Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
وجوه وزوايا
يوميات كتاب!
أحمد الدويحي

 

رحم الله أياماً في الثمانينيات والتسعينيات، كنا نهاجر فيها إلى عواصم الدول المجاورة، لنحضر معارض الكتاب ونحتفي بالثقافة، وبكل نتاج أدبي جديد وجميل، ونرحل مع المثقفين في ردهات المعارض من الكويت والقاهرة وبيروت ودمشق، لنتعرف على هذا ونحاور ذلك وكأننا آتون من كوكب آخر، ثم نكتشف في نهاية الأمر أننا نملك مخزوناً ثقافياً وأدبياً يفوق تجارب أقراننا في تلك الدول، ولكن للأسف نكتشف أيضاً أننا لا نجيد الحوار ولا الدفاع عن قضايانا ولا عن قناعاتنا، ببساطة لأننا تربينا على تعدد السلطات، ولغة القمع في بيوتنا ومجالسنا ومقار أعمالنا حتى الأدبية منها، رحم الله تلك الأيام، فقد كانت الحواجز الرقابية أشد ما نعانيه، فنضع في أذهاننا الرقيب ذاته، ونتصور أنفسنا مكانه، ونعلم أن هذا الرقيب هو من المنتسبين للوسط الأدبي الثقافي، يسهل بالتالي معرفة ما يمكن فسحه من تجارب أدبية شعرية وروائية، ونحضر ولا بأس بعض الكتب الفكرية والفلسفية في حدود ضيقة، تظل تنتظر في جمارك المطارات والحدود البرية شهراً أو شهرين حتى تتم إجازتها..

رحم الله تلك الأيام، أشياء طريفة لا يمكن أن يمحوها تقادُّم الأيام، حينما سافر الزميل الأستاذ صالح الأشقر إلى دولة خليجية، واصطحب معه رواية (مدن الملح) ليواصل قراءاتها في أوقات فراغه ووحدته، ولكنه أُصيب بصدمة حينما وجد، أنها تسحب وتصادر من بين يديه في عودته، وأذكرُ حينما احتفى الزميل والصديق الأستاذ حسين علي حسين برواية (أولاد حارتنا) في الرياض رغم سفريات حسين المتعددة، وقد أخرجها له بائع صحف يماني في شارع البطحاء من كيس إلى جواره، لأننا كنا في تلك الأيام نتبادل الكتاب وقد يقرأه عشرة غير صاحبه وللقراءة والكتابة لذة ومعنى، فكتبي ومكتبتي المنزلية الصغيرة، تشكّلت من خلال سفراتي لحضور المعارض الدولية، مكان عملي سابقاً وللذين لا يعلمون، فهي تُعنى بمشاركة منتجات الدول العالمية في كافة الصناعات ومنها الكتاب، ولا بأس أن أروي قصة في هذا الشأن، حدثت معي في بغداد عام 82 م في عز الحرب العراقية الإيرانية، وكنت الموفد الثقافي لمعرض بغداد الدولي، وكان غيري تلك الأيام معنياً بالركن الديني، وعرض ستارة باب الكعبة المشرفة كأهم معروضاتنا، وأآخر معني بالفلكلور الشعبي مما كانت أمهاتنا وجداتنا، يستخدمنه كحلية نسائية في مناطق المملكة المتنوعة والثرية، وكنت أجد معاناة شديدة في جمع الكتب فلا وزارة للثقافة حينُها، فالثقافة مجرد مكاتب ودائرة صغيرة مغيبة في رعاية الشباب، يقوم عليها موظفون لا مثقفون والثقافة آخر اهتماماتهم، ولا أندية ثقافية يعتمد على إصداراتها، فحركة المطابع توقفت عن الكتاب الثقافي، وطاردت دور النشر المحلية إيقاع الطفرة ومناقصات الدوائر الحكومية، وأعرضت جامعتا الملك سعود (الرياض) حينها وجامعة الملك عبد العزيز، ورفضت تزويدنا والتفاعل الإيجابي مع مراسلات برتوكولية تتجدد مع كل معرض، جامعة واحدة كانت عند حسن الظن وأرسلت كراتينها للشحن، لتشكّل مع ستارة باب الكعبة معروضاتنا الثقافية، ورضيت بقسمتي على أن زوار ركن كتبي الثقافية، لن يشكّل شيئاً مع زوار الركن الديني وستارة باب الكعبة، فسبقت معروضاتي إلى بغداد عن طريق الكويت براً، وقد مررت بتجربة الكاتب البارع غسان كنفاني، حينما تكررت معي قسوة منفذ صفوان الحدودي، ولكني لم أصرخ (لماذا لم تبلغوني؟) كما فعل بطل روايته في نهاية الرواية، حينما اشتدت الحرارة على بطله داخل صهريح المياه، فقد أجّلت الصراخ وتفرغت للبحث عن سكن مناسب، والتعرف على الجناح وانتظار المعروضات، فجاءت المفاجأة الحاسمة من الرقيب في المعرض، وهو يؤنبني بلهجة عراقية صرفة وقاسية حاسمة، قائلاً: (يا أبه ما يجوز كتب دينية في معرض دولي!)، ورضي بعد جدال طويل بعرضها بعد كتابة تعهُّد مني بعدم توزيعها أو إهدائها، ورضيت وأنا ألعن الأنظمة والدول الشمولية في داخلي سراً بطبيعة الحال.

رحم الله تلك الأيام، تذكرت كل هذا ومعرض الرياض للكتاب، يقام بين ظهرانينا في الأيام القليلة الماضية، تابعت عن قرب ما يدور في أروقته ومماراته ومداخله، يشفع لي ذلك الهاجس البعيد، ولهفة الشوق المتجدد لمعارض الكتاب، يراودني بما كنت أجده في معارض الكتاب في العواصم، فأسافر إليه وألمسه في الأمسيات الأدبية، ورؤية الناس وزيارات الآسر للمعارض، كتظاهرة اجتماعية ثقافية واحتفاء بالكتاب، وأغض النظر وأصم الأذن عما كنت أقرأ وأسمع من شحن وبيانات ووعيد وتهديد، فرضت ذلك العدد الأمني الهائل لحراسة المعرض ولسلامة الزوار والعارضين، واصطحبت عائلتي للمعرض مدفوعاً بذلك الهاجس النبيل لمعرض كتاب، فأنتبه إلى أن في داخل المعرض من يحاول أن يفرض سلطته على زوجتي وبناتي وغيرهن، ويرسم مشاهد لا تنتمي للأدب والأخلاق والعقل، فكيف بشابٍ يزعم التدين وكأصغر أبنائي، يتجرأ دون مراعاة لسني ولسلطتي الأبوية، فيتدخل فيما لا يعنيه لينهي ويزجر لمجرد فرض السلطة؟، فقلت في نفسي على مضضٍ لا بأس، فو الله إن بين النساء اللواتي زجرهن من هي أعلى منه أدباً وأرفع مقاماً وأخلاقاً وعلماً وديناً، وليست هذه الصورة التي يجب أن تكون عليها تظاهرة ثقافية، فالنساء جزء مهم وأساس في حركة المجتمع، ويوجد بينهن مثقفات وأكاديميات في تخصصات علمية ونادرة، وجئن للمعرض للبحث عن الجديد في تخصصاتهن، وليس لسماع مواعظ وإرشادات لا تكون في مدرسة ابتدائية، فهذه الأشكال بتنا نعرفها ونراها عياناً بياناً في الأسواق وفي بياناتهم، فتوجهت إلى مدرج معرض الكتاب لحضور أمسية شعرية للشاعرة الكويتية سعدية مفرح والشاعر أحمد السيد عطيف ونخبة من الشعراء، وحينما اقتربت من الدرج المؤدي إلى قاعة الأمسية الفخمة، وكدت أودع عائلتي إلى الصالة المخصصة للنساء، ليعترضني جندي شاب يقف في مدخل الصالة، ويبلغني المفاجأة غير المنتظرة وهي إلغاء الأمسية، تصوروا جندي على باب قاعة الأمسية، يبلغني بخبر إلغاء أمسية شعرية (!) يا أمان الخائفين، بلعت بمرارة أسئلتي عن دور إدارة المعرض وسلطة وزارة الثقافة، وأعيتني هذه الازدواجية المقيتة والمحبطة.

مفارقات عجيبة مضحكة ومبكية في آنٍ، توقفت أسئلتي واتجهت إلى الصديق والزميل الأستاذ خالد اليوسف، ليبلغني خبراً كاد أن يكون مفرحاً، فخالد الروائي والراصد البلوغرافي للرواية، يبشرني بصدور 100 رواية في هذا الموسم، وخبر كهذا يُفرح مع أن مجتمعاً روائياً عريقاً في كتابة الرواية كالمجتمع المصري، لا يصدر مثل هذا العدد الكبير من الروايات في ظل وجود قوانين النشر وحماية الإبداع، ووجود المتابعات النقدية والدراسات المتعمقة والمتنوعة لهذا الجنس الأدبي، وقلت في نفسي لا بأس فنحن مجتمع حديث على كتابة الرواية، وتوسعت بعد الحادي عشر من سبتمر وبلادنا قارة وبيئات متنوعة وثرية عوالمها، والرواية فن شامل يُعنى بالكشف والتراكم المعرفي، ولا بد من التجريب وخلق فضاءات جديدة لها، وقناعتي بأنه يمكن في هذه الفترة تحمل الرديء لنحلم بالأجمل، في ظل وجود غياب نقدي حقيقي وانحياز، وينحصر الهمّ الثقافي في تهافت رخيص وراء الضوء والشهرة والجوائز، ولكني لم أتصور مطلقاً أن تعلن روائية مبتدئة، تفقد للتراكم المعرفي والتجربة، بأنها سعيدة لأنها حققت أحلامها وتزوجت بطل روايتها..!

رحم الله تلك الأيام، فقد أدركتني مؤخراً، الكتابة في الفيس بوك لمجاراة العصر، وزهدت في الكتابة الورقية ووجع الرأس، ولم تنفع معي للعودة كل الحيل، فجيل التقنية الحديثة ونوافذ المعرفة، تتوفر لهذا الجيل صبياناً وبنات كشرائح واسعة لمستقبل الوطن، فهجروا القراءة الورقية التي لم تعد مغرية، وبقي هامش الحرية النسبي لكتّاب الرياضة في الصحافة الورقية، يحسدونهم عليه كتّاب التخصصات الأخرى المتنوعة، ولكني صدمت وهم يتبادلون التهم بالرشوة والفساد وبيع الذمم في لغة تعصب فاضحة ومكشوفة، يتابعها المستمع والمشاهد في القنوات الخليجية وقناة وزارة الإعلام ذاتها، وتعكس بما يوحي عن حالة متفشية في كافة شرائح المجتمع الأخرى، فعلاً مفارقات مضحكة مبكية في آن لم تبلعها اسئلتي.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة