المحور الأساس لمقابلة الدكتور عبد العزيز قاسم مع الدكتور محمد العريفي في برنامج البيان التالي على قناة (دليل) كان حول (المرأة) وما أثير عبر (تويتر) عن (اختلاط المثقفين).. كل ذلك لا يعنيني بشيء، وليس من اهتماماتي، غير أنّ بعض كلام د. العريفي بعيد عن ذلك المحور؛ كان يمسّ مناطق لا تقبل المساس في العقل والضمير. فقد كان يسرد قصصاً لحوادث يؤكد أنه رآها بعينيه - ويشير إلى عينيه - أثناء زيارته مخيمات النازحين على الحدود السورية هرباً من الحرب المشتعلة بين الشعب السوريّ وقوات النظام هناك. يقول محمد العريفي: «ذكروا لي - ولا ندري كيف رآها بعينيه ثم ذكروها له! - أن مجموعة من زبانية النظام كانت تضرب شاباً وتقول له: أين الرجال البيض الذين يركبون خيولاً بيضاً وكانوا يقاتلون معك؟». ثم يقول إنهم قالوا له: «والله لم يكن معه أحد». ثم يضيف: والله لا أعلم إلاّ أن يكونوا ملائكة من السماء». ثم يختمها بأن الشاب قد استُشهد. الشيخ العريفي لم يكتفِ بذكر هذه الرواية - التي رآها بعينيه! - في مقابلة تلفزيونية، بل هو يرددها في أكثر من خطبة جمعة ومحاضرة وحديث، وقد طار بها شبابنا عبر الإنترنت، وجعلوا منها إحدى معجزات عصرنا أن الملائكة نزلت من السماء لتقاتل ضد النظام السوري المستبد، بل إن بعض الشباب راحوا يتداولون تصويراً لرجل يرتدي ثوباً أبيض ويسحب جريحاً من أرض المعركة فيقولون «هذا أحد ملائكة السماء الذين قال عنهم العريفي». أقول وقد اقشعرّ بدني: هل ذهب الدكتور العريفي إلى حدود سوريا من أجل أن يعود حاملاً معه هذه المعلومة الخائبة لينشرها بين الناس؟!
ألا يعلم الشيخ أن الملائكة حين تنزل من السماء لتقاتل مع المسلمين بأمر الله فإنها تحسم المعركة، وتبدّل هزيمة المسلمين إلى انتصار وتسحق الكفار، كما حدث في معركة بدر وغيرها؟!
المعركة في سوريا لا تزال مستمرة، والضحايا لا يزالون في ازدياد، والعريفي لا يزال يردد تلك الرواية بتأثر وتأثير جعلاه يغفل أنها قد تفتن الناس وتبلبل أفكارهم وتضعف إيمانهم بالله، فالله أجلّ وأعظم وأقوى من أن تستمر معركة كهذه وفيها ملائكة مرسلة بأمره لنصرة الثوار ضد بشار..!
قبل بضع سنين تداول الناسُ رواية لفتاة تقول إن ملاكاً جاء على هيئة أخيها لينقذها من يد خاطفٍ أراد انتهاك عرضها، وقد أنقذها بالفعل، وعلمت أنه ملاك مرسل حين اكتشفت ألا علم لأخيها بالواقعة، ومع ذلك كذَّبها عددٌ من أهل العلم معللين أن الله قادر على إنقاذها من دون أن يرسل إليها ملاكاً بتلك الصورة. وأراني هنا أنحاز إلى تصديق تلك الفتاة؛ فقد حُسم أمرها بنجاتها من يد خاطفها، ولو أن المعركة في سوريا حُسمت فور حدوث ما رواه العريفي لصدقته أيضاً، لكن.. هي نصيحة للأخ الشيخ محمد العريفي أن يجد تصريفاً معقولاً لتلك الرواية - التي رأى بعينيه أنهم ذكروها له! - فترديدها أو حتى تركها كما جاءت على لسانه يجعلها تستفحل بتأويلات مخيفة على العقول الناشئة..
ثمة أمرٌ خطيرٌ آخر طرحه العريفي في تلك المقابلة: فهو يؤكد أن له علاقات مع موظفين في (رسبشن) الفندق الذي احتوى ضيوف ملتقى المثقفين بالرياض، وأنهم كانوا يزودونه بوصف دقيق لما كان يحدث.. لن أعلِّق على ذلك إلاّ بالتساؤل: هل من مهام موظف الاستقبال في الفندق أن يصف للشيخ العريفي ما كان يحصل بين الحاضرين في قاعة البهو؟!
كلام العريفي عن موظفي الفنادق ونقل المعلومات إليه يجعلني (أهوجس) بما قاله صديق أثناء مشاركتنا في أحد المهرجانات الشعرية داخل المملكة؛ فقد كان يؤكد أن غرفنا في الفندق كانت مزودة بأجهزة (تنصّت)! ماذا لو كانت علاقات العريفي مع موظفي الفنادق قد تمادت من الوصف ونقل المعلومات إلى نقل أشياء أخرى؟!
أستغفر الله، وإن بعض الظنّ إثم، لكنّ كلام الشيخ العريفي - وهو خطيب جامع وعضو هيئة تدريس في جامعة، وليس جهازاً مختصاً بالمراقبة - يثير الريبة حقاً..
أمّا عن الدكتور محمد آل زلفة ففي اتصاله للمداخلة مع العريفي قال كلاماً متزناً في البداية ثم بدأ (يخبّص)، ويضع كل المثقفين في خجل منه ومن كلامه. فهو رجلٌ أكاديميّ، وكان عضواً في مجلس الشورى، ومعروف عنه نضاله من أجل حقوق المرأة.. وكان الأجدر به أن يركِّز في اتصاله على الحديث عن الأمر الذي يشغله (الاختلاط والمرأة والماريوت وتغريدة صالح الشيحي!) ولا يتجاوز ذلك إلى الحديث عن قيمة الثقافة والمثقفين بتلك الطريقة الركيكة.. مرة بقوله: «نحن المثقفين من يحركون فكر الأمة»، ومرة «يوجهون فكر الأمة». فيا دكتور، إن كان ثمة فكر فالفكر حراك ذهنيّ واتجاهٌ معرفيّ، وهل تحتاج الحركة والتوجه إلى تحريك وتوجيه؟! ثم إن (ذبابة) لو عبرت أمامك ستجعلك تحرك فكرك وتوجهه للقضاء عليها فهل هي مثقفة؟! الثقافة هي الإبداع والفكر معاً، لا المحرك والموجه لأحدهما. ومثل كلام آل زلفة لا يليق أن يصدر من مثقف، فكيف به وهو يتكلم - كما يريد - بلسان المثقفين السعوديين أجمعين؟ ثم كانت الطامة الكبرى حين ألقى بتهمةٍ (عن التكسّب الماديّ باسم الدعوة إلى الله) جعلت العريفي يصرخ فيه: «تأدّب». ويصفه بالجاهل، ثم تمادى العريفي حتى صار يوجِّه كلامه لعموم المثقفين بمفردات تؤذي كل من يستمع إليها..
كان على الدكتور آل زلفة أن يتجنب ما ليس له به علم، أو أن يناضل من أجل إثبات صحة ما يقول، أو أن يتجنب الحديث باسم المثقفين.. أما أن يكون على تلك الصورة التي جعلت المراهقين يتناولونها باستهجان وسخرية من كل المثقفين فهذا ما لا يرضاه مثقفٌ.. وقد يخجلني بوصفي الحاضر في صفحات (ثقافية) منذ عقود، ويجعلني أردد مع الأديب عبد العزيز الصقعبي عنوان مقالة له: (لا أريد أن أكون مثقفاً)!
أمّا (الصفاقة) التي عنيتها بالعنوان فقد برزت أمام عينيّ وأنا أطالع تبعات الحدث الثقافيّ (الشعبيّ) الأبرز والأكثر تداولاً على ألسن عامة الناس في هذه الأيام. ومن المعاني الكثيرة للصفاقة: التعرّض لأمر بغباء ووقاحة؛ وقد تجلّت الصفاقة في ردود الآلاف من محبي الشيخ الدكتور عائض القرني على خلفية الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام مؤخراً بأن لجنة حقوق المؤلف بوزارة الثقافة والإعلام حكمت بتغريم الداعية د. عائض القرني مبلغ 330 ألف ريال، وسحب كتابه (لا تيأس) من الأسواق، ومنعه من التداول. وجاء القرار بعد تحقيق مطوَّل في القضية التي رفعتها الكاتبة السعودية سلوى العضيدان، تتهمه فيها بالاعتداء على حقوقها الفكرية والسطو على كتابها (هكذا هزموا اليأس)، بضمّ محتوياته في كتاب أصدره باسمه تحت عنوان (لا تيأس)، وباع منه ملايين النسخ!
أشياء كثيرة غريبة في هذه القضية، وما ذكرته المؤلفة الشابة أن الشيخ عرض عليها (هدية) مقدارها 10 آلاف ريال مقابل التنازل عن قضيتها ضده، ثم رسالته المكتوبة إليها، ويقول لها خذي من كتبي (التسعين) ما تشائين مقابل ما أخذته من كتابك(!) وأسلوب (المساومة) بالعصا والجزرة، وقوله لها (الإعلام والرأي العام معي) وردّها عليه (أما أنا فالله معي)، كل ذلك يجعلنا نحمد الله أن أنعم علينا بنعمة العقل والصدق مع النفس والناس. هل قلتُ الناس؟ عجبتُ لذلك الكمّ الهائل من الناس الذين راحوا يشجبون ويستنكرون هذا الحُكْم، ويغمضون أعينهم عن كل الحقائق التي تتجلى أمامهم بمجرد مطالعة سريعة لمحتوى وثبت المصادر والمراجع في الكتابين (الأصليّ، والمسروق) بل إن أغلب أولئك (الناس) تلقوا خبر الحكم بإدانة الشيخ وتغريمه وكأنه حكمٌ بإدانة وتغريم للإسلام والمسلمين - وأستغفر الله - فماذا سيقولون إذاً حين يعلمون أن عدداً كبيراً من أهل الكتابة والفكر والأدب سيقومون برفع قضايا مماثلة لأخذ حقوقهم ممن سطوا عليها، فقد سكتوا طويلاً - وأنا أحدهم - تجنباً لأيّ خلاف مع بعض - أقولُ بعض ولم أحدد - من قال عنهم الحافظ ابن عساكر «لحومهم مسمومة». أما بعد خبر انتصار هذه المؤلفة الشابة، والحُكْم لصالحها من الجهة الرسمية المؤتمنة على الشأن الثقافيّ والإعلاميّ في بلادنا، فقد آن الأوان أن تكون (لجنة حقوق المؤلف) بوزارة الثقافة والإعلام هي الجهة التي تعيد للمؤلفين الصادقين حقوقهم الفكرية الإبداعية المسلوبة..
أمّا الذين لا يهمهم الحقّ من الباطل بقدر ما يهمهم الانتصار لمن يحبون فقط من أجل الانتصار، بكل الوسائل والمغالطات.. فإنني لا أجد تجاههم إلاّ الحيرة في أمرهم، ولا أزيد على أن أقول: إنها الصفاقة حين تعلو، فتأخذ أهلَها العزّةُ بالإثم..
ffnff69@hotmail.com
الرياض