يلتقط القارئ لرواية مدونة هيكاتيوس للكاتب محمد النجيمي خيطاً رفيعاً من معاناة الوعي ومعاندة الحياة حينما يهيل الراوي من ذاكرته الكثير من الصور القديمة والمعاني الأليمة التي تتساقط من الذاكرة كنفاضة الخُرج أو الجراب.. ذاكرة يوردها الكاتب النجيمي معتمداً على عصف ذهني مولع بشغف نقد الذات ومشاغبتها علها تستيقظ لتبوح ما يعتلج فيها.
فالراوي الذي يتفنن في صياغة الحكايات على منوالين أو وجهين يتمثلان في الرؤية الشخصية البحتة والأخرى رؤية تسعى لاستدعاء الزمن القديم.. ذاك فرط ما تخبؤه الذاكرة من هواجس وظنون يبدع الكاتب في اقتناصها إلا أنه لا يحرك الشخصيات بما يكفي لتسهم في صنع حدث ما، فضلا عن ذلك فإن الكاتب عمد إلى جعل الزمان في النص عاماً ورحباً فيما يأتي المكان مستسلماً لنزوات الإشارة والتلميحات والمرور الوَجِل على تفاصيل حياة تعسة تعيشها شخصيات النص دون اكتراث ببيئتهم وأماكنهم المحملة في هذا النص على مفاصل إيماء عابر.
فعنصر الزمن في هذه الرواية يؤسس مجد حضوره على الدهشة والإغراق في تفاصيل حكاية الخلق والكائنات الجميل منها وما دونه.. تطواف مشبع في نقل الصور الجمالية والرؤى الوجدانية والمقولات الآسرة والمأسورة على الدوام بعلامات التنصيص التي عني فيها الكاتب ليثبت للقارئ أنها يرغب في بسط حديث الألفة والوداعة والبحث في مضامين التاريخ بل وحتى الأساطير على نحو تناغم المقولات بين الراوي الأنا وبين منقولات مفترضة على لسان «هيكاتيوس» الذي يعد بحق علامة بارزة في بناء النص.
يعمد الكاتب إلى التداعي الذهني والوجداني وتفتيت صخور الحكايات الصلدة لتكون جرعة سائغة أمام القارئ ليمتزج النص الشعري بالنغم الغنائي بالخاطرة بالوجدانيات بكل ما تحمله دلالات الواقع.. بل أن النجيمي يجعل من نصه رؤية مستبطنة لواقع تاريخي ظل لقرون عاصفا مدوياً ومؤثرا في الذائقة وأحاسيس التلقي.
فنحن أمام نص لا يحمل سوى تداعيات الخاطر ولا يكشف سوى مزيد من الرؤى دون ولوج في الحدث أو تفعيل لدور الشخصيات أو تدوير لمنطق الحكايات لعلنا نقلبها على أوجه عدة.. لكننا بتنا بمواجهة نص يقرأ الذاكرة والسيرة ويصوغ منها تفاعلات آنية تقرب المنظور البعيد لحكاية الإنسان منذ القدم وحتى يومنا هذا.
فالرواية هنا تبدو بالفعل مدونة مفترضة تميل إلى القراءات السجالية لممرات الفكر ودهاليز الذاكرة التي تساقط على أثر الحكاية شيئا من فتات القول وبوح الذكريات التي تنهل من معين لا ينضب يتمثل في سحر البوح وعشق الراوي لحديث يناوش فيه الجنون حينما يخرج الحكاية من كنهها الواقعي إلى ما سواه من صور عالية الحساسية ومفرطة في تناولها للمقولات التي تفند الواقع وتجعل أكثره مجرد خيال أو ذكريات موغلة في رتابتها.
لغة الرواية عالية التكوين وملهمة في معانيها ودلالاتها، إذ أن الكاتب عني وعلى نحو واضح لا لبس فيها أنه معني بلغة هذه الحكاية حتى وأن كان على حساب عناصر السرد الفني فقد شغف في استظهار صورة الرمز الإنساني الذي يفند الكثير من ما كان يجزم فيه.. بل أن طرقه من قبل شاب يبحث عن الحقيقة كان قميناً بتسجيل موقف إيجابي للنص كان يكون شهادة سردية فلسفية تتوق إلى فرز المعاني وتصفية جوهر المقولات المتراتبة أو المتواترة منذ أمد دون أي تدخل عقلي يمكن أن يقوم بصياغتها من جديد.
في خواتيم الرواية أو ما يقال عنه لحظة التنوير أن الكاتب عمد إلى شرح وإيفاد بعض الحكايات المألوفة مع تداخلات تبريرية تؤكد أن النص يسعى إلى إيجاد حالة من الوعي العام الذي يذهب في أعماق التصور الإنساني للكثير من مكونات حياتنا غريبة الأطوار.. فهو هنا يضعنا أما خليط متراكم للمقولات والمنقولات بغية التأكيد على أن حياتنا هي مثل هذا المزيج الرائب من الأحداث والكوارث والمصائب والطرف والأمثال والمقولات التي لا يحسن فينا أن نتجاهلها إنما نعمل عقولنا فيها لكشف المزيد من مغاليق قصصنا وحكاياتنا المتحولة في شكلها، والثابتة في مضمونها منذ الأزل.
* * *
إشارة:
مدونات هيكاتيوس(رواية)
محمد النجيمي
مؤسسة الانتشار العربي - بيروت - 2012م
تقع الرواية في نحو 72 صفحة من القطع المتوسط