قبل بضعة أيام فتحت تويتر لتلتصق بعيني تغريدة من الدكتورة أميرة كشغري تحتفل فيها بأول اجتماع تم لمجلس إدارة نادي جدة الأدبي الثقافي، كان ذلك مع طلائع نسيم الصباح، تلك كانت تغريدة ليست كأي تغريد لقد شعرت بها تهز أعمق أعماق ذاكرتي حتى لظننت أنني في حلم أو في سرحة من خيال بعيد، لقد عدت معها ثلاثا وثلاثين سنة وهذا ما دفعني لكتابة هذه المقالة، وإن كانت الفرحة لا تحتاج لعذر ولا لمقدمات ولكن سأروي لكم سبب فرحتي وسبب تحرك الروح بين يدي وأنا أعاود النظرة تلو النظرة في تلك التغريدة.
والقصة هي عن معنى أن تكون في مكان تشعر فيه أنك جئت إليه بخيار من الناس ولست معينا بقرار من مكتب يفرض خياراته وقراراته وإليكم بعض قصتي.
بعد الانتخابات الثالثة في نادي جدة الأدبي عام 1400 هـ (1980) تولى عبد الفتاح أبو مدين رئاسة النادي وصرت أنا نائبا له، وفي الجلسة الأولى التي ضمت مجلسا منتخبا جاء من الوسط الثقافي وبأصوات الناس، وهو المجلس الثاني من بعد مجلس العواد ومجموعته وكلاهما منتخبان، في تلك الجلسة طرح أبو مدين مقترحا بتغيير مسمى النادي من النادي الأدبي إلى (النادي الثقافي) ليكون شاملا لكل الحراك الثقافي وهذا ما سبب اعتراض الرئاسة العامة للأندية الأدبية بحجة أن مسمى النادي الأدبي ورد بقرار من مجلس الوزراء ولا يصح التعديل إلا بإجراء إداري يغير مسميات الأندية كلها، وانتهت القضية بعد نقاش وجدل إلى تسمية وسط هي: نادي جدة الأدبي الثقافي، وصار هذا حتى اليوم.
كان غرض التعديل هو ما كنا نرسمه من خطة ذهنية لصناعة حيوية ثقافية وفكرية تقود حركة النادي خاصة أن الناس الذين صوتوا لنا حينها كان معظمهم من الوسط الثقافي بعامة ولم يكن وسطا أدبيا مخصصا، ولقد نفذ النادي خطته الثقافية التي تكشف عنها سيرته على مدى الفترة الذهبية له، وتحقق على منبره أهم وأخطر حوار ثقافي مفتوح وعلني ومتعدد حول الحداثة منذ ليلتها الهامة في مطلع عام 1985 في أمسية مشهودة دامت لساعات وحضرتها كل أطياف المجتمع وسافر لها المثقفون من الرياض والدمام والطائف ومكة وجيزان، وحضرها الإسلاميون والحداثيون وكان لي شرف إدارتها على مدى أربع ساعات ساخنة وحارة جدا، ولقد شرحت قصتها في كتابي ( حكاية الحداثة ) وهي ليلة صار لها ما بعدها وكانت وقودا لشرارة حوار امتد سنوات. ولن أنسى أبدا وجه عبد الفتاح أبو مدين ليلتها وهو يدور بين الصفوف مبتهجا بتحرك قطار الثقافة من بعد معاناة عسيرة ذكرتها من قبل بمقالتين لي بعنوان ( صناعة الجمهور ) وكيف كنا نستجدي السباكين والعمال ليأتوا لملء الكراسي أمام الضيوف الأجانب لكي لا تنكشف القاعة الفارغة، وهنا صارت فرحة أبي مدين حيث رأى القاعة تكتظ بالجمهور من بعد شح وشحوب حتى بلغ العدد عندنا أكثر من ألف شخص مع قاعة السيدات، وفيها صارت شعلة الثقافة تتقد وبحيوية.
أقول هذا بمناسبة اجتماع مجلس إدارة النادي الأدبي الثقافي بجدة قبل أيام وهو أول اجتماع لمجلس يستعيد زمن الانتخابات، ( من بعد سنين عجاف تعطلت فيها الانتخابات وماتت الحيوية ) وكم هو تماثل عظيم بين مجلس منتخب وآخر مثله، وأنا متأكد أن الشعور العاطفي لكل الأعضاء والعضوات في مجلسهم المنتخب الآن يتماثل مع شعورنا قبل ثلاث وثلاثين سنة حيث إحساسنا بمسؤوليتنا أمام الذين صوتوا لنا وحيث مقترح أبي مدين بمصطلح الثقافي بدلا عن المصطلح الحصري في الأدب، ثم إحساسنا بأننا حينها شباب أحس بأن بين يديه طريقا مفتوحا كإحساس طفل تعلم الرسم وأعطيته ورقة بيضاء وقلما وتركته ليملأ ورقته بما يستطيعه خياله وعقله.
أحسست بالجو يفوح ويتلامع أمام بصري وخيالي وأنا أقرأ رسالة الدكتورة أميرة كشغري في تويتر، وهي تداعب خيال الكلمات حول جلستهم الأولى، وصرت أرى جلستنا الأولى بفارق ثلاث وثلاثين سنة.
هنا تأتي رسالتي هذه مفتوحة ومنفتحة إلى نادي جدة وترتبط هذه بأعمق أعماق مشاعري ووجداني، وفي قلبي حلم وعلى لساني كلمات، وأقول لهم: إن نادي جدة كان رمزا ثقافيا ومعنى معرفيا وفكريا في زمنه الانتخابي الأول، وها أنتم ترثون هذه الذاكرة في تماثل تام حسب قانون الاختيار والانتخاب، والتطلع فيكم سيكون بحجم تلك الذاكرة التي تحوم حولكم، ومعها إحساسنا كلنا بأن لهذا النادي حقا كبيرا على مخليتنا الثقافية، والذي تصدى وصبر وصابر على الحوار في الثمانينات وعرض نفسه وجسده ومعنوياته لكل الرياح والعواصف، ولم يتراجع، وكان رأسه الشهم الكبير أبو مدين، وكانت الحركة التي لم تكل ولم تتكاسل، وهذه كلها رصيد معنوي يكتنزه المكان والمسمى، ولذا جاءت كلماتي لكم، ولو رأيتم يدي وأنا أكتب هذه الكلمات لرأيتم الرجفة فيها، وهي رجفة لم أعهدها في نفسي ولا في قلمي، واستغربتها علي وظللت أسأل نفسي: ما بالي أرتجف. ...؟!!
ليس من جواب سوى أنني استحضر سنوات الشباب والفرح والحرقة والخوف مع الأمل والتطلع، وكل ساعة كانت تمر كنا نتوقع صدمة أو قصمة وكنا نمضي وكم كان أبو مدين شجاعا وصبارا حتى تحمل كل التبعات وصنع خطوته بيقين وعزم، ومن هنا جاءت الرجفة في يدي لأنني رأيت تلك الأيام وخبرتها واحترقت بها وعايشت كل دقيقة فيها، وكان أحلاها وأبقاها في نفسي أنني كنت هناك منتخبا ولم أكن معينا، وكذا كان أبو مدين وهذا هو الفارق المعنوي والقيمي لمعنى المكان ومعنى العمل والمسؤولية.
أنتم كذلك مثلنا وفي ظرف كظرفنا، وهذا ما يجعل رهاننا عليكم بحجم ما في الذاكرة عن المكان وعن التسمية وعن المعنى المتوالد.
فرحت باجتماعكم وأتطلع لفرح مستمر في منجزكم ومنطلقكم.
الرياض