Culture Magazine Thursday  05/04/2012 G Issue 368
فضاءات
الخميس 13 ,جمادى الاولى 1433   العدد  368
 
العقيدة التاريخية والعقيدة المضادة
من يحاكم آلهة الأمس؟
سهام القحطاني

 

يعتقد البعض أن قضاء التاريخ أعدل من قضاء الراهن؛ لأنه لا ينخدع بما ينخدع به قضاء الراهن و قد يكون سبب ذلك الاعتقاد في رفع التوهم عن الانخداع أن الحدث مصدر المحاكمة ناجز في مجمله، وهو ما يجعل المرافعة التاريخية تتميز بالموضوعية والنزاهة لأنها تتخلص من النفعية وأجندة الحسابات وتأثيرات النفوذ أو تأثيرات الثأر والانتقام، وباعتبار غالب تنبني عليه العقيدة التاريخية بأن التاريخ لا يكذب ولا يتجمل.

وبذلك يضمن التاريخ قضاءً عادللً لآلهة الأمس من «الطغاة والظالمين والمصلحين والثوريين».

وهو اعتقاد ينبني، كما قلت سابقا، على عدالة العقيدة التاريخية النقية من كل ما يُوقع في وهم الانخداع ويضمن لتلك العقيدة أمن الموضوعية وسلامة النزاهة وما يلزم من وجوب اختلاف معايير العدالة ما بين خارج إطار التاريخ أي فضاء الراهن المشبوه باحتيال البينة والشاهد وداخل إطار التاريخ « المسبق لإنتاج الراهن» وفوات فرصة احتيال البينة والشاهد.

لكن، هل هذا الاعتقاد في محله؟ أن عدالة العقيدة التاريخية أصدق وأقوى من عدالة الراهن بموجب ما تتميز به من نقاء يرفع عنها توهم خدعة البينة والشاهد ويضمن لها أمن الموضوعية وسلامة النزاهة؟

ومن يؤيد هذا المعتقد فهو بالتبعية يؤمن بأن العقيدة التاريخية تملك «الحقيقة المطلقة» باعتبار ناجزية الحادثة التاريخية والتي تضمن بموجب تلك الناجزية اكتمال معطيات الحكم المُنتج للعدالة الكاملة.

وبأن التاريخ وفق امتلاكه للحقيقة المطلقة يُثبت صحة «الآحادي»أحادي الرؤية وأحادي الرأي، مقابل إثبات خطأ المتعدد على مستوى الرؤية والرأي لِم يعتبر راهن.

ومن لا يعتقد بمقولة أن التاريخ «يملك عدالة كاملة» فهو يعتمد على عدة معطيات منها أن خطأ المتعدد على مستوى الرؤية والرأي لا يمثل اعتبار للراهنية بل هو «عقيدة تاريخية» مماثلة للعقيدة التاريخية القائمة على «صحيّة الرؤية والرأي»،ولذلك لا بد لتقويم الحادثة التاريخية أو محاكمة أصحابها وفق ثنائية أو تعددية العقيدة التاريخية لا وفق أحادية.

وأن القضاء التاريخي يميل إلى الطرف الجاهز بالبينات والشواهد، وبذلك فالقضاء التاريخي ليست مهمته تقصي الحقائق لرفع التوهم عن الانخداع، بل الحكم في ظل الوقائع المدونة أو المروية وهذا بدوره يقلل من قدرته على إمكانية التحكم في مسألة «رفع التوهم عن الانخداع» وهو ما يعتبر ضابط أمن الموضوعية وسلامة النزاهة وقيمة العدالة.

وبموجب العقيدة التاريخية التي تُتيح الحكم في ضوء الوقائع لا ما يُستقصى من حقائق يتساوى مع الحكم الراهن،والتساوي في مصدر الحكم يستوجب التساوي في نوع وقيمة ناتج الحكم،وبذلك فالقضاء الناتج عن العقيدة التاريخية هو إعادة إنتاج حكم القضاء الراهن.

وقد يعترض أنصار العقيدة التاريخية والمؤمنين بعدالة قضائها على رؤية التساوي السابقة بين التاريخي والراهن لأمور عدة منها؛ أن الحكم التاريخي ليس حكما تتابعيا للحكم الراهن ولهذا فالانفصال الزمني له اعتباره التأملي والبحثي في العقيدة التاريخية وهو ما يعني أن خاصية «تقصي الحقائق» متوفرة ضمن معطيات القضاء التاريخي بجوار معطيات الوقائع المدونة والمرويّة.

وإن تحول الحادثة الراهنة إلى حادثة تاريخية التي تُصبح هي مصدر المحاكمة تتجرد من إطارها الزمني المؤقت وخلفياتها المعُينة على تزوير البينة والدافع وهو تأكيد لأمن الموضوعية وسلامة النزاهة العقيدة التاريخية.

وهذا الرأي مردود عليه من معارضي القضاء التاريخي فهم يذهبون إلى أن التخلص من الإطار الزمني للحادثة الراهنة وقت تحولها إلى حادثة تاريخية لا يقتضي بالضرورة التخلص من الخلفيات المعينة على تزوير البينة والدافع؛لأن هناك من يحلّ محل تلك الخلفيات وهي «عقيدة القراءة التاريخية للحادثة» أو «العقيدة التاريخية» المضادة.

و العقيدة التاريخية المضادة لا يستطيع القضاء التاريخي التخلص منها؛ لأنها إحدى مستندات الشهادة التاريخية،ولا يمكن للحكم التاريخي التملص منها أو تجنبها.

وتخضع العقيدة التاريخية المضادة لتقويم الحادثة التاريخية أو تحليلها إلى ذات المعايير التي يخضع لها الإطار الزمني للحادثة الراهنة أي مسلمتي «الرفض والتأييد»، وتلكما المسلمتان هما من يحجبان حقيقة الحادثة التاريخية وحقيقة اتهام أصحابها أو براءتهم أو قيمتهم، ويجعلان معايير العقيدة التاريخية المضادة والسلمية ذات خاصية ازدواجية ووسيلة تأويلية؛ فالمعيار الذي يؤول في مصلحة تقويم الحادثة التاريخية هو ذاته الذي يؤول بمستوى آخر لإثبات جرم وخطيئة الحادثة التاريخية، وبذلك فالعقيدة التاريخية التي «تبرئ المتهم» هي ذات العقيدة التاريخية المضادة بمستوى آخر من التأويل التي تؤكد» جرم المتهم» والعقي دتان متكافئتان من حيث المستندات والبراهين والمعطيات، إن المسألة في النهاية هي «لعبة تأويل» تعتمد عليها العقيدة التاريخية والعقيدة التاريخية المضادة لها.

فمن يرى في عقيدته التاريخية أن «هتلر ونابليون وكمال أتاتورك» من أهم مصلحي العالم الإنساني في القرن الماضي، هناك من يعتبرهم وفق عقيدته التاريخية المضادة من أهم «سفاحي ومجرمي العالم في القرن الماضي».

وتلك اللعبة هي التي تجعل من الصعوبة أن نثق بأن أي العقيدتين التاريخيتين تستطيع إنتاج «عدالة كاملة» وأنها قادرة على إصدار حكم موثوق على «آلهة الأمس».

نعم التاريخ لا يكذب ولا يتجمل لكنه يتأدلج ويتمذهب.

جدة * sehama71@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة