يقول أحدهم: الغرباء وحدهم من يهتمون بالكتابة عن المدن ! وأنا الغريبة في هذه المدينة المتجهمة، لا أحاول أن أقيم علاقةً معها، وعرة بكل تفاصيلها، يخصف عليها الجبل من أشجار السرو والصنوبر ما يدرأ به سوءات بؤسها، تبدأ نهارها بعبوس وتنهي لياليها بقيظ يخنق كل هبّة للنسيم!

تكاد تنسف كل النظريات الجغرافية، وتضرب بآراء ابن خلدون عرض الحائط حين تحاط بالخضرة والماء ولكنها تفتقر إلى الوجه الحسن! كل وجوه القوم هنا حانقة، كلما مررتُ من بينهم علت نظرات الريبة والتوجس، مدينة تفتقر إلى الابتسامة.. حتى البط الذي يعوم في بحيرة بائسة يعقد حاجبيه ويعبس في وجهي حين التقطت له صورة يتيمة!

كنت أرى في مدن الوطن مدناً منغلقةً على ذاتها مثل صدفة عصية على الفتح، وكم كنت أسخط على الجار الذي يقفل باب بيته سبع دوراتٍ بعد خروجه إلى العمل كل صباح، كانت تلك موسيقى أفتتح بها نهاراً من الكدح، كنت أغضب من الطيور التي تعلمت الكذب في سماء المدينة، وكم من مرةٍ خدعتني بتغريدها الصباحي لأجد أمطاراً غزيرة بانتظاري تبللني حتى العظم، فأقول في نفسي: ربما فهمت قول السياب «ودغدغت صمتَ العصافير على الشجر، أنشودةُ المطر»، فهمته خطأ أو أنّ الطيور غيّرت عاداتِها في هذه المدينة!

في شوارع تلك المدن المتورمة بخيباتٍ مختزلة تعلو وجوه البائسين، كنت أعشق المشي الطويل وتأليف القصص عن وجوه صامتة وأيادٍ معروقةٍ، وأتآلف مع الضحكات العالية أو حتى الشجارات التي تثور في لحظة لأتفه الأسباب!

لم تكن تلك المدينة غرائبيةً مثل «مدينة البهائم» لإيزابيل الليندي، ولا فاضلةً مثل «جمهورية أفلاطون»، كما لم تكن بلا قلب كما وصف أحمد عبد المعطي حجازي القاهرة ذات مرة، لكنها كانت مدينة للحياة، حنونة حين تكون محمَّلةً بروائح الغسيل الرطب في مساءاتي المتعَبة وكأنها تغسل ما علق بي من شوائب ذلك النهار!

على هذه الشرفة التي تطل على طريق طويل تفضي نهاياته إلى غابات لم أرها وشواطئ كنت في كل مرة أعد نفسي بزيارتها ولا أفعل، أجلس كل صباحٍ ومساءٍ تستثير حنيني دمعات أمي، إلى تلك التي «لعلّي وإن شطّت نواها أزورها»!

والآن في هذه المدن المكتظة بالغربان، والتي تلوّح بمزيدٍ من الخيبات، تفتَح أبوابٌ جديدةُ للصمت، حين يغدو الكلام مجرد رفاهية!