* * أوحى الزمن بالتوجه للأشخاص؛ فالحرب متقدة والحرابُ موجهة والجميع يتربص بالجميع، وباتت شؤون الثقافة ومصطلحات الأدب مشاعًا لمن تخصص ومن تلصص، ولا يدري صاحبكم ما الذي حسم أمر نأي الجزيرة الثقافية عن معركة الحداثة؛ فلا يذكر توجيهًا محددًا تلقاه كي يلتزم مقاعد الحياد حينًا والفرجة أحيانًا، ولو أنه آمن أمسِ – كما يؤمن اليوم – أن الركض خلف عناوين الإثارة في الميدان الثقافي خللٌ منهجي؛ فكل الغبار المتطاير سيهدأ يومًا، وستصفو الرؤية عن تلاقٍ وربما تماثل، وقد تابع معارك الرافعي ومبارك وطه حسين ومدرسة الديوان والجاسر والأنصاري وغيرهم، وأيقن أنها تستنزف طاقاتٍ ذهنيةً هائلة ثم يعود الحداثي تقليديًا، والمتشددُ متسامحًا؛ فلم العناءُ وإلام الخلاف؟
* * ركزت ثقافة الجزيرة على الاهتمام بالكتابات الواعدة من جانب، والدراسات والأخبار والتقارير من جانب، لكنها لم ترد أن تنام في وسط صاخب؛ فكانت كتابات صاحبنا (ابن جني) رميًا لحجرٍ صغير في بركة مضطربةٍ؛ فأثارت قليلاً، وتلونت بالرؤيةِ التقليدية أكثر، وتوجه أبو الفتح (والمقصود: أبو نايف) للأسماء الكبيرة يحاكمها بمشرطٍ حاد لم يصل حدَّ الجرح وإن أدمى وألهب.
* * أثار «ابن جني» إشكالاتٍ رقابيةً تمثلت في احتجاج من كتب مناوئًا لهم، وسعوا لمعرفةِ شخصيته، لكن الكتمان ميزةٌ اعتادها صاحبكم حين يقرر ألا يتكلم، مع أنه مهذارٌ إن رأى غيرَ ذلك، ولا يعلم –رغم مرور سنوات على كتابات هذه الشخصية المقنَّعةِ– هل ما يزال مجهولاً لدى القراء والمتابعين وراصدي الحراك الثقافي؛ وبخاصة أن صديقنا الكبير الأستاذ محمد القشعمي أصدر كتابًا في الأسماء المستعارة، ويذكر صاحبكم أن ثمة ألقابًا بقيت مجهولةً حتى اليوم؛ ومنها «فتى عنيزة» الذي كان ينشر شعرًا جميلاً قبل أكثر من نصف قرن، ولا أحد يجزم بهويته؛ علمًا أن الأستاذ الراحل عبدالله الجلهم قد نشر تحت هذا اللقب في وقت متأخر عن «الفتى الأصلي».
* * سيدع اسم «ابن جني» دون كشف كي يختبر ذاكرةَ المعنيين بالثقافة، والشداة منهم بشكلٍ أخص، ولعل أبا الفتح الذي كنيته «أبو نايف» يكتب تجربته الحقيقية بما لها وما عليها لتكون ضمن التوثيق المطلوب للمرحلة المنسية من تأريخ الحراك الأدبي والثقافي في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية.
* * سارت الرحلةُ رخاءً في معظم فترات إشرافه على الصفحة الثقافية، وخلت من المكدرات في ظل انزواء الصحيفةِ وانكماشها الجماهيري إيثارًا لمبدأ السلامة وسد الذرائع و»الباب اللي يجيك منه الريح»، لكنه لم يكن مسؤولاً ثقافيًّا فقط؛ فقد كان كاتبًا ملتزمًا في باب ال»هوامش الصحفية»، وهو ما عرضه لانتقاداتٍ معقولة حينًا ومتجاوزة حينًا، ولكن أقساها ما كتبه أحدهم في سلسلة طويلةٍ لم تبقِ في قاموس الهجاء مفردةً لم توظفها؛ ولها حكاية قادمة بحول الله.
Ibrturkia@gmail.com
twitter:@abohtoon