ترجمة وتعليق - حمد العيسى:
هذه مقالة للكاتبة الأمريكية سوزانا دانيال وهي مقالة فضفضة شاعرية لطيفة وطريفة وهامة لأنها تحكي حال معظم المبدعين والمبدعات الجادين، ونشرتها مجلة “سليت دوت كوم” بتاريخ 16 يوليو 2010، وتحكي فيها عن هم روايتها الأولى والوحيدة “ستيلتفيل” التي استغرقت عشر سنوات في كتابتها. و”ستيلتفيل” هو اسم شاطئ بحري جميل في ولاية فلوريدا حيث نشأت الكاتبة. سوزانا دانيال كاتبة أمريكية نعتقد أنها من مواليد عام 1975 تقريبا بحسب صورة لها على مدونتها وهي طفلة تلعب على شاطئ ستيلتفيل، وهي متزوجة ولديها ابن وتعيش حاليا في ولاية ويسكنسين.
لماذا تأخرت روايتك طويلا؟
بالتأكيد هناك كلمة - على الأرجح في اللغة الألمانية - تعني حالة “عدم الإنجاز النشط”. ليس فقط الفشل في الوصول إلى هدف محدد، ولكن الفشل اليومي المستمر في الإنجاز مع عدم وجود نهاية لتلك الحالة في الأفق. إنه توقف للطموح مع قدرة مخيبة للأمل جعلني محبطة وحزينة ويأسة وضجرة من نفسي طوال عقد من الزمن.
أيا كان اسمه، فهذا ما يقود الناس إلى التخلي عن تحقيق أهدافهم - الناس تفعل ذلك كل يوم. وأنا أفهم هذا القرار، لأنني عشت في هذه الحالة المرعبة من “عدم الإنجاز النشط” لسنوات عديدة.
لقد كتبت جزيئا صغيرا من ما أصبح لاحقا روايتي الأولى “ستيلتفيل” في يناير عام 2000، عندما كنت في سنتي الأولى من برنامج الدراسات العليا للكتابة الإبداعية. وفي مايو من عام 2009، بعت “ستيلتفيل” لدار هاربر كولينز ونسخة الغلاف الصلب (هارد كوفر) سوف تصدر الشهر المقبل.
وهذا يعني أن الوقت من بداية فكرة روايتي حتى وصولها إلى رفوف المكتبات استغرق - ويا للهول - ما يصل إلى 10 سنوات مرعبة. أي عقد كامل في خلاله تخرجت وقضيت سنة زمالة (كتبت خلالها الكثير ولكن فقط نصفه كان جيدا)، ثم جاءت سنوات التدريس (كتبت خلالها قليلا جدا، ولا يكاد أي منه أن يكون جيدا)، ثم هناك كانت سنوات العمل في شركة الإنترنت (التي أثناءها تقريبا لم أكتب شيئا على الإطلاق).
لحسن حظي، كانت “ستيلتفيل” رفيقة طيبة لي ولم تشتك مني مما أشعرني بالاطمئنان. هناك حشد من الروايات التي أخذت عقدا أو أطول لكتابتها، بما في ذلك بعض الأمثلة الشهيرة، مثل جونو دياز في “الحياة العجيبة القصيرة لأوسكار وو”. تكلم دياز في مقابلات حول عقد قضاه من “عدم الإنجاز النشط”. وقال إنه بعد خمس سنوات من بدء العملية قرر التخلي عن الرواية والبدأ في الدراسات العليا (في ماذا؟ لم يقل!!). وأضاف إن حياته تحسنت بعدما تخلى عن إنهاء روايته: لا تعذيب ولا معارك مع خطيبته. أوه، جونو، لقد اعتقدت عندما قرأت هذا أنني أفهمك! ولكن بالرغم من هذا، سحبه شيئا ما للعودة لروايته ليقضي خمس سنوات أخرى وينجح أخيرا في إنهائها.
وفاز بعدها بجائزة بوليتزر وهي أهم جائزة أمريكية، وهذا لن يحدث لي بالطبع!! وأعتقد أنني أستطيع التحدث عن أي شخص تقريبا من الذين يستغرقون عشر سنوات لكتابة رواية: سواء فزتَ بجوائز أو لا، هذا لا يهم مطلقا. الجزء الأصعب والأكثر أرضاء للنفس هو “إنهاء الرواية” مهما كان مستواها.
فعل الكتابة نفسه أمر صعب. الكتاب يقولون هذا كل الوقت، وأعتقد أنه لا يصدقهم في الغالب سوى الكتاب الآخرين. ولكنه - في تجربتي - ليس بمثل صعوبة “عدم الكتابة”!!
وطوال السنوات التي كان يجب أن أكتب فيها، فكرت في روايتي دائما. وعلى نحو متزايد، لم تكن هذه الأفكار سعيدة أو مرضية. لقد أصبحت “روايتي” (التي كنت قد بدأت أسمع حواراتها في رأسي) أقرب إلى أن تكون عدوا من حبيب. الشخص وعمله الإبداعي يكونان في علاقة تشبه إلى حد كبير “الزواج”: عندما يكون جيدا، فهو جميل، وعندما يكون سيئا، فهو قبيح. وعندما يكون سيئا لوقت طويل، عندها يجب أن تبدأ التفكير في “الطلاق”.
صديقي بوب، وهو كاتب مسرحي، قال لي قبل سنوات إنه عرف أخيرا كيف “يتوقف” الكتّاب عن الكتابة، حيث قال لي: “يحدث ذلك بالتدريج يوما بيوم” كما لو كان في خضم وحي. لقد وصلت لنفس الإدراك قبل بضع سنوات. ففي السنوات ما بين تصور فكرة روايتي والانتهاء من كتابتها، لم يمر شهر واحد دون أن يكون عندي هدف كمي لمواصلة الكتابة: خمس صفحات أو نصف فصل في الأسبوع، ولكن في معظم الشهور لم أحقق هدفي، ولم أكن حتى قريبة منه.
المقصد هو أن “يوما بيوم” هي الطريقة الأكثر ألما لحدوث حالة “عدم الإنجاز النشط”!! إنها المعادل السيكولوجي للموت بسبب ألف جرح من شفرة حادة. قالت لي رسامة تعرفت عليها إنها - ذات مرة - وصلت إلى نقطة قالت في ها وداعا للرسم، تقريبا بنفس الطريقة التي مر بها جونو دياز، وقالت إن ذلك كان أفضل عمل كريم وعطوف فعلته لنفسها!!
أعرف الكثير من الكتاب، من الذين نشروا كتبا أو لم ينشروا. ولذلك، أعلم أنه “لكل” كتاب يصل لرف المكتبة، هناك العديد من الكتب لا تنشر ولا تصل للرف مطلقا، وهناك كتب أكثر بكثير - ويا للأسف - لا ينهيها كتابها وكاتباتها مطلقا. العديد من أصدقائي ومعارفي في برنامج الدراسات العليا للكتابة الإبداعية نشروا بعد التخرج على الفور، ولكن معظمهم لم يفعلوا. ولا شك أن بعضهم سينشرون في السنوات المقبلة. ولكن توجه بعضهم إلى العمل الاجتماعي أو القانون أو الطب، ويبدو أنهم تركوا - بسعادة - كتابة الرواية خلفهم، مثل تسريحة الشعر القديمة.
وماذا عن البقية؟ هؤلاء هم الناس - وكثير منهم كتابتهم جميلة - الذين أتساءل عنهم. وأتساءل أيضا عن الغرباء في حالات مماثلة أي المبدعين في جميع الفئات. أتساءل عما إذا كانوا يستيقظون في جوف الليل، وهم يلهثون لأن قلوبهم تنبض بسرعة، وغير قادرين على الشعور بأي شيء سوى الخوف والإحباط من حقيقة أنهم لم يكتبوا أي شيء منذ شهر. وأتساءل عما إذا كانوا مثلي. وتخميني هو أن العديد منهم مثلي، وبطبيعة الحال أشعر بتعاطف هائل. ولكوني عشت هذه التجربة من “عدم الإنجاز النشط”، أعلم أنه لا توجد كلمات سحرية للتشجيع، ولا تكتيك مضمون يفك هذه المعضلة، وكم كنت أتمنى لو كان هناك شيئا كهذا.
كان يمكن أن تتوجه “ستيلتفيل” في أي الطريقين: الإنجاز أو التوقف، والأخير يشعرني بقشعريرة مزعجة. ولكن قبل بضع سنوات، حدثت ثلاثة أشياء أعطتني الدفعة التي كنت أحتاجها.
أولا: وصف صديق مقرب اسمه جن روايتي بتهكم بأنها “الرواية الأمريكية العظيمة” GAN (تعليق المترجم: وهو مصطلح أدبي أمريكي The Great American Novel توصف به الأعمال الروائية المتميزة أسلوبا ومضمونا، والتي تعبر عن روح عصرها. انتهى تعليق المترجم). لم يكن الأمر أنني لم أدرك أن هناك نوعية ملحمية وشيء ميؤوس منه في تلك الرواية اللعينة، ولكنه وصف ساخر حرك شيئا في داخلي لسماعه بصوت عال.
ثانيا: التقى أستاذي السابق في برنامج الكتابة الإبداعية مع صديق كاتب، وسأله عني. لقد قال أستاذي لصديقي إنه يأسف لأني لم أكن أكتب بصورة متواصلة لأنني كنت متميزة في صفه. ولربما كان كلام أستاذي مجرد حشو قاله لملء تلك المحادثة العارضة، ولكنه كلام أنعشني بطريقة لا يفعلها المديح المفاجأ حتى رغم كون كلامه كان في جوهره حزينا لعدم مواصلتي الكتابة.
ثالثا وأخيرا: استيقظت ذات ليلة في خضم نوبة ذعر Panic Attack طفيفة. ليس من غير المعتاد بالنسبة لي أن أستيقظ في منتصف الليل قلقة وخائفة، وكنت أعرف دائما مصدر الذعر على الفور. ولكن كان من النادر أن يتنبه معي زوجي ذي النوم الثقيل في نفس الوقت. وبدلا من تطمينه والسماح له بالعودة إلى النوم، قلت له الحقيقة العارية. قلت له إنه إذا لم أكمل روايتي، فأنا أعتقد أن سعادتي في المستقبل قد تكون معرضة للخطر. مسح عينيه ثم قال وهو يتثاءب: “حسنا، دعينا نفكر كيف نحقق ذلك معا”.
لم يحدث الفرج بين عشية وضحاها، ولكن حدث تحول تدريجي في مسار حياتي. تخلصت من بعض الالتزامات وبدأت أستيقظ “مبكرة” للكتابة لمدة ساعة أو ساعتين قبل مغادرة المنزل للعمل في شركة الإنترنت. وبالطبع، حدثت بعض المعوقات لاحقا، الانتقال من المدينة والحمل، ولكن ليس لفترة طويلة. وبعدما كتبت الجملة الأخيرة، قمت بطبع كل تلك الفوضى الكتابية كاملة وأخرجت قلمي الأحمر مع شعور لا يوصف بالراحة للتخلص من ثقل جبل كان يجلس على ظهري. كان لدي المزيد من الطاقة للكتابة أكثر مما كنت أمتلك قبل سنوات. وعند هذه النقطة، لم يكن يهمني أن السماء ستقع على الأرض وتسحق جميع دور النشر، فقد كنت على يقين بأنني سوف أشاهد قريبا كتابي مطبوعا وهو على رف مكتبة.
وفي النهاية، لا أعتقد أنني حقا استغرقت عشر سنوات لكتابة “ستيلتفيل”. فليس هناك تاريخ بدء بالضبط (على أية حال، أول كلمات كتبتها في بداية الرواية حذفت في البروفة النهائية)، وبالتالي فإن عملية الحساب غامضة جدا. إليكم كيف يعمل الحساب في رأسي: استغرق الأمر سنة واحدة لكتابة النصف الأول من الرواية، وسنة ونصف أخرى لإنهاء البقية، ثم أسابيع قليلة لبيعها، وأخيرا 18 شهرا لعملية النشر من أجل أن تراجع وتطبع وتصل لرف المكتبة.
ولكن بين النصف الأول والأخير للرواية لا أستطيع أن أنكر أن هناك أربع أو خمس سنوات فشلت فيها أن أكمل فصل واحد. أي “يوما بيوم” من حالة “عدم الإنجاز النشط”!!
الجميع يعلم أن الخط الفاصل بين النجاح والفشل يمكن أن يكون رفيعا جدا. ولكن حقيقة أن الأمر استغرق مني وقتا طويلا أصبحت تطاردني أقل وأقل في هذه الأيام، وأجد نفسي أتطلع إلى المستقبل بدلا من الماضي. فعلى كل حال، وكما يعلم كل كاتب “إنهاء” الرواية يحل المشكلة. ويمكن أن ينجحك أو يكسرك!! انتهت المقالة.
ملحق للمترجم
كما ذكرنا سلفا، نشرت مقالة سوزانا دانيال مجلة “سليت دوت كوم” بتاريخ 16 يوليو 2010. وصدرت روايتها “ستيلتفيل” في 326 صفحة عن دار هاربر بتاريخ 3 أغسطس 2010. وتقريبا بعد سنة من صدورها، فازت “ستيلتفيل” بجائزة منظمة بن الدوليةPEN International (فرع أمريكا) للرواية في 10 أغسطس 2011 بالتشارك مع الكاتبة دانييل إفانز عن روايتها “قبل أن تخنق نفسك الغبية”. وكانت الجائزة الممنوحة باسم جائزة بينغهام مخصصة لكتاب الرواية الجدد الموهوبين بشكل استثنائي في الرواية الأولى Work Debut. ومنظمة بن الدولية تعتبر اقدم منظمة في العالم مهتمة بالأدب وحقوق الإنسان حيث تأسست في لندن عام 1921 كرد فعل على حالات الكراهية العرقية والوطنية التي سببتها الحرب العالمية الأولى. ولها فروع في معظم الدول المتحضرة. ولكن الخبر الرائع موجود في مدونة سوزانا دانيال حيث ذكرت إنها شرعت في كتابة روايتها الثانية وكأنها نسيت عذاب العشر سنوات من حالة “عدم الإنجاز النشط”، ولعل هذه رسالة وهدف مقالتها التي تريد أن تصل لجميع الكتاب والكاتبات: لا تتوقفوا ولا تيأسوا مطلقا حتى لو عشتم رعب حالة “عدم الإنجاز النشط”!! فهل تفعلون؟؟ أرجو ذلك!!
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب