في بيوتنا تكبر أعمارنا، تزداد أطوالنا، تتغير ملامحنا، تشتد مخاوفنا، تتبدل نبرات الحسرة في القلوب، تسقط بعض الأحلام، نسلك طرق الدراسة والعمل، نخرج من بيت العائلة إلى حيث بيت عائلة جديدة يبدو نحن من يؤسسها هذه المرة، بعضنا يبقى في البيت الكبير، جميع الذين خرجوا وجميع الذين لا زالوا يعيشون تحت سقفه، الجميع يؤمن ببر الوالدين وصلة الرحم، الجميع يأخذ العبرة في المال من الفقراء والعبرة في الهم من أجر الابتلاء، وجميعنا يُذكر جميعنا بالأمن في بيوتنا ودفء العائلة وواجب الامتنان .
الحب الذي غازلنا في صوت أغنية مسروقة أو في مشهد فلم ساخن، الحب الذي قرأه بعضنا في روايات عاطفية وتابعه البقية في مسلسلات من مختلف الثقافات، أصبح هو الحب الذي تسميه أمهاتنا حب الزوج والزوجة ويسميه الدعاة العِشرة في الحلال، أم الحلم الذي اختبئ تحت وساداتنا واكتفينا في كتابته على دفاتر نمزقها نهاية العام، الحلم الذي أسقط عشرة دمعات لاذعة من أعيننا واستقرت في عمق صامت لم يسمعه الأصدقاء، أصبح الآن بعد أن أنجبنا أولاداً واتصلت ذواتنا بهم هو الحلم بأن يكبروا ويكملوا المسيرة، مسيرة الدراسة والعمل والزواج طبعاً.
أم الخوف الذي كان يعيش في قلوبنا كغول يكبر ولانستطيع رؤيته أو إقناعه بحقوق الطفل داخلنا، ذالك الخوف الذي كان يوماً أن يكتشف آباؤنا أسئلتنا عن الحب العذري، وماذا يكون الفرق بينه وبين تلك الرعشات القصيرة التي تهزنا أمام المشاهد الساخنة التي حسبنا أنها حرام يقع الكافر دون المسلم فيه، الخوف الذي كان يضرب في أعماقنا خشية أن ننسى هواتفنا الجوالة في حقائب أمهاتنا أو سيارات آبائنا، الخوف من أن تسترق السمع أخواتنا الكبيرات أو الصغيرات على اتصالات صديقة تحكي مغامرتها في موعد حب، أو اتصال صديق يستعرض فيه ليلته العاشرة في شالهيات خارج المدينة، ذلك الخوف صار اليوم يشبه يأس الأمهات من ولاء الزوج وضرورات الزوجة الثانية، كبر خوف البنات وأصبح يشبه قلق الأمهات الذي لا يبرره شيء سوى الحاجة للشكوى من تغيرات الزمان وجسارة جيل جديد خسر معاني التربية العظيمة، بينما الآباء لم يورثوا أبناءهم سوى الخوف من خسارة العمل والمال، لأن البيوت ممالكهم الآمنة التي لايمكن أن يأتيهم الغدر منها.
كل شيء يكبر في بيوتنا، حتى إمدادات المياه والكهرباء تشكي شيخوختها بالطريقة التي تشبه سكان البيت، أجهزة التكييف مرضت كصدورنا من فرط الغبار الذي تستنشقه، وأجهزة الهاتف تمزقت أسلاكها كما تمزقت عشرة أحلام سرية من فرط الاستهلاك، وسائد القطن التي تهتكت وتنام مكشوفة الصدر في وسط المنزل، أعيد تنجيدها في ورشة أقمشة، بينما الرؤوس التي استندت عليها لا تزال مهتوكة الخصوصية ترفل في نعيم الجماعة، طاولة الطعام الكبيرة التي لا يجلس إليها أفراد العائلة الا بحضرة ضيوف مهمين يسعون لفتح باب النسب، لا زالت كبيرة تستطيع أن تحمل الجميع لكن الجميع أيضا لايريدون العودة للجلوس حول أنفسهم التي كبروا عنها.
كل شي تتقادم فيه السنوات في بيوتنا إلا شعور وحيد وصغير خفي لايحضر ولا يغيب، يبدو شعوراً بالذنب ليس على خطيئة سرية في حياة مضت، بل على «عُمُر» يكبر يوما قبل يوم دوناً عنا، يترك أرواحنا خلفنا، لا تعرف كيف تكبر مثله فتلبس من الأحلام والمخاوف والمشاعر مايشبه العقد الثالث أو الرابع منه، نكبر وحيدين من أرواحنا، مصابون بداء الذنب المزمن تجاه حياةٍ لم نعشها.
lamia.swm@gmail.com
الرياض