ذكرت في الجزء الأول من هذا الموضوع أن هناك ثلاثة أسباب لأزمة الفكر بين المثقفين المتدينين والليبراليين أزمة الأصل والغاية والمشروع، وأوضحت أبعاد أزمة الأصل، وأقف في هذا الجزء على أزمة الغاية والمشروع.
لكن قبل أن أبدأ عليّ أن أوضح أن رغم إيماني بعدم وجود مثقفين ليبراليين بمفهوم أصل التيار في الغرب في السعودية فإن استخدامي لمصطلح «المثقف الليبرالي» لا وفق ما أعتقده، بل وفق ما تعتقد هذه «الفئة الثقافية» في أفكارها وما تعتمده لها كهوية ثقافية.
وإذا كان الأصل كما أوضحته في الجزء الأول يتعلق بالاختلاف حول مراتب المصدر التشريعي الذي يُؤسس لكل طرف شرعيته وجوازه، فالغاية والمشروع يتعلقان بأبعاد العقل الاجتماعي وموقف كل طرف سواء المثقف المتدين أو المثقف الليبرالي منه واستثماره أو استغلاله كونه المصدر الثاني لشرعية وجواز وجود أي تيار فكري قديم أو جديد.
فغايات ومشروعات التنمية البشرية التي تُروج لها التيارات الفكرية سواء المحافظة أو النهضوية تُؤسس على الاعتبار وفق نوع القيمة المراد تحقيقها إما وفق قيمة المحافظة على «هوية العقل الاجتماعي» أو وفق قيمة «تطوير هوية العقل الاجتماعي» أو وفق قيمة «تغيير هوية العقل الاجتماعي»، لذلك يظل «التنازع على ملكية العقل الاجتماعي» مركز تأسيس غاية ومشروع كلا الطرفين، الطرف المحافظ والطرف المخالف لمدونته الفكرية.
والعقل الاجتماعي هو «منظومة المعايير التي تُشرع وتطبق وتقوّم في ضوئه العامل النهضوي» ويقوم العقل الاجتماعي هنا بثلاث وظائف «التشريع والتطبيق والتقويم»، وتنشأ تلك المنظومة وفق ثلاثة مصادر هي «الدين والتراث والنسق».
وأهم ما يميز العقل الاجتماعي هي «صفة الاتباعية» وهو ما يحقق له خاصية الأغلبية، والأغلبية تتضمن بدورها قوة التأثير التي تضمن لأي تيار تتفق مدونته الفكرية مع المنظومة المعيارية للعقل الاجتماعي من الغلبة وتحقيق التأثير والسلطة على الرأي العام.
والعكس صحيح فمتى ما اختلفت المدونة الفكرية لأي تيار جديد مع مدونة العقل الاجتماعي فقد التأثر والتأثير بينه وبين الرأي العام وفشل في تكوين جماهيرية وتأسيس سلطة للتحكم في حركة الرأي العام.
ولذلك يحرص أي تيار فكري مناهض للتيار المسيطر على مدونة العقل الاجتماعي أن يستولي على سلطة العقل الاجتماعي لأنه مصدر التغير والتغيير، ودونه لا يتحقق أي تغير وتغيير مهما ارتفعت أصوات التيارات المختلفة.
وحتى يتم التغير والتغيير في مدونة العقل الاجتماعي من قِبل أي تيار فكري مناهض للتيار الفكري الذي يسيطر على تلك المدونة وتكوين رأي عام يُنفذ متطلبات التغيير لا بد من قبول حامل تلك المدونة للمنظومة المعيارية التي يحملها الفكر المناهض للفكر المؤسس لمدونته المعيارية.
وقبول حامل تلك المدونة لا يتحقق إلا عبر ثقته في التيار الفكري الجديد،وهذه الثقة هنا تتكون وفق مستويين متتابعين مصدر الأفكار الجديدة وسلامة معتقد وسلوك ممثِل الأفكار الجديدة، والثقة بمثابة روح إيمان حامل المدونة بمصداقية وجدية ونفعية التيار الجديد، فالناس يؤمنون بما يثقون به، إضافة إلى الثقة «الطمأنينة النسقية» فالناس يثقون بكل الأفكار الجديدة التي تُنتج ممثلات تتشابه مع الممثلات التي تُنتجها معايير منظومة عقلها الاجتماعي الرئيسة، وهذا ارتباط شرطي للأفكار الجديدة تقوّم في ضوئه الذهنية الشعبية بقبول أو رفض الأفكار الجديدة ، وهو المطلب الثالث للقبول أي «المقاربة المعيارية» بين الأفكار الجديدة ومدونة العقل الاجتماعي.
فالذهنية الشعبية تفضل عادة «التطور والتطوير» لمعايير مدونة العقل الاجتماعي لا «التغير والتغيير»؛ لأن التطور يحافظ لهم على مؤسِسات مدونة عقلهم الاجتماعي، وهذا ما يحافظ على أصول الهوية العقدية والقومية والتراثية.
ولو طبقنا تلك الأبعاد على طرفي الأزمة «المثقف المتدين والمثقف الليبرالي» سنجد ما يأتي.
يستند المثقف المتدين على غلبته بقبول العقل الاجتماعي له كما يستند على عدم قبول العقل الاجتماعي للمثقف الليبرالي.
فهل هذا الإسناد صحيح وعلام ينبني؟
هو صحيح الآن وينبني على ثقة حامل العقل الاجتماعي للمثقف المتدين سواء على مستوى مصدر فكره أو على مستوى سلامة معتقد المثقف المتدين وسلامة سلوكه، وفي المقابل عدم ثقة حامل العقل الاجتماعي لمصدر المثقف الليبرالي وسلامة معتقده وسلامة سلوكه وخاصة في ضوء الشائعات التي يروجها المثقف المتدين مصدر ثقة الذهنية الشعبية لبطلان مصدر عقيدة المثقف الليبرالي وفساد سلوكه، وفي المقابل المثقف الليبرالي يروج الشائعات عن المثقف المتدين بجهل مصدره وتطرف سلوكه.
فحامل العقل الاجتماعي اكتسب الثقة في المثقف المتدين من خلال معرفته المسبقة بمصدر أفكاره التي ينبثق من مرجعيات مدونة عقله الاجتماعي وتلك الثقة هي التي تجوّز لأي مشروع يروج له المثقف المتدين عند حامل العقل الاجتماعي وتُسهل تطبيقه، كما أن ثقة حامل مدونة العقل الاجتماعي «الذهنية الشعبية» في المثقف المتدين تجعل كل أقوال ذلك المثقف صادقة غير قابلة للشك والكذب وهذا ينعكس على ممثل الثقافة المتدينة إذ يُصبح في الذهنية الشعبية أو حامل مدونة العقل الاجتماعي «رمزا للصلاح والاستقامة والتقى»، وفي حالة الصراع تمنح الذهنية الشعبية لذلك الممثل «حصانة العصمة» لتُعينه على الانتصار على عدوه.
في المقابل هنا تكمن إشكالية المثقف الليبرالي؛ وهي عدم تقديره لمدونة العقل الاجتماعي، مما يؤدي إلى نفور الذهنية الشعبية» حامل مدونة العقل الاجتماعي» من أفكار المثقف الليبرالي وتزداد الاحتمالات المشبوهة وفق تلك الذهنية لمشروعه العام.
وعدم تقدير الليبرالي لأهمية مدونة العقل الاجتماعي في قبول الأفكار الجديدة يعود إلى أسباب عدة منها؛ الغرور المعرفي لليبرالي الذي يصنع من نفسه الوصي العليم لمظاهر المعرفة ومضموناتها وبالتالي هو يصنع لنفسه «عصمة معرفية» مقابلة «لعصمة التقديس» التي يمنحها حامل مدونة العقل الاجتماعي لحارس مدونه، والسبب الثاني هو استخفاف الليبرالي بأهمية أحادية أصول وأشكال مدونة العقل الاجتماعي مما يُخرجه على معايير النظام التشريعي للمجتمع.
والسبب الثالث معاداة الليبرالي السلطة التي تحرس مدونة العقل الاجتماعي التي تتمثل من خلال الفكر الديني والمحافظ، على اعتبار أنهما حارسا مدونة العقل الاجتماعي.
ويسعى المثقف الليبرالي من خلال معاداته للفكر الديني والمحافظ إلى كشف الغطاء عن عجزهما النهضوي كما يعتقد هو لهزيمتهما شعبيا، ويملك بموجب تلك الهزيمة الشعبية والسلطة لإعادة تأسيس مدونة العقل الاجتماعي فهو يرى أن المعرفة هي التي يجب أن تُؤسس مدونة العقل الاجتماعي لا كما يذهب المثقف المتدين بأن الدين يجب أن يظل هو من يؤسس مدونة العقل الاجتماعي ويراعاها.
وبذلك يعتقد الليبرالي أن التحالف مع حارسي مدونة العقل الاجتماعي لن تمكنه من السيطرة على تلك المدونة وتغييرها وفق المعرفة لا الدين، وهنا المثقف الليبرالي يشترك مع المثقف المتدين في مبدأ الصراع «البقاء للأقوى».
وهذه الأسباب كما أعتقد هي أسباب أزمة الصراع الفكري بين المثقف المتدين والمثقف الليبرالي وقبلها أسباب الصراع بين الذهنية الشعبية الممثلة في حوامل مدونة العقل الاجتماعي والمثقف الليبرالي، كما أنها أسباب أزمة عدم قدرة المثقف الليبرالي على تأسيس مشروع نهضوي يطور الذهنية الشعبية.
جدة
sehama71@gmail.com