بدأت البشر الكتابة عن طريق القصة القصيرة، بثلاث مجموعات قصصية، ثم انتقلت للرواية. حالها، حال غالبية كتاب الأدب الجديد في السعودية. هذا، على الأرجح، ما جعل عملية الانتقال من النفس القصير للقصة القصيرة، عملية، سلسة، واضحة، تلقائية، مريحة، لا تستدعي التقدم باتجاه الرواية بوصفها عمل أدبي كامل وصعب. ولعل ما ميز الرواية التي كتبتها البشر، احتفاظها بروحية القصة، من خلال القدرة على إصابة مكمن النص، دون إشباع النص بشروحات إنشائية واستطرادية، تطيل على القارئ عملية الدخول إلى قلب النص. وبالتالي، الإستمرار في التواصل معه دون انقطاع.
والحق أن، الكتابة القصصية عند البشر وكذلك تلك الروائية، حملتا كليهما، سمة الجملة الصحفية القصيرة والسريعة واللامعة. تلك الجملة التي تستدعي فهماً سريعاً من القارئ وقدرة على إعتبار هذه الجملة علامة من علامات التميز داخل النص. فحتى لو كان القول، بأن تأثير الصحافة على القصة وتأثير القصة على الرواية، لا يرضي كثيرين، من الذين يتطلعون الى الأدب بإعتباره عامل تأثير بالأنماط الكتابية الأخرى وأهمها الكتابة الصحفية وليس تأثر بها. فإن أصحاب هذا الرأي لا يجانبون الصواب في وضع البشر وأسلوب كتابتها. ذلك أن الجملة القصيرة، عند البشر، في قصصها أولاً ورواياتها ثانياً، فيها قدر من التحايل على الإطالة والإسهاب لصالح إختباء جوهر ما يرمي إليه النص نفسه.
فالكتابة، التي بدأتها البشر منذ مطلع التسعينات. كان لا بد لها، أن تتحايل على عوامل كثيرة، إجتماعية وتقليدية وثقافية ودينية موروثة تشكل جميعها، كياناً متراصاً لا يمكن خرقه بسهولة ودعة. رغم أنها في كثير من الواضع، كانت مباشرة جداً. بل يمكن، القول، أن التحايل على هذه العوائق من خلال إيجاد طريقة للوصول الى جملة مكتنزة ومكثفة، كان هو الذي مكنها من إيصال الفكرة الأساسية، عن طريق الدخول إلى ذهن القارئ والتفاعل مع قاعدة بياناته الفكرية والإجتماعية والمعرفية، لتنتفخ داخله من خلال تمازجها مع ما يعرف ويعيش. وهذا استعدعى أولاً التوجه لقارئ معروف ومقصود ومستهدف. غير أن أمراً كهذا، لا يمكن الوصول إليه، باليسر الذي سار عليه البعض من كتاب القصة القصيرة، في السعودية تحديداً. بل كان بحاجة إلى أدوات وقدرات على التجريب، وهو ما بدأ يظهر، جلياً، في مجموعتها ( حبة الهال ) 1994 . ثم في الروايات التي نشرتها فيما بعد. في وقت أن المجموعة الأولى والثانية شكلتا، معاً، تمريناً على ما أصبح بالإمكان، فيما بعد، تسميته، أسلوب البشر وحدها، ضمن فوعان إجتماعي على الكتابة، بدأ منذ منتصف التسعينات ولم يتوقف لليوم.
لعل ما حدا بالبشر لسلوك هذا المسلك، الصعب، هو أنها، منذ بدأت الكتابة، تخصصت، إن جاز القول، بإخراج قضايا المرأة في مجتمعها، من الهامش إلى المتن. من حالة السكوت شبه المطبق الذي تعيشه، الى طرح شئونها وشجونها على الملأ. فالكتابة، لدى البشر، ليست مجرد فعل تخييلي منفصل تماماً عن الواقع. إنما، كانت وسيلة قوية كبديل للصمت والصراخ معاً، ما جعل من كل قصة تكتبها البشر، وثيقة إدانة لمجتمع يقهر نصفه النصف الآخر بوسيلة لطالما عرفتها المجتمعات القديمة وهي إلزامه الصمت. والحال هنا، أن الصامت شخص لا يمكن بأي حال من الأحوال معرفة أو التكهن ما يدور في عقله وقلبه من إعتمالات تذهب جميعها، أدراج الرياح، إن لم توثق بالكتابة، التي وحدها قادرة، على تأمين خروج الكلام من خانة البوح البسيكولوجي الذاتي الذي لا يمكن تأكيده إلى خانة المؤكد فعلا وقولاً وعملاً.
ثمة في كتابة البشر، أمراً ملتبساً، فهي وأن كانت قد نقلت ما يعتمل في صدر المرأة مخرجة إياه الى العلن. فإنها لم تكتب أدباً نسائياً، بحسب المفهوم الدارج والشائع للنص الذي تكتبه المرأة. وبعيداً من هذا النقاش الذي أخذ مداه قبل سنوات قليلة. فإن البشر كتبت أدباً اجتماعياً مهمته، كانت ولا تزال على الأغلب، كشف الخفايا والأسرار لتدخل من خلالها في شراكة وثيقة مع قارئها على ما يقول ميشال بوتور. وهذه من مهمات كاتب، يرى في نفسه وأفكاره التزاماً حقيقياً تجاه أمور يحسب أنها، والكلام عن البشر دوماً، تذهب بالمجتمع من نقيض إلى نقيض.
وعلى هذا، فإن نساء البشر، لم يحتجن، خصوصاً، في القصة القصيرة، الى الصراخ لتأكيد الحضور أو لخروجهن من ناصية الصمت. بل كان يكفي، سرد قصصهن واحدة تلو الأخرى، بهدوء وبلغة شفيفة لماحة وذكية، ليصبحن في قلب الحدث ودون أن تفرط الكاتبة بأي عنصر من عناصر السرد أو القدرة على إيفاء الجملة حقها من التعبير. هذا الإنتقال من الهامش والصمت الى الحبر الذي لا تمحوه رياح الصحراء، جعل من القصص البسيطة لنساء مجهولات، عامل إدانة قوي لمجتمع كامل، تتحكم الذكورة في كامل مفاصله وتلافيفه الحياتية وصولاً الى التحكم في مستقبله.
قالت البشر: ستخرقين قريباً يا مزنة، أذكري الله، كلامك ينثر الدم في وجوه الرجال، ضعي لسانك في فمك ونامي.
مالذي حققته الرواية ولم تحققه القصة ؟
s.m1888@hotmail.com
باريس