3- من «دبي» إلى «جنوبي إيران»:
لم يكن التنقل بلا جوازات سفر أو هويات، في ذلك الحين، قاصراً فقط على مشيخات الخليج العربية, بل كان السفر منها إلى الساحل الإيراني المقابل هو الآخر بلا تلك الجوازات والهويات، حتى إنك وأنت تغادر سفينتك وتنزل إلى البر، لن ترى أي موظف رسميا أو حتى رجل أمن ليسألك من أنت؟ ومن أين قدمت؟ وإلى أين أنت ذاهب، وكأن البلد الذي وصلت إليه بلا حكومة!
كان لأخي علاقة عمل وتجارة مع بلدات، وبعض مدن ذلك الجانب من الخليج العربي، سواء الساحلية منها «كبندر عباس» و»لينجه» و»جارك» تلك التي تقابل مباشرة «دبي»، أو الجبلية التي تقع في داخل الجنوب الإيراني، وهي بلدات صغيرة معزولة تتناثر بين سلاسل الجبال وعلى سفوحها في ذلك الجزء المعزول من إيران، فكان التجار الإيرانيون يأتون إلى «دبي» بصورة خاصة، لشراء ما تحتاجه مناطقهم من سلع ومواد غذائية، تلك التي يشترونها بثمن مناسب ثم يبيعونها في بلدهم فيجنون بعد بيعها الربح الوفير، وكانوا يبحثون، بصورة خاصة عن مادتي الشاي والسكر اللتين شحتا أثناء الحرب، واستمر شحهما حتى بعد انتهائها، وكان التجار في «دبي» ومنهم أخي - يجمعون الكميات التي يحصلون عليها ثم يبيعونها إلى التجار الإيرانيين، وكان بعض هؤلاء الإيرانيين يعملون كذلك وسطاء وسماسرة للتاجر العربي الذي يجهز الوسيط بالبضاعة من السكر والشاي وغيرهما، فيأخذها ويعبر بها الخليج إلى إيران، فيبيعها ويعود أدراجه بعد مدة قد تطول وقد تقصر، فيحاسب التاجر ويعطيه حقه، ويستلم هو عمولته أو أجر وساطته المتفق عليها، ثم يزوده ببضاعة جديدة، وهكذا يستفيد الطرفان كلاهما! وهذا ما كان يفعله أخي، فقد تعرف على وسيط إيراني جربه فوثق به، وصار يزوده بالبضاعة فيعبر بها الخليج ثم يبيعها في منطقته، فيعود بعد مدة وقد باع ما لديه، فيتحاسبان، ويستلم كل منهما نصيبه، والثقة هي القاسم المشترك بينهما!
وفي إحدى سفرات هذا الوسيط، وقد زوده أخي بكمية جيدة من السكر فقط، تقدر قيمتها بعد بيعها بخمسة عشر ألف روبية، والتي ذهب بها، ولكنه لم يعد في المدة التي اعتاد هو أن يعود فيها، ومضت الأيام، ومرت الأشهر والرجل لم يأت، حتى يئس أخي من عودته، فساوره القلق، فالمبلغ في حساب تلك الأيام كبير، والخسارة باهظة، عندها اقترحت عليه أن يدعني أسافر إلى بلد الوسيط الذي نعرف اسمه، ولكن نجهل مكانه، وكل ما نعرفه أنه يقع جنوبي إيران، وفي منطقة جبلية وعرة، ليس من وسيلة للوصول إليها سوى قوافل الدواب من الخيول والبغال والحمير، كما أن دروبها من خلال الجبال والأودية محفوفة بالمخاطر، ولا بد لمن يريد أن يسلكها أن ينضم إلى قافلة يحسرها مسلحون، لانتشار اللصوص وقطاع الطرق، ورغم ذلك كله، فقد أصررت على السفر إلى بلدة الوسيط، وطلبت من أخي أن يجد لمرافقتي رجلاً يحسن اللغة الفارسية، وهم كثيرون في «دبي»، خوفاً من ألا أجد في تلك المناطق النائية من يتكلم العربية، فاختار شاباً إيرانياً من سكان «دبي» يعرفه ويثق به، يجيد العربية كتابة وقراءة وتحدثاً، لمساعدتي في مهمتي في البلدات والمدن التي يتعامل معها تجار «دبي» مثل «جارك» ولينجه» و»بندر عباس» التي تقع في مدخل مضيق «هرمز»، وقررت أن يكون هدفي في هذه السفرة أولاً مدينة «جارك» لتكون نقطة انطلاقي إلى داخل جنوبي إيران، كما نصحني العارفون، وهكذا توكلت على الله، وتهيأت ومرافقي لعبور متجهين إلى ميناء «جارك» الواقعة» على الساحل الإيراني، قبالة «دبي» تماماً، علماً بأن «جارك» و»لينجه» هما مدينتان عربيتان، شأنهما شأن سائر مدن الساحل المقابل من الخليج، الذي كان حكامه من العرب، قبل أن تستولي عليه الدولة الفارسية، وتزيح حكامه عن السلطة التي كانوا عليها، وأقلتنا لعبور الخليج سفينة خشبية تسير بالمحرك «الموتور» والشراع معاً، حيث غادرنا «دبي» صباحاً ووصلنا «جارك» صباح اليوم التالي!
وفي «جارك» توجهنا فوراً إلى محطة قوافل المسافرين عبر الجبال، فاستأجرت لي ولصاحبي دابتين دفعت أجرتهما مقدما، ثم انتظم صف القافلة التي ضمت مجموعة من المسافرين، منهم من امتطى الخيول، ومنهم من امتطى ظهور البقال، وآخرون ركبوا الحمير، وانتشر بينهم عدد من الحراس يحملون بنادقهم، ومع بعضهم علاوة على البنادق أسلحة بيضاء كالخناجر والسكاكين والسواطير!
وتحركت القافلة، في ضحى يوم وصولنا، بعد أن أوعز لها قائدها بذلك، وظلت تسير بنا طيلة نهار ذلك اليوم، وعند المساء، وصلنا قرية من قرى الطريق، هي المحطة الأولى للقافلة، التي ألقت فيها رحالها للمبيت تلك الليلة، وفي فجر اليوم التالي استأنفنا سيرنا، وعند العصر وصلنا إحدى القرى الجبلية حيث علمنا من مرافق لنا في القافلة أنها بلدة الرجل المطلوب!
وفور وصولي بلدته، رحت أبحث عن منزله الذي دلنا عليه أحد مواطنيه، فتفاجأ برؤيتنا، وأعطيته رسالة أخي إليه، وكان يجيد العربية، قراءة وحديثاً، وبعد أن فرغ من قراءتها ومعرفة محتواها، صار يرحب بنا، ولما بحثنا معه الموضوع الذي جئنا إليه من أجله، اعترف باستلامه البضاعة من أخي، وصار يثني عليه، ثم أخذ يحدثنا عما جرى له وهو يعبر الخليج، وكان البحر، إذ ذاك هائجاً، والأمواج عالية، فأصاب البلل عدداً من أكياس السكر فأتلفها، ولكن سلم بعضها، والأكياس التالفة هي الآن موجودة في مخازن جمارك «لينجه»، وأوراقها لديه، وتستطيعون معاينتها هناك، وأنه قد باع أكياس السكر التي سلمت من البلل، وأكياساً أخرى أصابها شيء منه قد باعها أيضاً، وعرض علينا أوراق البيع، وقد أثنى عليه الحاضرون، فهو معروفٌ لديهم بالصدق والأمانة، ثم أحضر مبلغاً من المال ثمن الكمية غير المتضررة، استلمته منه بعد خصم عمولته، مبدياً أسفه لما حصل من أمر لا يد له فيه، كما استلمت منه ما لديه من أوراق ووثائق تخص البضاعة، سواء منها التي باعها، أو تلك التالفة الموجودة في الجمارك، وفي صباح الغد الباكر غادرنا ضمن إحدى قوافل المسافرين العائدة إلى «جارك» بعد أن أمضينا تلك الليلة في ضيافة الوسيط، فوصلناها ظهر اليوم التالي!
حين وصولنا «جارك» أصر علينا أحد وجهائها، وكان قادماً معنا في القافلة، على مرافقته إلى بيته لنستريح، وعرفنا منه أنه عربي، سليل عائلة عربية كانت تحكم «جارك»، وما أحر ترحيبه بنا وسعادته، كما يقول، إذ يقابل عربيا يتحدث إليه، وبعد أن استرحنا لدى هذا الرجل الكريم، وتناولنا طعام الغداء، وشربنا القهوة، غادرناه شاكرين، وتوجهت وصاحبي إلى محطة قوافل الدواب التي لا وسيلة سواها للسفر إلى «لينجه»، على الطريق الوحيد الذي يحاذي الخليج العربي تماماً، والذي تسلكه هذه القوافل، إذ لا طريق لها سواه!
إن ذهابنا إلى «لينجه» أمرٌ ضروري بالنسبة للمهمة التي نحن بصددها، إذ لا بد من المرور على جماركها لمعاينة أكياس السكر المطروحة في مخازنها منذ مدة طويلة، والنظر إن كان في الإمكان بيعها، وإلا، على الأقل، إنهاء معاملتها المعلقة وذلك بالتنازل عنها إن كانت المادة فيها غير صالحة للاستهلاك الآدمي، ولحسن الحظ، صادفت وأنا أفاوض صاحب الدواب، رجلا من أهالي «لينجه» توقف قريباً مني وسمعني وأنا أتحدث إليه بخصوص استئجار دابتين لي ولصاحبي، فلما عرف أنني عربي تقدم مني وصافحني بحرارة، ثم سألني، بلغة عربية سليمة، عن وجهتي، فلما أخبرته، قال أنا كذلك ذاهب إلى (لينجه)، وكان يبدو من هيأته أنه شخصية هامة، حيث كان يرافقه عدد من الأتباع، وله قافلة خاصة به وبمن معه، فعرض علينا، أن يأخذنا معه بقافلته، إذ إن لديه مكاناً يكفي لكلينا، أنا وصاحبي، فلما شكرته، مفضلاً استئجار دابتين لنا، ألح علي في طلبه، فما كان منا، إزاء إصراره الدال على كرمه ولطفه، إلا أن نصحبه إلى (لينجه)، وقد عرفت منه أنه عربي الأصل، وأنه نائب في البرلمان الإيراني عن مدينته، وهو الآن في إجازة فضل أن يقضيها، كما هي عادته، في مدينته، ولما عرف المهمة التي أنا بصددها في (لينجه)، أبدى لي استعداده لمساعدتي لدى الجمارك، ولما وصلنا المدينة، دعانا للإقامة في بيته ضيفين عليه، ريثما ننهي المهمة التي جئنا من أجلها، وصحبناه إلى منزله الفخم العامر، حيث أمضينا يومين في ضيافته، صحبني فيهما إلى دائرة الجمارك للكشف على أكياس السكر القابعة في مخازنها، فوجدناها وهي مرصوفة فوق بعضها، والماء ينضح منها، ولما تذوقت شيئاً منه مججته، لأنه كان أقرب لطعم الملح منه لطعم السكر، فتركناه حيث هو، وغادرنا الجمرك بعد أخذهم منا شهادة بالتنازل عنه لعدم صلاحيته!
وودعت مضيفي، شاكراً له بالغ لطفه وجزيل كرمه، ولكي نستطيع العودة إلى (دبي) لابد لنا من المرور أولاً على ميناء (بندر عباس) المطل على مضيق هرمز، ففيه فقط السفن الشراعية العابرة للخليج نحو ساحله الآخر، فتوجهنا إليه من (لينجه) على ظهر دابتين يقودهما صاحبهما، وفور وصولنا مرسى السفن في الميناء، وكان الوقت ظهراً، وجدنا سفينة من نوع (لنج) تسير بالمحرك (الموتور) والشراع معاً، ومخصصة لنقل المسافرين فقط، وكانت لحسن الحظ، على وشك الإبحار إلى (دبي)، فالتحقنا بها، فغادرت بنا (بندر عباس)، متجهة إلى عرض البحر،، لتعبر الخليج في خط مستقيم، وكانت الريح، في البداية، غير ملائمة لسيرها تماماً، لذا فقد كانت حركتها بطيئة، لاعتمادها على قوة (الموتور) فقط دون الشراع الذي كان دوره معطلاً، والريح تعبث به، ولكن هذه الحال لم تدم طويلاً، بل تحسن الجو، ولاءمت الريح اتجاه السفينة، بعد اجتيازنا جزيرة (جشم) التي تقع عند مضيق هرمز، وتمتد موازية ومحاذية للساحل الإيراني، فاندفعت السفينة في طريقها تمخر عباب اليم، بعد أن تضافرت لها القوتان، قوة المحرك وقوة الشراع، وانقضى ما بقي من نهار ذلك اليوم، وحل الليل، وتألقت نجومه في زرقة السماء الصافية، وكان البحر رائق المزاج، هادئ الأمواج، إلا من ثرثرة خفيفة صادرة من موجات لعوبات، تمر بالسفينة مسرعة، وترنو إلينا فرحة، وهي تشاركنا سعادتنا بهذا الليل الحالم الجميل.
واستمر الحال على هذا المنوال لولا أن حادثة صغيرة عكرت علينا صفو هدوئنا، وهذه الحادثة تخصني شخصياً، وكانت البداية هبة ريح نشطة أطارت بحقيبتي الجلدية من مكانها على ظهر السفينة وألقت بها في البحر، وكانت تحوي ملابسي والمبلغ النقدي الورقي الذي استلمته من الرجل الوسيط، والذي جئت (إيران) عبر الخليج، وسلكت تلك الدروب الوعرة والخطرة، على ظهور تلك الدواب غير الوثيرة، ووسط اللصوص وقطاع الطرق، من أجل تحصيله، ورأيت الحقيبة على نور القمر، الذي كان بازغاً، والأمواج الصغيرة تتلاعب بها وتتقاذفها، وأنا أنظر إليها وهي تتقافز فوق رؤوس الموجات، وقلبي يتقافز معها، وأقول مع نفسي: لقد أتلف البحر السكر، وها هو يتلف ثمنه كذلك، وبقيت حائراً أفكر في ماذا عساي أن أفعل، وأنا لا أجيد السباحة ولو أني قذفت بنفسي وراءها لنزلت إلى قاع البحر قبل أن أصل إليها، ولكن الله سلم، فقد أسرع بحار شهم، ضامر الجسم، قوي البنية وألقى بنفسه في البحر، وسبح نحو الحقيبة كالدولفين، ثم أدركها فأمسك بها وحملها بيد، ثم عاد بها وهو يسبح باليد الأخرى إلى السفينة، ولما فتحتها وتفحصت ما في داخلها، خصوصا النقود وجدتها سالمة مع شيء من البلل أصاب بعضها، وشكرت البحار على نخوته وشهامته، وشجاعته، وكافأته بورقة نقدية مبللة، استلمها وهو يهمس شاكراً، ويبتسم ابتسامة الرضا على ما فعل!.
ووصلنا (دبي) وأعطيت أخي المبلغ، أو بالأحرى، ما تبقى منه، بعد خصم مكافأة البحار، وأجر السفينة، ومصاريف الرحلة، وكان يبلغ بضعة آلاف من الروبيات الهندية، ففرح باستلامه، وصار يردد مع نفسه وهو يقول: ) الحمد لله.. العوض ولا القطيعة!).
الرياض