Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
ولها سيناريو أيضاً!
(عن المقالة الأدبية والأخذ منها..)
فيصل علي أكرم

 

كثيرًا ما راودتني فكرة الكتابة عن هذا الموضوع، ولكني كنتُ أستبعدها أحيانًا وأحيانًا أؤجلها حتَّى أتناساها وانشغل بغيرها؛ لأنَّ المسألة التي أعنيها هنا تتطلب بحثًا شاقًا ومعقدًا -لا أطيقه- مع أني أحبُّ أن أبحث في كل شيء، وأكره قراءة البحوث الجاهزة!

وتوصلتُ أخيرًا إلى أن أتناول المسألة من الجانب الذي يخصني بالدرجة الأولى، مع أنها مسألة أدبية ثقافية عامة، غير أن تواترها على نتاجي الأدبيّ -تحديدًا- يعفيني من التقصي والبحث عنها في نتاجات الآخرين..

والمسألة باختصار هي أن بعض الباحثين، سواء من أجل متطلبات دراسية أو من أجل طروحات ثقافية أدبية، أجدهم ينبشون في (المقالات الأدبية) ويستقطعون منها ما يحسبونه حقائق منقولة بأمانة من مراجع معتبرة، فيتجاهلون ذكر اسم كاتب المقالة ويستشهدون فقط بالفقرة التي يريدون تناولها في موادهم، ظانين أنهم بذلك قد وفروا جهدًا وأخذوا ما يريدونه جاهزًا من مصدر موثوق!

الحقيقة التي لا يعلمها أولئك (الكسالى - ربما) الذين يريدون أن يكونوا باحثين من دون أن يبحثوا بالطرق الصحيحة والصعبة، هي أن (المقالة الأدبية) مثلها مثل الأدب والفن، يطرحها الأديب من أجل أن يقدم أفكارًا في رأسه هو، لا أن ينقل أفكار غيره (!) وذلك هو الفرق الذي يجعل من المقالة الأدبية عملاً أدبيًا (إبداعيًا) ينأى بها عن العمل الأدبيّ (الآليّ) المعوّل عليه في الدراسات الأدبية والبحوث والأطروحات التوثيقية أو التأريخية.

واستطيع أن أشبّه (المقالات الأدبية) بالأعمال (الدرامية) التلفزيونية، التي تتناول شخصيات وأحداثًا لم ينقل التاريخ عنها كل تلك التفصيلات التي أوجدها مؤلف العمل في (السيناريو) الذي نشاهده على الشاشة!

لماذا افترضتُ هذه المقارنة؟

أقول: لأنَّها قناعتي التي أعلنها دائمًا، حتَّى لو أن التاريخ الأدبيّ سيعلّق لي (المشنقة) إذا اعتبرني (مزوِّرًا)، فالتزوير الذي أفهمه في وادٍ والعمل الإبداعيّ في وادْ!

وسأضرب مثالين فقط من أمثلة كثيرة، الأول حين قلتُ في مدخل نص أدبيّ من نصوص (نصف الكتابة) الصادر عام 2004م هذه العبارة أو التساؤل: (هل كان حاتمُ الطائيُّ كريمًا حقًا وهو يذبح صديقه الحصان من أجل غرباء نهمين)؟!

أثيرت ردود وتعليقات كثيرة حين نشر تلك العبارة المتسائلة في ذلك الكتاب، وأذكر أن الأستاذ طلال سلمان (رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية) كتب مقالة طويلة جوابًا عن تساؤلي في تلك العبارة، بوصفها (كشفت القناع عمّا نحسبه كرمًا وهو في حقيقته غدر..!) وغيرها من التعقيبات والتأويلات ولكنها انتهت وبقي الكتاب الذي يضمّ النص يتخذه البعض (مرجعًا) من المراجع (المؤكِّدة) على أن واقعة ذبح حاتم لحصانه من أجل إشباع بطون أناس غرباء عبّروا من أمامه هي واقعة صحيحة، مع أنها محض خيال تبارى في ابتداعه بسيناريوهات متعددة عددٌ من الأدباء القدامى والمحدثين (وربما أكون آخرهم!) فلم أجد لتلك الواقعة - متعددة الروايات - توثيقًا معتبرًا، ولكني اتخذتها مدخلاً فقط لأقول أفكارًا معينةً لا علاقة لها بحاتم أو حصانه!

والمثال الثاني هو قريب جدًا، قبل أسابيع قليلة كتبتُ - هنا في الثقافية - مقالة بعنوان (أشياء قريبة جدًا) ذكرتُ فيها (حكاية) قلتُ إنها من الحكايات والأساطير التي اشتهر بها الإغريقيّ المبدع أيسوب 620 - 534 ق.م والحقيقة أن حكاية أيسوب كانت عن (أفعى تلعق مبردًا) فجرحت لسانها (!) هكذا فقط، من دون ذلك (السيناريو) الدمويّ الذي (ابتدعته) في مقالتي، والصحراء والفأر الداهية الذي عرف متى يركض ومتى يقف!، كل ذلك كنتُ قد وضعته من رأسي - لا من مرجع آخر! - وضمّنته الحكاية من أجل الوصول إلى ما أردتُ قوله في نهاية المقالة بمقطع شعريّ. ولم يكن يخطر ببالي أنني سأشاهد الحكاية - كما وضعتها - تضاف إلى (حكايات أيسوب) في عدد من المواقع التي تعنى ب(توثيق) الأساطير القديمة! سأفترض حسن النوايا طبعًا، في من يستقطع مثل هذه الحكايات المثبتة في مقالات أدبية على أنها من الأساطير المتناثرة في عدد من لغات العالم، فيضمنها موسوعته أو بحثه، لأنَّ من الصعب عليه التأكَّد من دقتها وحقيقتها طالما أنها ستضيف شيئًا يثري المادة المتراكمة من دون الإخلال بشيء من مميزاتها وقيمتها.. ولكن: كيف هي الحال مع محترفي (السرقات الأدبية)؟ إنه شيء هستيريٌّ مضحكٌ حدَّ الجنون، حين ترسم - أو تزوِّر - عملة نقدية بغرض الاستعراض بها كعمل فنيّ إبداعيّ، ثم تفاجأ بمن يسرقها ويذهب بها إلى السوق يريد استخدامها ظانًا أنها عملة نقدية حقيقية(!) فتفتح عينيك واسعتين وأنت تراه قد استخدمها فعلاً، واشترى بها رصيدًا علميًا وثقافيًا وأدبيًا!!!

ومن يرجع إلى بدايات الدراما التلفزيونية العربية سيجد العجب، بخاصة مع الأعمال التاريخية أو الإسلامية، وكمثال فقط قصة (محمد رسول الله والذين معه) تأليف الأديب المصريّ عبد الحميد جودة السحار 1913 - 1974 المكونة من عشرين مجلدًا وثق فيها المؤلف سيرة الرسل والأنبياء مع ثبته للمصادر والمراجع التي اعتمد عليها، ومعظم تلك المراجع كانت أعمالاً فلسفية وأدبية (!) لذا كانت القصص مدهشة وممتعة لكنها صادمة لمن يبحث عن الحقائق الموثقة علميًا بمنأى عن الخيال الأدبيّ.. ثم كانت الثورة أو الفورة التلفزيونية الكبيرة حين ظهرت القصة كمسلسل تلفزيوني ضخم كتب له السيناريو عبد الفتاح مصطفى وأخرجه أحمد طنطاوي متضمنًا رؤىً إبداعية تتجاوز قصة المؤلف السحار وتصل بالمشاهد إلى أقصى درجات التشويق والمتعة من خلال الأحداث التي تبدو منطقية ومتقنة ومقنعة لدرجة أن كثيرًا من الكتاب والباحثين صاروا يتخذون (المسلسل التلفزيونيّ) مرجعًا ينقلون عنه تفصيلات لأحداث دقيقة في رحلة الأنبياء ومن كانوا حولهم، حتَّى ظهرت ندوات وحوارات مع السيناريست والمخرج - بعد وفاة المؤلف عبد الحميد جودة السحار - أوضحا فيها للناس أن العمل يتضمن كثيرًا من (الإبداع) ولا يمكن الاعتماد عليه كمرجع للسيرة النبوية كما هي موثقة في الكتب السماوية والعلمية المعروفة.. فمتى يفهم المعنيون بالبحث والتجميع بغية الإعداد والتأليف، أن (السيناريو) عملٌ أدبيّ إبداعيٌّ يلامس الواقع ولكنه لا يتطابق معه أبدًا، بل هو يحلق به إلى فضاءات من التصوّر والخيال.. وذلك ما لا تخلو منه قصة أو دراما تلفزيونية أو حتَّى مقالة أدبية، فإن كان التعريف الأشهر للسيناريو أنه (فيلم على الورق) فالمقالة الأدبية هي الورق الذي يحمل السيناريو والفيلم معًا؟؟ ولها سيناريو أيضًا!!

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة