كان لعلماء الأمة الأجلاء وفي مقدمتهم الشافعي في كتاب الرسالة فضل السبق في إشاعة حس الاحتفاء بعلم أصول الفقه بوصفه متنا منطويا على زخم من المعطيات القانونية البالغة الدقة والتي تحمي ذهنية الفقيه من الوقوع في فخ الاستدلال اللاممنهج إبان مزاولة استنباط الأحكام الفقهية وصناعة معالم الفتوى.
هذا الصرح الأصولي المذهل تم تشييده كميزان معياري لضبط ملامح الدلالة وتوليد جزئياتها ورصد تموضعاتها عبر آليات حينما يتوفر الفقيه على أدواتها يتسنى له حينئذ الكشف عن ملابسات الأحكام الشرعية والوقوف وعن كثب على العلاقات التسلسلية والعلائق الجدلية الحاكمة لثنائية الدال والمدلول.
أما حينما يتنكب الفقيه - بوعي أو بدونه - تلك الجادّة الأصولية ويزْورّ عن أدبياتها ولا يستصحب الشرائط الضامنة لاطراد فعاليتها فإن قدرا من اللامنطقية ستصطبغ بها تقريراته, ولاغرو فكثير من الأحكام الفقهية يتطرق إليها الخلل - كنتائج - نظراً لاشتغالات أصولية - مقدمات - غير دقيقة,بل وقد تكون أحيانا والغة في شطط التوظيف الدلالي - كحال تلك القراءات التي تهمش الدال(النصي) وتُضيّق مجال امتداده لصالح الدال (الإلحاقي!) وشتان مابين الاثنين من حيث سياق التراتبية الدلالية- وعلى نحو يحدو لصياغة أحكام فقهية وإثباتها بغير مقتضى منطوق أو مفهوم أدلتها!.
هناك قراءات تسقط الدوال على وقائع ثقافية لا تمثلها بالضرورة,نعم أحيانا تلك الأدلة المستدعاة قد تحظى بكمّ وافر من الاعتبار على المستوى الأصولي لكن الخلل يتسرب إليها بفعل إجرائها في سياق ينافي السياق الأوْلى بطبيعتها ولا ريب أن إنزال الدال في ظرف يفتقر إلى موجبات إنزاله ممارسة لا تفضي إلا إلى إهدار القيمة الدلالية جراء الانفصال بين الدال والمدلول من جهة, وإقصاء أدلة اعتبارية كانت أوْلى بالاستقطاب بفعل ما تتكئ عليه من زخم دلالي خصب من جهة أخرى.
وغني عن القول التأكيد بأن التنصيص المباشر على حكم مّا ليس بالضرورة إذ قد يُستنبط هذا الحكم من دليل شمولي عام تشكل تلك القضية الجزئية بعينها أحد أفراده, بل قد يستوحى هذا الحكم من خلال ممارسة قياسية عبر تعدية الحكم بإلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه وكما أن الشارع لا يجمع بين المختلفات فهو أيضا لا يفرّق بين المتماثلات إذا كان ثمة علة جامعة تفرض الاشتراك في حيثيات الحكم.
ومحصول القول: إن الطرح الفقهي تضمر فاعليته ويفتقد شرط كفاءته حينما يتم التجافي عن تلك القوانين المعيارية التي هي محل عناية علم أصول الفقه وعليها تتمحور كافة بحوثه.
- بريدة
Abdalla_2015@hotmail.com