العلمية والمدعم بالدليل والحجة والبرهان من قبل آخرين، لا يدركون ولا يقدرون تلك الجهود، ويرمون التهم جزافاً، بعيدين عن الاعتراض العلمي، الذي لا يختلف عليه من له إلمام بالبحث، والتحقيق والدراية، والاتساع الثقافي.
نعم ما كان من بعض حواشيهم تجاهي من قذفي بالتهم والألفاظ القذرة وإطلاق الإشاعات، بالرغم أنني لم أقف إلى جانب أيٍ من الطرفين، سواء مناهضاً أو مؤيداً، بل قلت إن الاعتراض يجب أن يكون بالدليل العلمي الممنهج لا بالرمي فقط، وأعتقد أن كلامي هذا ليس فيه ما يجعل الآخر يعترض على طرحي، خاصة أنني لم أشخص ولم أصرح بأي اسم على مسرح طرحي وساحة عرضي.. ولكن من يدرك أنه على خطأ، وأنه في المسار غير الصحيح يظن أن الكلام موجه إليه، بالرغم أنني يقيناً لا أقصد أحداً بعينه، بل طرحي كان برؤية عامة لما يدور على الساحة آنذاك، وها أنا أعتقد أن هنالك ممن يقرأ هذا المقال خاصة أن الساحة ساخنة في الوقت الراهن ويعتقد جازماً أنه هو المقصود رغم أنني لا أقصد شخصاً بعينه ولا طائفة محددة..!! عموماً ثقافتنا ربما لا تخدمنا في فهم مثل هذه الأطروحات، التي تخدم الحراك أياً كان نوعه واتجاهه ومساره، ومع هذا نظل في طرحنا لأن هنالك من يعي هذا الطرح وأهميته.. ومن اغتسل في النهر حتماً ستزول أوساخه، لو اهتم واجتهد في إزالتها..
كان هنالك الكثير ممن تعمق في معارضته ولكنه مع تفهمه وتثقفه أصبح ممن يدفع بعجلة التطور والتمنهج في مثل هذه الأطروحات، وإن كانت لا تخاطب بالدرجة الأولى إلا غير النخبوي والنخبوي أيضاً.
الثقافة السلوكية أو ثقافة السلوك، من ضمن المصطلحات الجميلة التي أخذت في الانتشار بيننا كمهتمين بجوانب معينة من الثقافة، فالثقافة مصطلح مرن يطاوعك أينما تتلاعب به يكون، مع بقاء الصبغة الأساسية له، والاحتفاظ بالبعد الجوهري لمفهوم الثقافة الحقيقي.. وفي ظل هذا التطور والتوسع في الأبعاد الثقافية وما تحمله من معنى ومفهوم تبقى فئة منا متقوقعة وتقبع في ظلماتٍ بعيدة كل البعد عما تدعيه من امتلاكها للثقافة، مهما كانت مرنة.. وانطلاقاً من هذه النقطة تبقى ثقافة اللا ثقافة تظهر هذه الأيام كموجات هجوم شاسعة وغير مدروسةِ الآثار المستقبلية؛ هذه الموجات تجاه رجال الدين والثقافة، وخاصة ممن لديهم نشاطات فكرية أو بحثية أو دراسات أو آراء أو بحوثٍ تاريخية وتحقيقية، ونتيجة لذلك أوشك التقدير والاحترام يكون بعيداً عن هؤلاء الرجال؛ هؤلاء الرجال الذين ركزوا جهدهم وابتعدوا عن ما لذ وطاب وسهروا الليالي، وقاوموا الصعاب، ورحلوا إلى هناك وعادوا إلى هنا من أجل بحث عن معلومة في مصدر أو مرجع.. وهذا الهجوم يعود إلى كومة كبيرة من الأسباب من أهمها من وجهة نظر شخصية هي ضحالة الثقافة لدى الكثيرين ممن يدعون بها، حيث ثقافتهم في قراءة الطرح أو الرأي لرجال الدين أو الثقافة ناقصة وغير ناضجة، كون بعضهم يكتفي بقراءة سطر، أو جملة، أو عبارة، أو يسمع رأياً مجرداً صادراً عن رجل دين، دون أن يكمل البحث أو أنه لا يفهمه ولا يدرك مغزاه، أو أنه يقرأه لكن اطلاعه وثقافته في هذا المجال وهذا البحث غير مكتملة ولم تصل لدرجة العمق، وبالتالي تكون غير ناضجة، أو أن توجهه غير منهجي، وليس لديه الفهم الكامل لذلك الطرح.. ومع سطحية الثقافة التي يمتلكها هذا القارئ وذاك المتصفح تقرأ وتسمع منه كلاماً لا يتلاءم وإنسان أقل ما تقول عنه إنه جاهل فكيف إذا كان ذلك الكلام موجهاً تجاه رجل دين وفاضل .؟! أليس من المفترض أن يُقابل البحث بالبحث والدليل بالدليل بعيداً عن الرمي بالحجارة حتى يكون اعتراض هذا (المعترض) على ذلك (رجل الدين) في محله، أما الرمي بالحجارة في النهر الجاري سهل وبسيط، ولكن من الصعب جداً تكوين نهر جار من الماء العذب دون ينبوع يتدفق منه ويجري.. ولا يُفهم من كلامي أنني أزكي كل من يضع على رأسه قماشاً؛ سواء قماشٍ أبيض أو قماشٍ أسود لا، أو يتقمص عباءة أو مشلحاً أو يقصر الثوب أو يطلق اللحية أو يمسك مسبحة لا، وهذا وإن حصل ليس عيباً أو نقيصة، إنما لتقمصه هو للتمظهر بزي الدين وهو خلاف ذلك في سلوكياته: أفعالاً وأقوالاً؛ هنا تكمن النقيصة، نعم يعجبني الرجل المتمظهر بهذا الزي وهو يمثله واقعاً وتجسيداً، بعيداً عن المبالغة فالله جميل يحب أن يرى عبده جميلاً.. وإنني لن أتفوه بحرفٍ واحد ما لم أمتلك الحجة الدامغة، والدليل البين الساطع، أما أن أرمي دون مستندٍ أستند عليه فهذا شيء من العبث والفوضوية، وأجده كبيرة من الكبائر، سواء الكبائر الاجتماعية والعرفية أو الشرعية، والأخيرة هي الأحق.. نعم يمكن أن أتكلم عن ذلك (رجل الدين) لو كان رأيه دون بحث أو دليل، وأنه مجرد طرح لا يعتمد على آلية البحث والتحقيق العلمي.. نعم أتوافق مع هذا الطرح لو حصل وبشروط وآدابٍ تصنفني بأنني أنتمي إلى مدرسة ذات أهلية علمية سواء انتماء نسبي أو كلي، ولكن ما هو حاصل الآن، هو أن هنالك من العلماء الذين بذلوا جهوداً جبارة في البحث والتحقيق حتى توصلوا إلى ما هو مطروح، وأخذ البعض الهزيل من الثقافة يوجهون إليهم سيلاً من الاتهامات البعيدة كل البعد عن الأخلاق الإسلامية.. نعم هنالك من هم يفتون ويجتهدون دون مرجع أو استناد فقهي وهم كثر، وهنا أنا لا أعني مثل هؤلاء الجهلة وأصحاب الوصاية لا.. وإن مثل هؤلاء لا يمثلون الدين بمعناه السماوي وإن تظاهروا به..!!
ومن السلوك الثقافية الجميلة أن يكون هذا المخالف وذاك المعارض يبحث حتى يتوصل إلى الحقيقة سواء كانت تتوافق وقناعاته أم لا، شريطة أن يكون المنهج العلمي هو منهجه، وليس موروثه واعتقاده التقليدي هو المنهج الذي يعتمد عليه.. حيث ليس كل موروث منزه وخالٍ من اللغط والهفوات، وليس بالطبع كله خطأ.
ليس كل ما هو مكتوب هو قرآن منزل، ولكن بالبحث والتحقيق تظهر الرؤية وتتضح الصورة ويُعرف الحق من الباطل ويشار إليه بأنه حق وذاك باطل.. وليس من الخطأ نفض وإزالة الغبار عن سبائك الذهب وقطع الفضة حتى تتلألأ ويبرق لمعانها، ولكن من الخطأ أن يبقى الغبار فوقها ويحرمنا من الاستمتاع بجمالها وبيان عمق رونقها.. وخلاصة ذلك أن النقد والمعارضة والتصدي لكل ما يسيء للإسلام واجب ديني، يقوم به من يمتلك مقومات المعارضة بالدليل والحجة، لا بالهجوم الهمجي والاستنكار العصبي، وأن لا يكون غرض الهجوم من أجل الهجوم فقط، لا بل يبقى صاحب الدليل هو من يكون أقرب للحق والصواب إن لم يكن هو الحق ذاته دون سواه.
تحية إجلال وإكبار لكل من يجعل ليله نهاراً في البحث والتحقيق والوصول إلى النتيجة المبنية قواعدها على أسس قوية ومتينة، وبعيداً عن التعصب والطائفية، ويكون الحوار من آليات منهجية بحثه وأخلاقيات سلوكياته.. وتظل ثقافة الحوار الهادف هي من تجعلنا في أعلى آفاق العظمة ونكون بها في سمو الأخلاق النبيلة التي اتصف بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يخاطبه الله جل وعلا: ب(وإنك لعلى خلق عظيم).
Albatran151@gmail.com
الأحساء