Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
أوراق
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
الالتزام بالمذهب
عبدالله السعوي

 

لا تكاد تجد مسألة فقهية إلا وثمة قدر من التجاذب يتمحور حول حيثياتها وتتباين الفعاليات الفقهية في التعاطي مع مكونات تلك الجزئية كنتيجة طبيعية تقتضيها طبيعة الحراك الفقهي الذي يتوافر على اشتراطات المواكبة. الحقيقة طبقات متعددة ولها أوجه متنوعة إلا أن الحق في ذاته واحد في نهاية الأمر فمن أصابه استوفى الأجرين ومن لم يتسنّ له الاهتداء إلى أفقه فلن يعدم - على الأقل - المثوبة المترتبة على مباشرة العملية الاجتهادية التي تم التمحض فيها لطلب إصابة الحق كما هو مقرر في الحديث النبوي الكريم الذي بناء عليه تواطأت القيادات الفقهية على نفي صوابية الانحباس التام في إطار مدرسة فقهية محددة ومصادرة ما عداها، وقد تتابعوا على تقرير ذلك وباستفاضة ملحوظة وتواردوا على التحذير من مغبة حصر التحرك في خط الانتماء المطلق لجهة أو شخص إذ مِن شأن ممارسةٍ كتلك إقصاء المغاير والحكم على المتنوع بالنفي على نحو يؤول إلى إثقال دوران عجلة المسيرة الفقهية وبالتالي تستحيل المذهبية إلى فعاليات تنافرية تغيب معها موجبات التكاملية البنائية وهذا ما يؤكده ابن تيمية في فتاواه مقررا أنه: «لا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد توارد على تقرير هذا المنحى كافة الأسماء ذات المعيار الثقيل في الميدان الفقهي وعلى سدّتهم زعماء المذاهب الأربعة الأكثر امتدادا وعمقا في العالم الإسلامي فهذا الإمام أبو حنيفة يقول:»لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه» (شرح رسم المفتي لابن عابدين ص29) ويقول الإمام مالك: «فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه» (جامع بيان العلم لابن عبدالبر 2-32) والإمام الشافعي هو الآخر يقول:»إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله ودعو ما قلت» (المجموع للنووي 1-63) والإمام احمد بدوره يقرر: «لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الاوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا» (إعلام الموقعين 2-302) وهكذا كانت تلك هي الروح السائدة وهذا هو المناخ المعرفي المتكئ على الانسجام والتناغم.

إن الاختلاف رحمة إذا لم يفض إلى تكتلات فقهية تستدعي الموروث الفقهي وتتفانى في دفعه لاحتلال مركز الدائرة بصورة يتشكل على إثرها ألوان من صور الاحتراب المشوهة لجماليات التنوع، وقد تجسد الاختلاف كحقائق واقعية ملموسة في الاجتهاد الفقهي والتنزيل الواقعي للأحكام بين سلف هذه الأمة وخيارها الأوائل ولم يُلق ذلك الخلاف بظلاله السالبة على طبيعة الروابط العلائقية بين الفرقاء، بل كان حاديا لإعلاء وتيرة التواصل وتجسيد روح التلاقح على نحو يعبر عن وعي راقٍ - بل ونادر من نوعه - لماهية الخلاف وأنه ضرورة تمليها طبيعة التكوين الجبلّي للبشر حيث تفاوُت الفهوم وتباين مستويات الإدراك والنظر ولذلك ففكرة هارون الرشيد في حمل الناس على الموطأ لم تحظ باستحسان من لدن الإمام مالك حيث لم تستهويه تلك الإشارة لأنه يدرك أن إكراه الوعي العام على مذهب بعينه أمر من شأنه توليد روح التعصب وإذكاء المشادة بين جماهير المذاهب وتصدير غير الوحي، ومنابذة أقوال فقهية قد تكون هي الأوْلى بالاعتبار، والبشر بحكم تركيبتهم الفطرية لا يجدون الأمان إلا في ظل المألوف حيث السائد فقط هو الكفيل بإشباع تطلعاتهم،

ومحصول المقالة: إن تعدد المسارات الفقهية هي ما يمنح للفقه معطيات إضافية وتمده بالتعدد الدائر في إطار الوحدة هذا من جهة وتُطامن من غلواء الاستقطاب وتكسر من حدته من جهة أخرى.

Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة