Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
فضاءات
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
الإبداع النسائي وقناع الكتابة (2)
لمياء باعشن

 

ثانياً: في كل المراحل السابقة تتبدل منطلقات المبدعة كتابياً، فهي تنتقل من موقع التقليد المطيع إلى موقع الثورة العارمة مروراً بالإغراق العاطفي والتفرد الذاتي والحق الاجتماعي. فهل يمكننا القول إن هذه المراحل تمثل أقنعة كتابية؟ أول نوع تقنعي يتبادر إلى الأذهان هو الأسماء المستعارة التي تلجأ إليها الكاتبة حين تنشر أعمالها، وفي حين أن كثيرا من الأدباء اختاروا التخفي وراء أسماء نسائية، إلا أن المعتقد السائد إن المرأة تلجأ إلى الاسم المستعار اضطرارا لا طوعاً، وهي قد تختار اسماً لرجل كجورج صاند وجورج إليوت، أو اسماً مجازياً كبنت الشاطئ وغادة الصحراء، أو اسماً نسائياً تمويهياً كصبا الحرز ووردة عبد الملك.

يخفف قناع الاسم المستعار من وطأة الرقابة الأسرية والمجتمعية، وهذا ما تعبر عنه الأديبة أمل الفاران بقولها: «الكتابة بقلم امرأة في قرية فضيحة في نظر أهلها، وبالنسبة لي فالكتابة تكشف موقفي من الأشياء والأحداث «. لذلك فإن قناع الاسم المستعار يساعد على الهروب من مواجهة تهم التشكيك في مواقف الكاتبة واعتقاداتها لو بدت مخالفة لما هو مقبول مجتمعياً، فهناك دائماً ذلك القارئ الفضولي الذي يصر على إحالة كل ما يدور في العمل الإبداعي وكل سلوكيات شخوصه إلى الكاتبة وكأن كل أعمالها تعكس سيرتها الذاتية. لذلك فإننا نجد بعض الراويات يتحاشين الدخول في التفاصيل الشخصية خشية أن يعتقد القراء أنها تنطلق بالضرورة من تجربة معاشة.

بناء على هذا الحرص من المرأة الكاتبة نستطيع أن نحدد النوع الثاني من الأقنعة، ألا وهو القناع الذي يفرضه الرقيب الذاتي، ويعمل هذا القناع ككابح داخلي يحد من قدرتها على التعبير عن كينونتها الأنثوية الخاصة، كما يمنعها من كسر التابوهات المحظورة ويملي عليها طريقة تعاملها مع نصوصها. تقول الكاتبة الهندية أبوري شايا ديفي: عندما كتبت قصتي بعنوان «أبي ديكتاتور» كنت أخاف أنه قد يقرأها، ولذلك أنهيتها على نبرة التصالح معه فكتبت أن آباءنا وأزواجنا يريدون مصلحتنا فقط وأن سعادتنا ستحقق بتحقيق مرادهم فينا». وتوضح القاصة السعودية سارة الأزوري طريقة أخرى يعمل بها هذا القناع: «بالنسبة لي كامرأة أحاول أن تكون كتاباتي صادقة التعبير، وأحياناً أخشى التربص الذكوري فأتلفف في حجاب كلماتي».

أما طبيعة المتخيل الروائي فتهب الكاتبة قناعاً ثالثاً من خلال اختلاق عالم افتراضي تتوارى الكاتبة خلف شخوصه وتعيرهم صوتها وتجربتها، وتمرر كل أفكارها من خلالهم دون اصطدام مباشر مع الرقباء. بصيغة الأنا التخيلية تتحدث المرأة الكاتبة بصوت عال وبحرية من خلال إيهام القارئ أن بطلتها مجرد شخصية مزيفة وليست حقيقية، فتحافظ بملازمة هذه اللعبة على تلك المساحة الفاصلة بين الحقيقة والخيال. يوفر قناع الشخصية المتخيلة كل الإخفاء والمواربة اللذان تتوسل بها الكاتبة احترازاً من إشكاليات العيب المحاصر والمكبل لإبداعاتها.

تحوي الكتابة الإبداعية كثيرا من البوح وترتكز على بعض التجارب الذاتية التي تغذيها بمصداقية وحيوية المعرفة المباشرة، لكنها تظل كتابة تخضع للخيال ويحركها الممكن والمحتمل والمأمول. تقول الكاتبة السورية سلوى النعيمي أنها عندما كانت تسأل عن تجربتها في كتابة روايتها «برهان العسل»، كانت تجيب ضاحكة: «كل ما أكتبه حقيقي، وكل ما أكتبه متخيل»، ومعنى ذلك أن الأدب ليس اعترافا ولا تصريحاً، بل هو مزيج رائع من الكشف والإخفاء، فالكتابة كما يرى الشاعر الأمريكي إي بي وايت (E. B. White): «فضح وستر في آن واحد».

وهناك من الكاتبات من تؤمن بجماليات التقنع، حينها يصبح القناع تقنية فنية تساعد على تماسك العمل الفني بعيداً عن ذات الكاتبة، وهذا ما نستشفه من وصف الأديبة السعودية شيمة الشمري لعلاقتها بالكتابة:» أتوارى بالكتابة دوماً... هذا سحرها.. ألقها وجمالها.. هذا عقدي معها». أما الروائية السعودية رجاء صانع فترى أن تمثيل الذات يفسد جماليات العمل الأدبي الذي يقدم افتراضاً عالماً يعج بشخوص لا يمتون لها بصلة: «لا أستطيع أن أكون ممثلة لذاتي في تقمص الشخصيات سواء كانت تشبهني فأكشف ذاتي للقارئ أو تختلف عني فأغطيها».

هكذا هي الأقنعة، تغطي لكي تسمح للمخبوء بالخروج في أمان. من هذا المنطلق يمكننا أن نصل إلى أن الكاتبة تحرر ذاتها الحقيقية من قيود التخفي والانزواء، لذا تستوقفنا تغريدة الكاتبة السعودية عزة السبيعي على صفحتها في تويتر: «أكتب لأمارس حريتي...»، ومقولة الشاعرة السعودية زينب غاصب التي تفسر الأمر بشكل أوضح: «هناك مسودة داخل الذات تحتاج إلى من يكتبها خارجياً يؤججها شيء ما لا تعرف ماهيته فيخرج حروفاً تكشف الواقع وتحرر الذات في آن واحد...» الحرية في القولين تعبير يثير الفضول، فلو أن القناع الكتابي يعطي الكاتبة حرية أن تكون ذاتها الدفينة دون تغطية، أفلا تكون حينها كاشفة لقناع آخر؟

في الحياة العامة لا تفصح المرأة كثيراً عما يدور في خلدها، وهي تتوافق مع الأوضاع التي تسيرها ولا تظهر إلا المقبول والمطلوب منها، أما في «لحظة الكتابة»، تقول الشاعرة المغربية ثريا إقبال، «أكون كما أنا، بلا زيف ولا قناع». في لحظة التعبير الإبداعي تخلع الكاتبة قناعها المجتمعي وتظهر ذاتها الحقيقية عارية من كل ادعاء ومهادنة. «المجتمع حفلة تنكرية»، يقول الشاعر الأمريكي إميرسون (Emerson)، «يخفي كل مدعو إليها شخصيته الحقيقية، ويظهرها بالتخفي».

أما نظرية القناع التي يطرحها الشاعر الانجليزي سامويل بتلر ييتس (Samuel Butler Yeats) فتتعدى حدود الأستار الحاجبة للأصل، وتوضح أن الكاتب يشبه الممثل في أدائه لدور مسرحي، فيختلق شخصية ويرتدي ملابسها ويتحدث بلكنتها ويتقمصها حتى في الصفات الخلقية والأخلاقية، وكلما اجتهد في أداء دوره بحرفية أكثر كلما تعاطف معه الجمهور وازداد انسجامه. تقوم نظرية القناع على التضاد بين الشخصيات وعلى الاختلافات بين الشخصية الطبيعية والأخرى المختلقة، فالهوية الحقيقية تحفزها الشخصية المصطنعة لتكوين القناع الذي لا ينتمي لأي منهما بالتحديد. يتكون القناع من الضغط الناتج عن كبت الذات الكاتبة، ليس بغرض إخفائها، ولكن بغرض تهيئة الفضاء لخروج الشخصية الدرامية. يتحدث ييتس عن نقطة اتصال واندماج يتحقق عندها التقمص الكلي، فتتلاشى الذات الحقيقية لتتمكن المختلقة من تحقيق مصداقيتها. تصبح الذات الكاتبة وكأنها مجرد وسيط فتفقد كل وعي لذاتها، تصبح الذات مجرد ناقل شفاف يمد الشخصية الدرامية بالقوة ويدعمها بالحياة.

في لحظات الإبداع الكتابي يخرج الكاتب من حدود الزمن الحاضر بالتزامات واقعه ليلتحم مع دواخله الدفينة يستمد منها طاقة مفاجئة مسخرة للمحافظة على جوهر القناع، وهذا ما تصفه الكاتبة السعودية هدى المعجل حين تقول:» أكتب إبداعا لأن التعبير الكتابي يلامس شعيرات الحس الرفيع ملامسة تربط النص بحيوات ممتدة حيث يموت المبدع ويبقى النص حياً». هذا التداخل بين الشخصية الدرامية والذات الكاتبة ينتهي إلى اكتمال شخصية جديدة ناجمة عن الالتحام، شخصية لا هي واقع الذات ولا هي محض خيال. «كيف لنا أن نفرق بين الراقص والرقصة»، يقول ييتس، «فالراقص لا يرقص طول الوقت، والرقصة لا تتحقق إلا بحركة الراقص». قناع الكتابة ليس كشفاً للذات، بل هو السبيل الوحيد لتخطي حدود الذات، هو السبيل لإعادة إنتاج الذات بشكل مختلف يتنامى من خلال التعبير.

lamiabaeshen@gmail.com جدة
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 7712 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة