دراسة- لطيفة الشعلان:
على الرغم من الاهتمام الذي يحظى به موضوع الانتحار في الدراسات الغربية، بما في ذلك دراسة حالات فردية لمنتحرين، فلا يزال هناك نقص واضح في الدراسات العربية التي تناولت الانتحار بشكل عام، والانتحار في إطار دراسة الحالات الفردية بشكل خاص. ومع أن هناك عدداً من المثقفين والأدباء العرب المنتحرين(1)، إلا أنني لم أجد - حسب اطلاعي - أية دراسات منهجية تناولت انتحار أحد هؤلاء في ضوء نظرية أو نموذج نفسي؛ فقد غلبت التفسيرات الشخصية والقراءات الثقافية التي لا تستند إلى إطار منهجي.
وبشكل عام فإن مشكلة القراءات العربية لانتحار المثقفين أنها اجتهادات شخصية، يقوم بها غالباً النقاد غير المختصين أكاديمياً في المجال النفسي. وكثير من هذه القراءات في أحسن أحوالها ما زالت أسيرة لدراسة دور كايم ( 1897)، التي رغم كونها أول محاولة سوسيولوجية متماسكة لتفسير الانتحار إلا أنها لم تكشف عن الديناميات النفسية التي تجعل أحداً يمر ببعض الظروف التي ذكرها كالأزمات الاقتصادية أو الطلاق أو فترات التحول الاجتماعي يقدم على الانتحار، بينما لا يفعل آخر يعيش في الظروف نفسها.
بناء على ذلك فإن مشكلة هذه الدراسة تتحدد في السؤال الآتي:
كيف يمكن تفسير انتحار الروائي والشاعر الأردني تيسير سبول في ضوء النظرية المعرفية؟
أما أهمية هذه الدراسة فتكمن في أنها تتناول موضوعاً مهماً وحاسماً، هو موضوع الانتحار، في ضوء النموذج المعرفي الذي يستمد جذوره من أعمال إليس في الخمسينيات ومن أعمال بيك في الستينيات من القرن الماضي على مرضى الاكتئاب، ويلقى منذ ذلك الحين تأييداً تجريبياً واسعاً لمسلَّماته النظرية وتطبيقاته المتعددة على مدى متنوع من التشخيصات الإكلينيكية. كما تأخذ هذه الدراسة أهميتها من كونها تقترح نموذجاً تفاعلياً لانتحار تيسير سبول، ولم أجد في حدود اطلاعي أية دراسة مماثلة. وعليه فمن المؤمل أن تدعم هذه الدراسة بشكل عام الدراسات النظرية السابقة في مجال الانتحار، كما يمكن أن تلفت نظر المختصين إلى وجوب بذل المزيد من العناية بحوادث انتحار النخبة المثقفة.
وفيما يتعلق بحدود الدراسة الحالية فإنها تتحدد بالحالة المدروسة، وهي حالة الأديب الأردني تيسير سبول، كما تتحدد بالأدوات التي استخدمتها، وهي جمع المعلومات من مصادر متنوعة وتدقيقها وتحليلها، ودراسة أجزاء من التاريخ الشخصي لسبول، وإجراء عدد من الاتصالات الشخصية في العاصمة الأردنية عمان مع عدد من زملاء ومعارف سبول السابقين. وبالنسبة للحدود الزمنية لهذه الدراسة فقد بدأتها في شهر سبتمبر من عام (2009)، وأتممتها في شهر مارس من عام (2011).
الآراء السابقة في تفسير
انتحار سبول والتعقيب عليها
في إطار محاولات تفسير انتحار سبول ظهرت آراء عدة لكشف الظروف والأسباب التي دفعت سبول إلى الانتحار، لكنها لم تتم في ضوء نموذج نفسي يربط نتائج دراسات الانتحار بدوافع سبول وسماته الشخصية. ويمكن تلخيص الآراء السابقة في تفسير انتحار سبول في ثلاثة آراء على النحو الآتي:
الرأي الأول: يعزو انتحار سبول إلى مواقف وأفكار سياسية، تمثلت في الاحتجاج على المفاوضات مع إسرائيل عام (1973) التي أعقبت «حرب أكتوبر»، وعرفت بمفاوضات (الكيلو 101). هذا الرأي يمثله مثقفون وباحثون كثيرون، منهم على سبيل المثال لا الحصر (الأنصاري، 1998، ص 12، يتيم، 2005، الهلسة، 2007، قنديل، 2007، نصار، 2008، أبو علي، 2009، عبد الحق، 2009، خليل، 2010 ، هلسا، بدون تاريخ). «وأكثر الذين تناولوا تجربة سبول يميلون إلى هذا الرأي» (خليل، 2005، ص 18). وحتى موقع «وزارة الثقافة الأردنية»، الذي يمثل وجهة نظر رسمية، يتبنى هذا الرأي؛ إذ ورد فيه في سياق التعريف بسبول: «انتحر بطلق ناري في أعقاب حرب تشرين ولقاء المصريين والإسرائيليين عند خيمة الكيلو 101» (موقع وزارة الثقافة الأردنية، 2011). وترد كذلك العبارة السابقة بنصها في موقع «الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة» (2010). ولا تزال هذه الرؤية التفسيرية تطرح بزخم؛ إذ تظهر في مقالات النقاد الأردنيين التي تنشرها الصحافة الأردنية كل سنة في ذكرى رحيل سبول؛ فقد ظهرت على سبيل المثال في مقال نشره الناقد إبراهيم خليل في جريدة «الدستور» الأردنية في نوفمبر (2010) بمناسبة مرور 37 عاماً على رحيل سبول.
الرأي الثاني: ينفرد به الناعوري (1978)، ويرى أن انتحار سبول كان سببه مشكلة صحية عانى منها، وتركزت في مرض في عينيه كان يهدده بفقدان قدرته على الإبصار. وقد أعاد فوزي (2010) نشر مقتطفات من رسالة وجهها له الناعوري بتاريخ 22/ 2/ 1976 يقول فيها: «انتحر لأن الآلام الرهيبة التي كان يعانيها من وجع عينيه، وانتهت به إلى بدايات عمى، كانت أقوى وأقسى من احتماله».
الرأي الثالث: يركز على التأثير السيئ لحياة سبول الزوجية، وتتبنى هذا الرأي عجارمة (1996) التي قالت إنه «لم يكن لحياته الزوجية أية انعكاسات إيجابية، بل على العكس من ذلك فطغيان التفكير المادي على شخصية الزوجة وعدم التفاتها لرقة الشاعر وحسه الرومانسي العالي شكّلا مصدراً من مصادر الغربة الذاتية التي عاشها». كما يتبنى الساكت رأياً مشابهاً له (بدون تاريخ، ص 51).
وفي التعقيب على ما سبق يمكنني القول إن روح سبول كانت متشربة للفكر الثوري، ووعيه القومي كان حاداً لعوامل مرتبطة بالمرحلة التاريخية من ناحية، وبطبيعته الشخصية الجانحة إلى المثالية من ناحية أخرى؛ فهو انتسب فترة إلى «حزب البعث»، وحين كان مبتعثاً في بيروت للدراسة لم يحتمل جو بيروت الذي يغلب عليه الطابع الأمريكي (النجار، 2009)؛ فقطع بعثته كما سبق القول مفضلاً الانتقال للدراسة في دمشق، وحين قدم للسعودية للعمل لم يمكث بها سوى أشهر معدودة، وكان «مؤمناً بالمسلَّمات النظرية عن الأهداف الكبرى للعرب التي ستتحقق من دون جهد كالوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية» (هلسا، بدون تاريخ).
لكن الرأي القائل بأن انتحار سبول كان إحباطاً من أوضاع سياسية معينة هو رأي ضعيف؛ لأن سبول عاصر أحداثاً سابقة كانت أشد قسوة على الشعور القومي من مفاوضات (الكيلو 101)، ولم تدفعه للانتحار، مثل هزيمة العرب أمام إسرائيل عام (1967) المعروفة بنكسة حزيران، أو انفصال الوحدة المصرية السورية عام (1962)، أو القتال الذي جرى في عمان بين الجيش الأردني والفلسطينيين عام (1970)، وعُرفت أحداثه بأيلول الأسود. ومن جهة أخرى، فإن الأفكار الثورية والقومية كانت منتشرة لدى كثير من مثقفي المنطقة الذين عاصروا سبول؛ فلم تكن دافعاً للسلوك الانتحاري، إنما انعكست أدباً وشعراً في أعمالهم. كما أن سبول ليس المثقف أو الأديب الوحيد الذي تم تفسير انتحاره في ضوء الاحتجاج السياسي أو اليأس من أوضاع سياسية معينة مع وجود متغيرات شخصية تعزز بقوة تفسيرات أخرى غير التفسير السياسي(3).
أما الرأي الثاني الذي يربط انتحار سبول بالمرض الذي كان يعاني منه في عينيه فهو أيضاً رأي ضعيف، وملفه الطبي لا يؤيد ذلك (خليل، 2005، ص17)، وقد نفاه آخرون، أهمهم الأزرعي، الذي بحث موضوع هذا المرض مع زوجة سبول مي يتيم، ومع الأخصائيين في «مدينة الحسين الطبية»، التي كان سبول يتلقى العلاج بها، وخرج بخلاصة مفادها أنه لم يكن مرضاً خطيراً، ولم يشكّل أي تهديد لسبول، وأنه نفسه كان يثق بكلام الأطباء الذين أكدوا له أن إمكانية شفائه كبيرة (الأزرعي، 1980، ص ز،ح). ولا ينبغي أن ننسى أن الأمراض الحادة أو المميتة كثيراً ما تمنح تشبثاً أكثر بالعيش حين تكشف الحياة عن معناها. يمكن الاستشهاد بالقاص المغربي الراحل محمد زفزاف، أو سعد الله ونوس الذي كانت أخصب سنواته الإبداعية هي السنوات الخمس الأخيرة من حياته التي قضاها في صراع مرير مع السرطان.
وفيما يتعلق بالرأي الثالث الذي يشير إلى مسألة عدم التوافق الزوجي الذي عانى منه سبول فإنني أراه ضعيفاً كذلك، ولم نجنِ منه سوى إرهاق أرملة سبول بالدفاع العلني عن نفسها إلى حد تصريحها بشيء لا يخفى معناه: «قال لي -أي تيسير- الشاعر لا يمسك، قلت له: أنا مستعدة لأن أفتح يدي، لقد أدركت طيلة حياتي معه أن المسؤولية تؤرقه، وهو يحتاج إلى فضاء من الحرية».
لقد تزوج سبول من مي يتيم بعد محاولة انتحار لم تنجح أقدم عليها خلال دراسته في دمشق لفشل قصة حب دعا صاحبتها بالغجرية، ونشر عنها قصيدتين في «الآداب» اللبنانية (هاشم، 2007)؛ ما يعني أن هشاشته النفسية أو السلوك الانتحاري لديه كان سابقاً على زواجه. وحتى لو لم يكن زواجه زواجاً سعيداً فلقد كان - بحسب استطلاعي - قائما على القناعة ومستقراً ومتكافئاً؛ فهو تزوج من يتيم بناء على تعارفهما الشخصي في دمشق أثناء دراستهما الجامعية، وهي كانت امرأة عصرية متعلمة تعليماً عالياً، وليست بعيدة عن الجو الأدبي الذي ينتمي له سبول؛ فأول تعارفهما كان على خلفية نشرها قصة قصيرة، وقد نشرت فيما بعد مجموعة قصصية، كما أنها امرأة منفتحة تتمازج فيها بيئات عربية عدة (4).
كما أن المعروف من حياة تيسير الزوجية - حسب ما هو منشور وموثق، أو حسب استطلاعي الشخصي - يقتصر على العموميات، وهو بذلك لا يشذ عن القاعدة العربية العامة؛ حيث يسدل المثقف وغير المثقف ستاراً كثيفاً على حياته الشخصية. وقد أشار قبيلات (2006) إلى النقص الواضح في المعلومات فيما يخص علاقة تيسير بالمرأة عموماً بقوله: «لا توجد سوى إشارات غامضة في بعض المقالات وبعض الدراسات»؛ وبالتالي يصعب الاستدلال من ذلك على شيء محدد.
وفيما يأتي سوف أنتقل إلى عرض ومناقشة نموذج معرفي تفاعلي يفسر حسب دراستي انتحار سبول، بحيث ظهرت الكمالية كعامل مؤثر في اليأس، وارتبطت الكمالية واليأس معاً بعلاقة مباشرة مع الانتحار. أما انخفاض الدعم الاجتماعي وتبلور معنى معرفي شخصي للموت فظهرا كعاملين توسطا العلاقة.
الكمالية واليأس.. الكمالية والانتحار
معظم النماذج المفسرة للكمالية Perfectionism كبناء متعدد الأبعاد مثل النموذج الذي قدمه سليد وأونس (1998)، أو النموذج الذي اقترحه أكوردينو وزميليه (2000)، قائمة على النموذج الذي قدمه هاماشك في وقت مبكر (1978)، واقترح فيه أن للكمالية مكونين: عصابي وعادي.
فالشخص الذي يتميز بالكمالية العصابية - حسب نموذج هاماشك، أو الكمالية اللاتكيفية حسب نموذج أكوردينو، أو الكمالية السلبية حسب نموذج سليد وأونس - يعتقد بأن بلوغ الكمال في المهام والواجبات أمر ممكن، أو حتى شرط لازم، ويتميز بالنقد الذاتي الشديد والخوف المبالغ فيه من الفشل، وهو يضع لذاته أهدافاً عالية جداً لا تتفق مع قدراته، بعكس الشخص الذي يتميز بالكمالية العادية أو التكيفية أو الإيجابية، ويضع لنفسه أهدافاً عالية كذلك إلا أنها واقعية ومتفقة مع قدراته، ويتميز بشكل عام بالتنظيم والتخطيط. ويخشى الكمالي اللاتكيفي كثيراً من ارتكاب الأخطاء، ويبحث عن استحسان الآخرين وموافقتهم، ولا يتسم بالمرونة التي تجعله يعدل أهدافه، أو يخفض من مستوى معاييره حسب المستجدات أو متطلبات الموقف كما يفعل الكمالي التكيفي، بل هو يتصف بالجمود والتصلب، ولا يتراجع عن خططه التي تتصف بالمثالية الشديدة.
وقد أظهرت دراسات عديدة أن الكمالية السلبية أو اللاتكيفية منبئة بالاكتئاب كما في دراسة روسمسن وزميليه (2008)، أو أنها ترتبط ارتباطاً موجباً دالاً بالاكتئاب كما في دراسة فليت وزميليه (2005)، وفليت وآخرين (2007). وفي دراسة أفشار ورفاقه (2011) التي خضعت لها عينة كبيرة من طلاب المدارس الإيرانية اتضح أن الكمالية اللاتكيفية ترتبط إيجابياً مع كل من الاكتئاب والقلق. وظهرت النتيجة نفسها في دراسة وي ورفاقه (2007) على الطلبة الصينيين والتايوانيين الدارسين في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن ناحية أخرى، قام أوكنور (2007) بمراجعة منهجية لثلاث قواعد بيانات طبية ونفسية، وجد فيها (29) دراسة أثبتت نتائجها أن الكمالية اللاتكيفية ترتبط بالانتحار. وقد أثبتت دراسة الحالة التي قام بها بل وآخرون (2010) لثلاثة من الطلاب المنتحرين في بريطانيا أن الكمالية ترتبط ارتباطاً موجباً دالاً بالانتحار.
لقد كانت الكمالية اللاتكيفية أحد أهم التشويهات المعرفية التي عانى منها سبول، وارتبطت بشكل خاص بنتاجه الأدبي، وأوقعته في دائرة مغلقة من الكتابة الأدبية ثم التمزيق، وما كان يترتب على ذلك من مشاعر الأسى والغضب والعجز؛ فقد حدث أن كتب قصة ومزقها أكثر من عشرين مرة، (سلامة، 2009)، كما ذكر سليمان عرار أن سبول مزق رواية مكتملة كان قد سماها «التراب العقيم» (النجار، 2009). وقد ورد في كتاب الأعمال الكاملة لسبول في مقدمة جزء «دراسات سياسية» ملاحظة كتبتها يتيم على النحو الآتي: «هذا جزء من كتاب كبير تمكن تيسير من تأليفه طيلة عام كامل ثم أحرقه، وهذه بعض الأوراق التي وجدت من بقايا الكتاب التي قمت بترتيبها حسب ما وجدته مناسباً» (سبول، 1980، ص 268).
إضافة إلى ذلك فقد حصلت رواية سبول «أنت منذ اليوم» على جائزة «دار النهار للنشر» عام (1968). ورغم أن هذه الرواية متقدمة في بنائها بالنظر إلى مرحلة الستينيات؛ إذ تعتمد على فنيات القطع السينمائي وتفتيت الأحداث وتمزيق الأزمنة وتعدد مستويات السرد، وتشكل خروجاً على مألوف الرواية العربية بناء وتكثيفاً؛ ما جعل البعض يراها من أعمال ما بعد الحداثة، وعلامة فارقة في الرواية العربية (خليل، 2005، عبيدالله، 2007، فركوح 2008، الأزرعي، 2009، هلسا، بدون تاريخ)، إلا أنها لم تكن مرضية لسبول بسبب ما كان يتميز به من كمالية سلبية. ويذكر القطامين أن القوابعة أراد الاطلاع عليها في ذلك الوقت فرفض سبول متعذراً بأنها مودعة في بيروت، وأن القوابعة كان يستشعر ضيقاً في نفس سبول وتغيراً في ملامح وجهه حين يتم الحديث عن هذه الرواية، وأنه لم يطلع عليها سوى مطلع الثمانينيات عندما تم طبع أعمال سبول الكاملة وعرضها في مكتبات الأردن (القطامين، 2006).
وقد ذكرت توجان فيصل أنها حين التقت بسبول للمرة الأولى عام (1971) أعطاها نسخة من ديوانه «أحزان صحراوية» معتذراً بشدة عن مستواه، قائلاً إنه لو طبعه متأخراً لحذف أغلب قصائده. وتضيف فيصل بأنها صدقته على أساس أن كلامه نوع من الإقرار على النفس، لكنها فوجئت بمستوى القصائد الرفيع وما تحدثه في نفس القارئ من متعة ودهشة معرفية. وتضيف بأنه أخبرها فيما بعد عن نيته إتلاف بعض قصائده الجديدة؛ لأنها غير جديرة بالنشر، فعرضت عليه اتفاقاً مضمونه أن يسلم لها في ظرف مغلق كل قصيدة ينوي إتلافها، وبعد عام يعود إليها ويقرر، لكنه رفض معتبراً هذا الاتفاق ثقة ومديحاً أكثر مما يستحق (فيصل، 2003)، كما أن زوجته مي يتيم ذكرت أنه أتلف أمامها مجموعة شعرية كاملة لم ترضه فنياً (سلامة، 2009).
وهكذا يتضح أن موقف سبول الكمالي من شعره كان مشابهاً لموقفه الكمالي من روايته، وأنه في الشعر والرواية معاً كان يبحث عن الكمال الذي لا سقف له، أو لا يمكن بلوغه، هذا على الرغم من أن النقاد أشادوا بمستواه الشعري (الناعوري، 1980، محمود، 1984، خليل 2005) كما سبق وأشادوا بمستواه الروائي.
كما كان سبول بسبب كماليته العصابية يمزق حتى الرسائل الشخصية، فهو يفتتح إحدى رسائله لزميله الأديب صادق عبد الحق، هكذا: «إذا استمررت أمزق كل ما أكتب إليك فإن قطيعة غريبة ستمد ظلها فوق كلينا. هذا ما يملؤني اشمئزازاً.. مرتين.. رسالتين طويلتين ثم أمزق» (سبول، 2009 ).
وقد كانت نزعة سبول نحو الكمالية واضحة جداً؛ فالمناصرة (1992) لاحظ أن سبول كان في كتابته وتمزيقه يبحث عن حلم، أو رواية خارقة للعادة، أو نموذج لا يتحقق. وكذلك انتهى محمود (1998) إلى أن المثالية كانت مشكلة سبول الأساسية، وبها «شقي في أدبه تنقيحاً وتثقيفاً إلى حد التمزيق والتحريق، وبها أيضاً حاكم مواقفه ومواقف الآخرين في الحياة». وسبول نفسه كان يقول بأن لا أحد يجاريه في موضوع التمزيق (سلامة، 2009).
بناء على ما سبق يتضح أن الكمالية اللاتكيفية قد تكون بدأت لدى سبول بفكرة لا عقلانية عن إمكانية أو شرط الوصول إلى إبداع نموذجي، وبمشاعر من الإحباط وعدم الرضا، وبسلوك يجنح إلى التمزيق والإتلاف بشكل مستمر بهدف الوصول إلى هذا النموذج الكامل المتخيل، ثم انتهت به إلى حالة من الشعور بالعجز وعدم الجدوى واليأس التام، خاصة أن شعوره بكينونته وتقديره لذاته كان متأثراً إلى حد بعيد بنظرته الشخصية إلى قدرته الإبداعية، وبنظرة الآخرين المدركة لهذه القدرة، وقد ارتبط ذلك كله في النهاية بعلاقة مباشرة مع قراره بالانتحار.
التفسير المعرفي للاكتئاب
يستند النموذج المعرفي في تفسيره للاكتئاب إلى وجود نظام معرفي متحيز ناتج من عمليات خاطئة في التفكير ومعالجة المعلومات، وإلى وجود مخطوطات معرفية Schemas غير متكيفة تقوم بتشكيل معاني الأحداث بطريقة مشوهة؛ فالمخطوطة بناء على ذلك تفسر الميل التلقائي للشخص المكتئب نحو التفسيرات والأفكار السلبية رغم البراهين الموضوعية التي تدحضها؛ وبالتالي فإن الاكتئاب هو اضطراب في التفكير أكثر مما هو اضطراب في الوجدان (بيك، 1990 ).
ويرى المعرفيون أن أي موقف يتكون من عدد وافر من المثيرات، لكن الفرد يقوم بانتقاء مثيرات بعينها، وينظمها داخل نمط، ويدركها ضمن وحدة مفهومية معينة، ومن هنا تنشأ المخطوطة. فالمخطوطة هي أساس تنسيق المثيرات والمعلومات البيئية في قوالب لها بُعد معرفي ومحتوى لفظي. وعلى الرغم من أن الأفراد يدركون المثير الواحد بطرق مختلفة، حسب متغيرات الموقف أو الظرف، إلا أن الأفراد الاكتئابيين تحت تأثير المخطوطات السلبية يميلون إلى الثبات في طرق إدراكهم واستجاباتهم للمثيرات حتى مع اختلاف الظروف المحيطة بالمثير في كل مرة (بيك وآخرون، 1993).
إذاً، المخطوطات المعرفية هي أبنية معرفية أو أنماط معرفية كامنة مستقرة تشكل أساس نظام معالجة المعلومات، ويقوم الفرد من خلال مصفوفة من هذه المخطوطات بترميز وإدراك وتفسير المثيرات التي يواجهها. ومع أن المخطوطة قد تكون خاملة في وقت ما إلا أنها حين تنشط بفعل مثير أو موقف معين فإنها هي التي تحدد بشكل مباشر طرق استجابة الفرد وردود أفعاله السلوكية والانفعالية.
وكما أشار بولك (2007) فإنه في حالات الاكتئاب الخفيفة يكون الفرد قادراً على تمييز أفكاره وتفسيراته السلبية بشيء من الموضوعية، بحيث يقوم بعد برهة من الفحص بإقصاء المخطوطة السلبية واستثارة مخطوطة جديدة أكثر تكيفاً وتلاؤماً منطقياً مع المثير من سابقتها. أما حين تشتد درجة الاكتئاب فإن المخطوطة السلبية تؤثر في قدرة الفرد على التفكير والتعليل والتمثيل والتعميم والحكم؛ فتطغى عليه التفسيرات المعرفية المشوهة، رغم عدم وجود صلة منطقية بين المثير الفعلي والتفسير المعرفي لهذا المثير.
وحسب النظرية المعرفية تشكّل فكرة الخسران أو الفقدان، سواء كانت حقيقية أو متوهمة، أساس الاكتئاب، ولا يوجد لدى المعرفيين كلمة أفضل من (خاسر) لوصف الحالة المزاجية للمكتئب. وبالنسبة لسبول فقد أصبح يرى نفسه خاسراً حين بدأ يشعر بفقدان موهبته الأدبية، وقد أوصلته فكرة الخسران أو النضوب الإبداعي إلى الشعور بعدم قيمة الحياة نفسها، ويتضح هذا بالنظر في رسالتين كتبهما للقاص العراقي فؤاد التكرلي مؤرختين في 14/ 7/ 1969 وفي 16/ 1/ 1970، حيث يقول في الرسالة الأولى: «هل تتساءل معي ما جدوى حياة الإنسان الذي خبر لذة الكتابة ثم يجد نفسه عاجزاً عنها؟ ليتك تساعدني في بحث هذه القضية». ويقول في الرسالة الثانية: «لا أكتب ولا أستطيع التفكير بالكتابة. إن شعوراً حاداً بعدم الاستقرار يستولي علي وعبثاً أحاول في مثل هذه الظروف النفسية ما يسمى بالخلق». (التكرلي، 2001 ).
لكن يتضح من خلال تتبع الكتابات النقدية التي تناولت إبداع سبول الشعري والروائي أن هذه الفكرة لم تكن واقعية؛ ف»روايته وشعره وسائر كتاباته وأحاديثه الإذاعية مادة ثقافية مميزة، تشير إلى أديب مبدع» (عبيدالله، 2007 )، وقد «وضع الأساس للكتابة الروائية الحديثة في الأردن» (صالح، 2010). وقد تميز نتاجه الفذ بالأصالة والقيمة، وحقق سبول مكانة أدبية رفيعة مقارنة بالأدباء الأردنيين والفلسطينيين في ذلك الوقت (رضوان 1996، إبراهيم 2005، مدانات، 2010).
وفيما يتعلق بالاكتئاب تحديداً فإن أعراضه العقلية والانفعالية وحتى الجسدية كالخمول وفقدان الشهية هي توابع مترتبة على نشاط المخطوطات المعرفية؛ فمثلاً حين يعتقد الفرد مخطئاً بتأثير من المخطوطة المعرفية أنه مرفوض من الآخرين فإن استجاباته العقلية والانفعالية والجسدية ستكون مشابهة لمن يجابهون رفضاً حقيقياً أو فعلياً. بناء على ذلك ربما أدت مخطوطات سبول المشوهة إلى أن تكون استجاباته المعرفية والانفعالية مشابهة ومقدرته على المثابرة والإنجاز الأدبي مقاربة للشخص الذي تدهورت موهبته فعلياً.
ومن جهة ثانية فإن نشاط المخطوطات المعرفية تحت تأثير الضغط النفسي يسهل أيضاً ظهور الأفكار اللاعقلانية Irrational Beliefs التي تتميز بكونها مطلقة وغير متسقة داخلياً وغير مدعمة بالدليل، التي ثبت من ناحية علاقتها بالكمالية اللاتكيفية (إليس،2002) كما ثبت من ناحية أخرى علاقتها بعدد من الاضطرابات، وعلى الأخص القلق والاكتئاب (برجز وهارنش، 2010). ومن بين الإحدى عشرة فكرة اللاعقلانية التي توصل لها المعرفيون تبدو فكرتان لصيقتان بسبول هما فكرة: «يجب أن أكون مستحسناً من قِبل الجميع»، وفكرة: «يجب أن أكون على درجة عالية من الكفاءة، وأن أحقق ما أريده ببراعة» (إليس،2000). وتظهر هاتان الفكرتان لدى سبول في موقفه غير المتوازن من مسألة إبداعه؛ إذ كانت تمتلكه رغبة شديدة في الحصول على الاستحسان الشامل مدفوعاً بنزعته الكمالية، وفي تحقيق الكفاءة الأدبية التي تصل إلى حد البراعة التي لا يصل إليها سوى القلة القليلة من المبدعين في العالم، أو لا يصل إليها أحد.
ولم تكن الكمالية غير المتكيفة هي التشويه الوحيد في نظام معالجة المعلومات لدى سبول؛ إذ كان واقعاً تحت تأثير تشويهات أخرى أسهمت مع غيرها من العوامل في مزيد من سوء حالته المزاجية.
ومن بين التشويهات المعرفية Cognitive Distortions التي كانت واضحة في حالة سبول، وهي ما يسميه المعرفيون (كل شيء أو لا شيء)، ويعني اعتقاده الراسخ بأنه إذا كان لا يستطيع إنجاز عمل ما على نحو كامل ومبهر فإن من الأفضل له تركه كلية؛ فهو إن لم يبلغ في إبداعه درجة غير مسبوقة ومبهرة جداً فسوف يتوقف نهائياً عن الكتابة، أو سوف يتلف كل ما يكتبه بغض النظر عن الجهد والوقت اللذين أمضاهما فيه، وقد أوقعه ذلك في حلقة مفرغة من الكتابة والتمزيق. كما أن سبول كان يعاني بشكل واضح من تشويه معرفي آخر هو (تعظيم الأمور وتبخيسها)، والتعظيم يعني المبالغة في تفسير الأحداث والخبرات الذاتية السلبية، بينما التبخيس يعني التقليل من قيمة ومعنى الخبرات الإيجابية؛ فسبول كان من ناحية يبالغ في تفسير أوجه قصوره، ومن ناحية أخرى كان يبخس من قيمة إنجازاته الشخصية؛ فالإشادات النقدية على سبيل المثال أو فوز روايته بإحدى الجوائز لم يكن حدثاً يؤدي إلى تقديره لذاته (التبخيس)، وهو في الوقت نفسه كان يبالغ كثيراً في إعطاء المعنى للصعوبة المعتادة التي يختبرها أحياناً في الكتابة (التعظيم).
وبهذا يتضح مفهوم النظرية المعرفية للاضطراب؛ فالفرد هو المسؤول عن اضطرابه؛ إذ تؤدي بنيته المعرفية دوراً مهماً في توافقه النفسي أو عدم توافقه؛ فالاضطراب ينتج من نشاط المخطوطات المعرفية السلبية، أي أنه لا يترتب على الأحداث والمثيرات بل على تفسير الإنسان وتقييمه لتلك الأحداث والمثيرات.
فحتى لو كان سبول قد بدأ يجابه فعلاً في تلك الفترة من حياته صعوبة حقيقية في الكتابة الإبداعية فمعظم الكُتّاب والمبدعين يمرون بخبرة مشابهة في بعض الأوقات، دون أن يؤثر هذا في تقديرهم لذواتهم، أو يساهم في تردي حالتهم المزاجية؛ إذ إن مشكلة سبول كما تستنتج الباحثة كانت كامنة في مخطوطاته المعرفية السلبية التي كان يؤول من خلالها ما يواجهه من ظروف، بشكل يميل إلى الإسراف في التضخيم والمبالغة في الدلالة، من ناحية أنه كان يرى أن قدرته على الإبداع تتدهور، وأنه يفقدها بشكل نهائي، وأن كينونته بوصفه مبدعاً تتلاشى إلى الأبد.
ولا شك أن مخطوطاته المنحازة كانت تدفع بتفكيره نحو اتخاذ مسار انتقائي، بمعنى أنها تحجب عنه أية دلائل إيجابية تناقض هذا التأويل السلبي. وفي حالات أخرى ربما كان سبول يميل إلى تحريف أو تشويه المثيرات الإيجابية أو المحايدة التي يواجهها حتى تتناسب أو تتسق مع نظام المخطوطة السلبية السائدة في نظامه المعرفي؛ وعليه يمكن فهم ملاحظة القوابعة التي أوردها القطامين (2006) بأن تيسير كان يستاء وتتغير ملامحه حين تأتي سيرة روايته على الرغم من فوزها. وبسبب ذلك كان العلاج المعرفي الذي تعود جذوره إلى الفلسفة الرواقية يقوم على أساليب إبستمولوجية محددة تهدف إلى إعادة تنظيم البنية المعرفية التي يدرك الفرد من خلالها العالم بكل ما فيه من سياقات ذاتية واجتماعية وتاريخية سياسية، وبذلك كان يعاد الاعتبار إلى (الوعي) في مسألة حدوث الاضطراب النفسي أمام المكانة الكبيرة التي احتلها (اللاشعور) سابقاً.
وعلى ذلك يتبين أن سبول قد عانى من الاكتئاب بتأثير ما يسميه بيك ورفاقه الضغوط البطيئة الخفية (1990)، ويقصد بها أخطاء وتشويهات البنية المعرفية، ويؤيد ذلك أن الباحثة لم تعثر على أية إشارات تدلل على أنه كان يعاني من ضغوط حياتية خطيرة أو أحداث صدمية من تلك التي أثبتت المراجعات الإكلينيكية علاقتها بالاكتئاب.
اليأس والانتحار: حالة سبول
إن محاولة الانتحار تُستخدم من بين المعايير التشخيصية للاكتئاب، ونسبة 25 % من الأفراد الذين يعانون من الاكتئاب الشديد يقومون بمحاولة انتحار بغض النظر عن نجاحها من عدمه. ومن بين مكونات الاكتئاب ظهر أن اليأس هو العامل المميت المسؤول عن 50 إلى 70 % من حالات الانتحار ( تشيوكيوتا،2005). ومنذ الدراسات المبكرة التي أجراها بيك وزميلاه (1975) ووتزل وزملاؤه (1980) ظهر أن الارتباط بين الاكتئاب والتفكير الانتحاري يكون غير جوهري إذا تم تحييد أو عزل تأثير مكون اليأس (5).
ويعرف بيك (1996) اليأس بأنه مكون أو عامل معرفي يتكون من معانٍ مشوهة أو محرفة حول الثالوث المعرفي Cognitive Triad الذي يتشكل من الذات والخبرة والمستقبل. ويمكن تصور مكونات هذا الثالوث الذي يتميز بتوقعات سلبية معممة على النحو الآتي: (الذات) يراها المكتئب غير فعالة وغير جديرة ولا تستحق، ويعزو عدم سعادته إلى قصور ونقص في ذاته. (الخبرة) إذ يميل المكتئب إلى تفسيرها بطريقة متحيزة أو خاطئة، كما يدرك العالم على أنه يضع مطالب باهظة على عاتقه، وعقبات تمنعه من الوصول إلى أهدافه. (المستقبل) فحين ينظر إلى الأمام تسيطر عليه النزعة التشاؤمية ومشاعر الإحباط، ويعتقد شبه جازم بأن معاناته لن تنتهي، وأن الفشل سيرافقه دائماً.
وعلى هذا الأساس فإن الثالوث المعرفي لسبول تشكَّل من جملة معانٍ مشوهة، شملت: مكون ذاته التي لم تعد جديرة بالحفاوة أو المكانة لتدهور ركيزة تميزها وتفردها، وهي الموهبة الإبداعية. ومكون خبرته الإبداعية الحالية التي تضعه في اعتقاده في مرتبة أدنى من سواه من المبدعين الآخرين، وتقف عقبة في طريق آماله وطموحاته. والمكون الثالث المتمثل في مستقبله الإبداعي الذي تسيطر عليه التوقعات الشخصية بالفشل الذريع. وقد أشارت نتائج الدراسات إلى أن اليأس هو المنبئ الأول أو الأقوى بالأفكار الانتحارية والسلوك الانتحاري، يليه الاكتئاب؛ ما يعني أن التقييم المبكر لدرجة اليأس لدى المكتئبين قد يساعد في التنبؤ بميولهم الانتحارية مستقبلاً. ففي دراسة كي ورفاقه الواسعة التي شملت ثلاث دول آسيوية هي الصين وتايلاند وكوريا أظهرت النتائج أن اليأس يرتبط ارتباطاً موجباً دالاً بالسلوك الانتحاري (2009). وظهرت نتيجة مماثلة في دراسة زيرك وآخرين، التي أُجريت على طلبة الجامعة في تركيا (2009). وكذلك في دراسة تشنج ورفاقه على عينة كبيرة من الصينيين في هونج كونج، أظهرت النتائج أن اليأس أقوى من إساءة استخدام الكحول ومن المشكلات الزوجية في التنبؤ بالسلوك الانتحاري (2006).
وهناك دراسات عديدة أُجريت على عينات أمريكية وأوروبية أوضحت أن اليأس إما أنه كان أقوى المنبئات على الإطلاق بالأفكار الانتحارية ومحاولات الانتحار، أو أن اليأس ارتبط بعلاقة مباشرة مع محاولات الانتحار، في حين توسط الاكتئاب هذه العلاقة (كيسنج 2004، شابمان وآخرون 2005، سمث وآخرون 2006، سبان وآخرون 2006، برايتون وآخرون 2008).
وحسب التفسير المعرفي للانتحار فإن مجمل البنية المعرفية المتحيزة بمكوناتها من المخطوطات السلبية والثالوث المعرفي والتشويهات المعرفية والأفكار اللاعقلانية تساهم في الخلاصة النهائية التي يصل إليها اليائس، وهي أن الحياة لا تستحق العيش، ولا فائدة من بذل المزيد من المحاولات، وعند هذا الحد يظهر الانتحار بوصفه حلاً ممكناً لمشكلة تظهر كما لو أنها غير قابلة للحل. وهذا يفسر النتائج التي تظهر بأن ذوي التفكير الانتحاري في الأداء على (مقاييس حل المشكلة) يميلون بشكل فارق مقارنة بالعاديين إلى إعطاء عدد أقل من الحلول، إضافة إلى أن هذه الحلول تكون أقل ارتباطاً بالمشكلة المطروحة (شيهي وأوكنور2002، جبس وآخرون2009).
ويذكر سلامة (2009) عن زملاء سبول مثل النحاس والقوابعة أن حالته قد ساءت خاصة خلال العام الأخير من حياته، واستولى اليأس عليه، وغلبته مشاعر العجز التام، وكان كثير الترديد لعبارات مثل: «أنا متعب ويائس» و»فقدت الاهتمام بكل شيء»، يكررها، ثم يصمت، كمن يتأمل بحزن وينسى من حوله، حتى حلت نهايته المعروفة والمؤلمة.
وهكذا يتضح من كل ما سبق أن الاكتئاب واليأس والأفكار الانتحارية ترتبط مع بعضها بعضاً مكونة زملة اكتئابية واحدة. فالاكتئاب الذي عانى منه سبول، ونشأ بتأثير مخطوطاته المعرفية المتحيزة، ترافق مع درجة مرتفعة من اليأس الذي تشكّل حول الثالوث المعرفي، وارتبط بعلاقة مباشرة مع الانتحار.
إشارات الانتحار التحذيرية
وانخفاض درجة الدعم الاجتماعي
أظهرت الدراسات وجود ارتباط موجب دال بين الأفكار الانتحارية وانخفاض درجة الدعم الاجتماعي؛ ففي دراسة ماتلن ورفاقه (2011) على عينة من الشباب الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية تبيّن أن ارتفاع درجة الدعم الأسري ودرجة دعم الأقران ارتبط بانخفاض درجة الأفكار الانتحارية، وكذلك في دراسة بارك وآخرين (2010) على عينة كبيرة من الكوريين ظهرت علاقة قوية بين الأفكار الانتحارية وانخفاض الدعم الاجتماعي. وظهرت نتائج مماثلة في دراسة أُجريت على مرضى السرطان ممن تراودهم الأفكار الانتحارية (كيم ولي، 2010).
كما تبيّن أن الدعم الاجتماعي المقدم من الوالدين والمعلمين والأقران يقلل من عوامل الخطورة للإقدام على الانتحار (بلتزار 2008، ميمون وآخرون 2010). ولم أجد أدلة تبين أن سبول كان يتوافر على دعم اجتماعي قوي. وقد أشار النجار (2009) إلى ملاحظة مهمة عن «كثرة المدعين لصداقته بعد انتحاره». ومما يؤكد في رأيي انخفاض درجة الدعم الاجتماعي الذي كان يلقاه سبول عدم الانتباه إلى (إشارات الانتحار التحذيرية) التي كانت واضحة في حالته. فلقد وجد تساي وآخرون (2010) ودي جونج وزميلاه (2010) أن أكثر من 70 % من المنتحرين يكشفون عن ثلاث إشارات على الأقل من إشارات الانتحار التحذيرية، لكنها لا تحظى بالاهتمام المطلوب في البيئات التي يعاني فيها الفرد من انخفاض درجة الدعم الاجتماعي. ومن أهم الإشارات الانتحارية التي رصدها رود (2008): الأفكار الانتحارية التي يفصح عنها الفرد من خلال الحديث أو الكتابة أو التقليد والتمثيل، والانعزال والحزن الطويل، ومحاولات الانتحار السابقة، وإبداء التقدير والإعجاب بقرار الانتحار الذي أقدم عليه آخرون، وامتلاك سلاح ناري، ومجابهة حدث ضاغط شديد كوفاة عزيز أو خسارة مالية فادحة، والإفراط في تعاطي الكحول أو سوء استخدام العقاقير، وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية، وظهور تغيرات واضحة في عادات النوم والأكل، والتصرفات المندفعة أو الطائشة.
بالنسبة لسبول اجتمعت لديه على المدى القصير والطويل عدد من هذه الإشارات التحذيرية التي سجلها زملاؤه في كتاباتهم، لكن لم يتضح أن هناك جهداً بُذل في التعامل معها أو معالجتها، إلى درجة أن هاشم (2007) يذكر أن تعبير بعض أصدقاء سبول حين بلغهم خبر انتحاره كان: «إذاً فعلها»؟!؛ ما يعني أن انتحاره كان أمراً متوقعاً لديهم.
وفيما يتعلق بأهم الإشارات التحذيرية وهي الأفكار الانتحارية فقد تكررت كثيراً في كتابات سبول ورسائله الشخصية وأحاديثه ومناقشاته ودراساته النقدية (هاشم، 2007 ). كما أن الأفكار الانتحارية كانت تراوده مبكراً، بما في ذلك طريقة تنفيذ الانتحار. يذكر المناصرة (بدون تاريخ، ص 77) أن سبول قال له ذات يوم: «أجمل أنواع الانتحارات هو الانتحار الجماعي لخمسة أو ستة من المثقفين، نشوي خرافاً على جمر حطب في غابة ربيعية. رذاذ مطر ربيعي ينساب على ضفائر الشجر، نشرب حتى الفقدان. ثم وفي قمة النشوة وعلى بساط من العشب الأخضر يمسك كل واحد بمسدسه، نطلق النار من مسدساتنا على الرؤوس دفعة واحدة. ويبقى الشواء والدخان والنبيذ ونرحل».
وإن كانت تلك تبدو صورة شعرية أو فنية أكثر مما هي خطة انتحار فعلية فإن رسمي أبو علي (2009) يورد شهادة أخرى أقوى دلالة؛ لأنها تكاد تطابق حادثة الانتحار الفعلي التي نفذها تيسير بعد ذلك بخمسة عشر عاماً. يقول أبو علي إنه تعرف بتيسير للمرة الأولى عام 1958 في مطار عمان القديم؛ حيث قام بتعريفهما صادق عبد الحق الذي كان يعمل في تلك الفترة راصداً جوياً، وأن الحديث حين أخذهم بدأ تيسير يتحدث عن الانتحار موضحاً أن إطلاق النار على الصدغ هو أفضل طرق الانتحار؛ لأنه يتم بدون ألم جسدي، وقام سبول بتمثيل الفعل حيث صوب شاهد يده اليمنى إلى صدغه الأيمن قائلاً: «تك.. وينتهي الأمر».
ويذكر سلامة (2009) أن المناصرة قد ذكر الحادثة الآتية التي جرت عام 1973: «ذهبنا مجموعة من الأصدقاء إلى جرش، وعدنا مساء، كان تيسير يقود سيارته بنا في ثغرة عصفور عندما مال بسيارته نحو حافة الطريق المطلة على الوادي السحيق فصحنا به: احذر! لكن تيسير واصل مزاحه الثقيل حتى نشف الدم في عروقنا؛ لأن أي خطأ بسيط سيؤدي إلى كارثة حقيقية. أما تيسير فقال وهو يقهقه ضاحكاً: غداً ستنشر الصحافة الأردنية على صدر صفحاتها خبر الانتحار الجماعي لخمسة من مثقفي الأردن. فرد عليه المناصرة: انتحر وحدك».
وأهمية هذه الحادثة - في رأيي - تتلخص في أن الأفكار الانتحارية أصبحت لصيقة بذهن سبول إلى حد إنزالها إلى مستوى الضحك والسخرية. كذلك فإن إشارة سبول إلى الصحافة التي ستنشر خبر الانتحار الجماعي توضح ما تشير إليه الدراسات بأن بعض المنتحرين تراودهم فكرة التحول إلى أيقونة أو نموذج يتداخل فيه التعاطف بالخلود (6).
واللافت للانتباه أن قصة أخرى ظهرت مؤخراً إلى العلن حول سيناريوهات الانتحار التي كانت تدور في رأس سبول؛ ففي شهر إبريل (2010) أُقيمت في «نادي الفحيص» الأردني أمسية شعرية موسيقية عنوانها «استعادة تيسير سبول»، وكان من ضمن المتحدثين القاص والكاتب فايز محمود، الذي ذكر أنه كان قد اتخذ مع تيسير قراراً بالانتحار، وتحدثا في هذا الموضوع طويلاً، لكنهما اختلفا على الطريقة؛ فقد اقترح سبول أن يمسك كل واحد منهما مسدساً يوجهه إلى رأس الآخر، لكن محمود اعترض بأنه ربما يسبق أحدهما الآخر فيصبح قاتلاً، ثم تأجلت الفكرة حتى انتحر سبول بنفسه وتراجع محمود.
من جهة أخرى كشف سبول عن إشارات تحذيرية أخرى: فقد كان يتحدث بإعجاب شديد عن انتحار الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي (عبد الحق، 2009 ). ويذكر فواز عيد كذلك الفرحة الغامرة التي استولت على سبول حين سمع بخبر انتحار الروائي الأمريكي همنجواي على هذا النحو: «مر بي سبول ذات صباح على درج كافتيريا الجامعة، وبشرني من بعيد صائحاً بفرح: همنجواي انتحر.. ألم تسمع؟!» يضيف عيد: «قطبت وجهي ونهرته، وماذا يعني؟! قاسني بنظرة حانقة ومضى إلى الداخل يشتم من لا يفهم المعنى» (سلامة، 2009).
كذلك كانت لسبول محاولة انتحار فاشلة أثناء دراسته في جامعة دمشق كما سبق القول (هاشم، 2007)، وكان حزيناً مكتئباً خاصة في العام الأخير من حياته (أبو علي، 1998، ص 65، سلامة، 2009، مدانات، 2009)، وبدأ يفرط في تناول الكحول كما يذكر النحاس (سلامة 2009) حتى أنه في الساعة التي سبقت انتحاره عكف على احتساء زجاجة كاملة من كحول مصنوع محلياً و»كان مع كل جرعة يزداد ميلاً للغياب الأبدي وترك الحياة لمن يتقبل أو يتحمل أوزارها» (مدانات، 2009).
وقد لاحظ الأديب العراقي فؤاد التكرلي الذي عرف تيسير بعد لقائهما في مؤتمر الأدباء العرب، الذي عقد في بغداد في عام (1969) وتبادلهما بعد ذلك للمراسلات، أن سبول كان في حاجة ماسة إلى الدعم الاجتماعي خلال هذه الفترة الحرجة من حياته، لكنه لم يجده. وتأتي أهمية ملاحظة التكرلي في أنها تبين إلى أي حد كان سبول يفتقد الدعم بالنظر إلى أنه كان يبحث عنه لدى صديق يقيم في بلد آخر، يقول التكرلي: «كنت آخذ طلبه بأن نلتقي لنجلس نتحدث طويلاً حميمياً مأخذاً عادياً لا عجلة تدعو إليه، غير أني الآن أعرف أنه كان على حافة هاوية غير منظورة، وأنه كان يدرك بشكل خفي الخطر الذي يختفي في زاوية من نفسه فأراد أن تمتد له يد صديق يثق به لمساعدته، ولم يكن هناك أحد مع الأسف» (التكرلي، 2001).
أما مدانات (2009) فيقول معلقاً على انتحار سبول: «أدركنا جميعاً أننا كنا مقصرين وقصيري النظر وأنانيين وآثمين في النهاية، ولا عذر لواحد منا، وأخص نفسي بهذا الكلام أكثر من غيري، فأنا أخذت من تيسير أكثر مما أعطيت، ولم أدرك أن صديقي الحميم يحتاج مني أكثر مما أعطيه».
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن انخفاض مصادر الدعم الاجتماعي لدى سبول لعب دور العامل الوسيط بين الكمالية واليأس من جهة والانتحار من جهة أخرى، وأن حالته تؤكد ما توصل إليه.
* * * * *
السيرة الذاتية:
وُلد تيسير سبول لأسرة مسلمة عام (1939) بمدينة الطفيلة في جنوب الأردن، وقد كان المستوى الاقتصادي الاجتماعي لأسرته متوسطاً، وكان عدد أطفال الأسرة تسعة، وترتيب تيسير من بينهم الأخير، وكان والده مزارعاً صارماً، لا يقرأ ولا يكتب، أما والدته فكانت رقيقة حنونة. درس سبول مراحل التعليم العام في بلده الأردن، وبسبب تفوقه في المرحلة الثانوية حاز منحة حكومية لدراسة الفلسفة في «الجامعة الأمريكية» في بيروت، لكنه تخلى عنها فيما بعد لعدم تلاؤمه مع مناخ الحياة في بيروت، واتجه لدراسة الحقوق في «جامعة دمشق»، وحصل على الدرجة الجامعية عام (1962). وقد تزوج عام (1963) من مي يتيم، وأنجب منها ابنين (القطامين، 2006 - القوابعة، 2007 - النجار، 2009). تنقل سبول في عدد من الوظائف، كان آخرها تقديم برنامج ثقافي في «الإذاعة الأردنية». «ولعل وظائفه القصيرة وأعماله المتعددة خير دليل على قلقه ورفضه وتطرفه وتبرمه» (الأزرعي، 1980، ص، ي). كان سبول متعدد المواهب؛ فكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو والمقالة النقدية. وكان انتحاره في 15/ 11/ 1973 بطلقة من مسدسه وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يترك رسالة أو وصية (2).