Culture Magazine Thursday  11/10/2012 G Issue 383
أوراق
الخميس 25 ,ذو القعدة 1433   العدد  383
 
ثقافة في خيمة المملكة
قاسم حول

 

خيمة ليست كالخيام، ليست خيمة من مضارب بني عامر تدفع بها الريح لو هبَّت شمالاً أو يميناً، ولا هي مثل خيمة ابن الملوح وقيس العاشق يخرج منها هائماً في متاهات الصحراء يناجي ليلاه، بل هي خيمة في حدائق مدينة Wassener الهولندية.

كنت أتوقع أشياء كثيرة وأنا مدعو إلى حفل لمناسبة العيد الوطني للمملكة العربية السعودية. كنت أتوقع أن يكون الحفل في صالة فندق كبير من فنادق مدينة Wassener، حيث يقيم الدبلوماسيون في هذه المدينة الجميلة، ولم أكن أتوقع أن أدخل خيمة دون أن أحني رأسي وأدلف في جوفها ليسألني والد ليلى العامرية «جئت تطلب ناراً أم ترى جئت تشعل البيت نارا»، لكنني وجدت الجمر فعلاً في خيمة صغيرة على الجانب الشمالي من دخولي فوق ممشى من السجاد الأحمر. وجدت جمراً فوقه دلال القهوة العربية السعودية. شيء يشبه غرف الاستقبال في المتاحف العظيمة لكبار الرسامين والنحاتين والآثار التاريخية، ولكنها معالم تراثية في خيمة. ثم وجدت نفسي في بهو عال واسع يمتد لعشرات الأمتار في مساحة مزدهرة، وهو ليس سوى خيمة ثانية هائلة مبنية بإتقان، تشكلها أوتاد عليها لوحات فوتوغرافية بوجهين، الأول حاضر المملكة والثاني ماضيها في المكان والموقع نفسيهما بين الحاضر والماضي. ثمة زاوية مزدانة بالأزياء التقليدية للمملكة. المدعوون يملؤون الخيمة العملاقة من الدبلوماسيين ورجال الثقافة والإعلام وأبناء الجالية السعودية في هولندا، الذين يدرسون العلم، ويأخذون من علومها ودقة نظامها وتطورها التقني مدافاً بحنان الشرق وجماله.

كانت تمور المملكة والقهوة العربية تشكِّل لوحات ممتعة في ممرات الخيمة العملاقة، نزل المطر ليلتها ناثاً ثم مدراراً، وفي خضم الدفء في تلك الخيمة شكّل إيقاع المطر نغماً موسيقياً أضفى من الرومانسية على المكان، ولم تسقط منه قطرة واحدة داخل الخيمة، فكأننا في قصر من رخام، وكأن المطر ليس سوى مؤثر صوتي في فيلم ملحمي أو مسرحية ملحمية لتاريخ كامل لمملكة كاملة.

كانت الألحان التراثية للمملكة تشكّل خلفية هادئة، تضفي على الأجواء الفرح الأنيق المتحضر، وحيث هدأت الأصوات ليتحدث سعادة سفير المملكة الأستاذ «عبد الله عبد العزيز الشغرود» عن العيد الوطني، ويعرج في كلمته على العلاقة الثقافية والعلمية بين المملكة العربية السعودية ومملكة هولندا، فأعطانا عبر كلمة بليغة وبالأرقام معلومات لمسارات التعاون الاقتصادي والثقافي بين المملكتين السعودية والهولندية.

في 23 سبتمبر من العام 1932، الموافق الحادي والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1351 هجرية، صدر المرسوم الملكي بتوحيد مقاطعات الدولة التي تحولت بموجب هذا المرسوم إلى «المملكة العربية السعودية»، وأصبح هذا التاريخ فيما بعد يطلق عليه اسم اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، وكان سمو الأمير عبد العزيز آل سعود أول ملك عليها.

كل شيء كان محسوباً.

أنا وقفت مدهوشاً إزاء دقة التنظيم وأناقة الطعام وصفوف وصنوف التمر تتوسطها دلال القهوة وفناجينها. كأني بالملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يقف بين مواطنيه قائلاً «ما من رجل، مهما بلغ من المنازل العالية، يستطيع أن يكون له أثر وأن يقوم بعمل جيد إذا كان لا يخشى الله».

أخذتني الخيمة بعيداً وأنا في داخلها. تصورت الحاضرين يأخذون أماكنهم مسترخين على سجاد ومخدات وأمامهم فناجين القهوة المرة والخيمة مطفأة الأضواء، وثمة شاشة عريضة تبث التاريخ العريق وتتوزع الأصوات مجسمة في كل صوب، ذلك التاريخ الذي دونه بالحدث صاحب حلم وصاحب وعد وصاحب كلمة.

كان يمكن أن تتوج كل سفارات المملكة ومحافلها داخل المملكة وجامعاتها في ذكرى عيدها الوطني بفيلم استراتيجي مركزي متقن، ومن ثم أفلام وثائقية وقصيرة عن تاريخ المملكة ومراحل نهوضها وتكوينها؛ ليتعرف المحتفلون بالعيد بتاريخ لم يكن سهلاً. بداية وضعت أسساً راسخة أوصلت المملكة إلى ما وصلت إليه؛ لنرى الملك عبد العزيز من خلال الشاشة الفضية ضوءاً يرى الحاضرون من خلاله المسار الصعب الذي أوصل الأجيال إلى المسار السهل. فالثقافة تكمل البناء، وتعطيه معنى، وتجعله متألقاً في حقيقته؛ لأن الثقافة إذا ما وضحت عكست الحقيقة. ولي في تأرخة الباحث الاجتماعي العراقي الكبير الدكتور علي الوردي في مؤلفه السادس من الصدق ما يدهش في توثيقه لتاريخ مؤسس المملكة.

كنت أتمنى بوصفي سينمائياً أن أرى ذلك التاريخ يتجسد على الشاشة البيضاء بالصورة والصوت؛ كي نرى الماضي بعين الحاضر والحاضر بعين المستقبل.

كان الاحتفال في خيمة المملكة في هولندا ثقافياً؛ فهو لم يكن سياسياً فحسب. كانت هناك ثقافة الصورة الثابتة، وثقافة الموسيقى واللحن والصوت، وثقافة الأناقة والتحضر، في خيمة اتسعت ليس فقط لعدد الضيوف ومستواهم الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل أيضاً لحجم العواطف والمحبة.

شكراً سعادة السفير.

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا s ununu@ziggo.nl

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة