Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
أبو زيد السروجي وخابية النبيذ
قراءة حجاجية للخطاب الوعظي عند الحريري
أ. د. خالد بن محمد الجديع

 

يشكل الوعظ عنصرا مهما في بنية المتن المقامي، وقد ولد هذا الموضوع مع بزوغ شمس المقامة على يد بديع الزمان، ثم تطوحت به السبل ليتدافع مع عناصر أخرى داخل هذا النوع من السرد، ففي حين احتفظ بترتيبه في المقامة الحريرية نجده متراجعا عند آخرين فلا تضم المقامة شيئا منه، ويستعلي عند بعض المقاميين فتكون كل المقامات ذات طابع وعظي مثلما صنع الزمخشري وابن الجوزي.

وتختلف دواعي الوعظ من مقامي لآخر، فالمساحة الوعظية ليست هي الفارق الوحيد، بل يظهر التفاوت في صدق الوعظ وفي عدم مزجه بشيء من الرغبة في المال أو الركون إلى حظوظ النفس في إظهار القدرة البلاغية على القول.

ومقال كهذا لا يحتمل تغطية هذا الجانب عند المقاميين كافة، ومن هنا قصرت منطقة النظر على مقامات الحريري، لأن تبئير المشهد يسوق إلى نتائج ذات بال لا تعطيها الرؤى العامة للسرد المقامي.

أحتاج قبل مواجهة المقامات الحريرية أن أقرر أن صاحبها لم يكن يسير على نهج البديع كما هو شائع لدى كثير من النقاد، بل كان له خطه المغاير على صعيد البنية والرؤية، فإذا كان بديع الزمان لم يظهر بطله في كثير من مقاماته جاعلا راويته عيسى بن هشام يقوم بدور البطولة أحيانا فإن الحريري لم يستطع الاستغناء عن أبي زيد في أية مقامة.

وهنا نلحظ أن الحريري حرص مع بطله على أن تكون الصورة المرسومة له ملتصقة بذهن القارئ مع كل حلقة في المسلسل المقامي، ومن هنا أصبح أبو زيد أنموذجا إنسانيا تأثر به الأدباء في لغات شتى، وقد حاول محمد غنيمي هلال أن يرى هذه الجوانب في شخصية أبي زيد، وهي ميزات لم يحققها أبو الفتح الإسكندري بطل مقامات البديع.

اكتفى غنيمي هلال برصد تأثير شخصية أبي زيد دون أن يوغل في تلمس مقومات هذه الشخصية البشرية الساحرة ؛ ولذا دار في فلك الذين يرون أن وعظ أبي زيد كان من أجل الكدية والحصول على المال فحسب.

إن هذه النظرة التي أطلقها بعض النقاد مع أول لحظة التماس مع الجنس المقامي قد عُمِّمَتْ على هذا الأثر الأدبي فجعلت منه مجالا للتندر والاستخفاف، وقد تسلقت هذه الرؤية على شجرة المقامة فخنقتها ؛ مما تسبب في اصفرارها وفي قتل جاذبيتها.

لم يكن أبو زيد يهدف من وراء وعظه إلى خديعة حاضري مجلسه، بل كان متلبسا بحرارة الوعظ، قد دخل أجواءه بصدق، ومن هنا جاء التأثير في المستمعين قويا. لا يمكن أن يخدع أبو زيد كل من في المسجد، فالناس لهم عقول إن غابت عن بعضهم فلن تغيب عن الجميع دون استثناء.

لم يكن أبو زيد ممثلا بارعا يلبس قناعا يواري به سوءاته ؛ لأنه سينكشف لبعض الحاضرين في مجلس وعظه، فالمرء يستطيع أن يخدع بعض الناس كل الوقت، وكل الناس بعض الوقت، لكنه لن يستطيع أن يخدع كل الناس كل الوقت.

ومن هنا وصفه الحارث بن همام بأنه (يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه)، حديثه فاتن ومؤثر، يسلب ألباب سامعيه، ويأخذ بمجامع ألبابهم، هذه وثيقة صدقه، إذ من المعلوم أن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.

أثق أنه سيرد اعتراض على هذه الأفكار من قبل نقاد برمجوا أنفسهم على غير هذا الفهم، سيقولون مباشرة ما تقوله ينقضه أن الحارث بن همام رآه بعد مجلس الوعظ يشرب النبيذ، وينشد:

لبست الخميصة أبغي الخبيصه الكمالِ وما

وأنشبت شصي في كل شيصه مكتمِلِ

وينقضه أيضا أن الحريري جعل أبا زيد يتوب في آخر حياته، ومعنى توبته أنه كان كاذبا في محاولاته ترقيق قلوب العباد وربطهم بمولاهم في حين أنه هو الأحوج إلى ذلك.

وقبل أن أتحاور مع هذين الاعتراضين، أذكِّر بأننا دائما مولعون بإصدار الأحكام على الناس في رؤية حدِّية لا تقبل الاختلاف (صالح أو طالح) (طاهر أو نجس) ننسى دائما أننا بشر، ولذلك إذا وجدنا أبياتا زهدية لأبي نواس مثل قوله:

تأمَّلْ في نباتِ الأرضِ وانظر

إلى آثارِ ما صنع المليكُ

عيونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ

بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ

على قضبِ الزبجدِ شاهداتٌ

بأن اللهَ ليس له شريكُ

قلنا: تاب في آخر حياته، وكأنه لا يمكن أن يعيش الحالتين في أول حياته أو وسطها، وكأنه يستعصي على أفهامنا أن تقبل أن المرء قد يطرب أول النهار ويبكي آخره من خشية الله.

لقد أدرك سيد البشرية صلى الله عليه وسلم طابعنا البشري حينما قال حنظلة الأسيدي: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنا فذكر النَّارَ، قال: ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيانَ وَلاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قال: فَخَرَجْتُ، فَلَقِيتُ أَبا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقالَ: وَأَنا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ، فَلَقِينا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ف َقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، نافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، فَقَالَ يا حَنْظَلَةُ: «سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ» رواه مسلم.

دخل أبو زيد أجواء الوعظ فأشرقت روحه، وتحدث بقلب صادق فأسر عقول السامعين، ثم مضت الساعات فخفتت النفحات الروحانية، وبرز الجانب البشري إلى السطح فمارس بعض ما دعاه إليه هواه، رآه الحارث بن همام وإلى جواره خابية نبيذ، فاستغرب كيف يصدر من هذا الشيخ الجليل صنيع كهذا.

عبر أبو زيد عن هذه الازدواجية كما يحب الحارث بن همام لا كما يرى أبو زيد نفسه فقال:

لبست الخميصة أبغي الخبيصه الكمالِ وما

وأنشبت شصي في كل شيصه مكتمِلِ

وكأنه يقول للحارث: إذا كنتَ تسعد بأن أكون متناقضا، فهأنذا أشبع ظنك السيء، وأتحدث كما تريد أنت أن أبدو عليه، لا كما هي حقيقتي، لا مجال للحجاج هنا لأني سأصادق على هذه التهمة التي يسرُّك أن تلبسني إياها.

لكن القارئ الفطن يدرك أن أبا زيد لم يكن كذلك، فالقطعة الشعرية التي تحوي هذا البيت تُظْهِر في آخرها حقيقة أبي زيد وصفاء نفسه، حيث يقول:

ولا شَرَعَتْ بي على مَوْرِدٍ

يُدَنِّسُ عرضي نفسٌ حريصه

وما توبة أبي زيد التي ختم بها الحريري مقاماته إلا من هذا القبيل، فهو يريد أن يرضي أذواق من يريدون أن يشاهدوا شخصيات ملائكية؛ ولذا نحى الحريري الطابع البشري جانبا، وخادع القارئ بالنزول عند رغبته.

لقد عاش أبو زيد حياة طبيعية فاستحق بذلك أن يكون أنموذجا إنسانيا، وعظ فصدق، وخلع العذار فما شط، ما كذب في الأولى، ولقد صدق في الثانية.

على أن أبا زيد لم يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب -في عرف أهل العراق- حين استعد لشرب النبيذ؛ لأن الأنبذة بجميع أنواعها غير الخمر، ومن هنا كانت فتوى جمهرة من أهل العلم على رأسهم أبو حنيفة وسفيان الثوري وإبراهيم النخغي بجواز شربها.

آمل ألا يكون أبو زيد قد ورطني في إصدار أحكام فقهية لا مجال فيها عند البعض لإبداء رأي أو محاورة حكم، فهي ليست مقامات أدبية، لن تحُاسَب على تأويلاتك لها، إنما هي مقصلة الشيخ التي تطير رأس المخالف.

لن أجعل شهوة الكتابة تستبد بي أكثر من ذلك. ولا أدري أكل ذلك (فزعة) لأبي زيد، مع أنه شخصية خيالية لا وجود لها؟! عجبي!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة