Culture Magazine Thursday  04/10/2012 G Issue 382
فضاءات
الخميس 18 ,ذو القعدة 1433   العدد  382
 
الإبداع النسائي وقناع الكتابة (1)
لمياء باعشن

 

يمكننا صياغة السؤال الذي يضعه هذا العنوان أمامنا على الشكل الآتي: هل تكتب المرأة المبدعة أدبًا مقنّعًا؟ وهو سؤال متحيّز ومبطّن، إذ يفترض ضمنيًا أن المرأة تكتب أدبًا خاصًا بها، وأن هذا الأدب له صفات تميزه أهمها: التقنع أي التخفي، وأنها حين تكتب تظل ملتصقة بواقعيَّة تجربتها المعاشة كامرأة. ويفتح هذا السؤال ثلاث جبهات للنقاش: مسألة الأدب النسوي، ومسألة التقنع الكتابي، ومسألة طبيعة الإبداع الكتابي.

أولاً: الأدب النسوي (Feminist Literature) مصطلح مشوّش، فهو يعطي انطباعًا خاطئًا بأنه صيغ كوصف لحالة مستجدة وهي بدايَّة مساهمة النساء في الكتابة، فقدوم أولئك الكاتبات واقتحامهن عالم الطباعة والنشر الذكوري بعد تغييب طويل كان لا بُدَّ له من مسمى فكان المصطلح. لكن الحقيقة هي أن الكتابة النسائيَّة استمرَّت ما يزيد على ثلاثة قرون من الزَّمَان قبل أن يصك هذا المصطلح، فهو بذلك ليس مصطلحًا يعيّن نوعًا أدبيًّا وإنما جاء نتيجة لحراك اجتماعي سياسي نسوي طالب بحقوق المرأة ومساواتها بالرَّجل قانونيًّا في عهود لاحقة.

المصطلح إذا لا يرتبط بكتابة النساء الإبداعيَّة حصريًّا وإنما مرتبط بالحراك التحرري في القرن العشرين، وعليه فإنَّ الأدب المرتبط بقضايا المرأة هو الأدب النسوي سواء كتبته امرأة أو رجل، وسواء كتب عمدًا للخوض في موضوعات المساواة أو تعرض لتلك الموضوعات بِشَكلٍّ عفوي، وسواء كتب في القرن العشرين أو في غيره من القرون السابقة. وتولت مدرسة النقد النسوي الحديث (Feminist literary criticism) تحليل وتأويل النصوص التي ركزت ليس فقط على إسهامات المرأة الكتابيَّة المعاصرة، بل على مؤلفات النساء القديمة التي عانت من الإهمال في العصور السابقة، كما عملت على غربلة وتمحيص جميع الأعمال الأدبيَّة التي كرَّست لصورة المرأة السلبيَّة النَّمطيَّة، وتلك الأعمال التي أعطت إشارات مبكرة عن الوعي النسوي أو عن مطالبات بتطوير مكانة المرأة في المجتمع.

وصحيح أن بدايات الكتابة والنشر للمرأة في كلِّ المجتمعات تمرُّ بمراحل محددة، ذلك أن المرأة تقصى بدءًا عن دوائر العلم والمعرفة، ولا تحسن القراءة إلا بعدما يسمح لها بالتعلم، ثمَّ حين تتقدم إلى المشهد الأدبي يكون الركب قد تخطاها بكثير. لكنَّها حين تمسك بالقلم تكون على مستوى عالٍ من الوعي الكتابي، ذلك أنها قرأت طويلاً وتعرَّفت على طرق الكتابة وأساليبها وموضوعاتها، لذلك فإنَّ خطواتها الأولى على درب الإبداع تأتي على استحياء وتواضع، وهي المُتلقِّية الصَّامتة، لشعورها بأنها تسير على خطى معلميها، فتتبع النهج الكتابي الذكوري وتتحدَّث بصوت الرَّجل وتستنسخ مواقفه الفكريَّة.

بعد طول قطيعة عزلت فيها المرأة عن الساحة الثقافيَّة وحجبت عن الحياة العامَّة، تخرج ككاتبة من اغترابها، وتبدأ في تجاوز بعض الحواجز فتعوض عجزها عن القول بالكتابة كوسيلة تواصل تمكنها من التحرر من أغلال الصمَّت واقتحام مساحات البوح بصوت أنثوي جديد. تظهر المرأة ميلاً إلى المنحى الرومانسي فتسطر شجنها وأنينها ومخاوفها في قطع أدبيَّة رقيقة وتسترسل في هذيان المشاعر. حين تنطوي المرأة على ذاتها تغوص في أعماقها العاطفيَّة لتبوح بكتابة هادئة عن المسكوت عنه من رغبات وميول، وتقدم انطباعات عن العواطف الأنثويَّة تختلف تمامًا عن تلك التي حفرها القلم الذكوري عبر التاريخ.

وفي مرحلة لاحقة تبحث المبدعة عن لغة جديدة لتعبِّر بها عن مضامين جديدة، فهي ستخرج من تأمَّل عالمها الخاص وتفاصيله الكثيرة بوعي أكبر لغياب ذاتها ومحوها. تقترب المرأة شيئًا فشيئًا من تلك الأعماق الحميميَّة التي تبرز خصوصيتها وتحدد هويتها كأنثى، وتختار أن تبادر هي بتصوير ذاتها للقارئ بعد أن كانت مُجرَّد موضوع يتضمنه الأدب. وتحث فيرجينيا وولف (Virginia Wolf) الكاتبات على اتِّخاذ هذه الخطوة التي تَتحوَّل فيها المرأة من مادة يشكِّلها الرَّجل ويشيئها على الورق إلى صانعة مادتها ومشكلة لملامحها بمشيئتها، قائلة: “هل تعلمن أنكن ربَّما كنتن أكثر المخلوقات موضوعًا للنقاش في الكون؟” شرّعت الكاتبة لوجودها كذات متفردة في حكايات تتقاطع مع تلك الذات وهي صانعتها ومالكتها، وكما تقول الأديبة السعوديَّة أمل شطا: “الكتابة جزءٌ من ذاتي وعصارة فكري وموسيقى حياتي، هي سبيكة من نفسي ومن تجاربي وخبرتي وذكرياتي”.

أما وقد تجلت هويتها، فالمبدعة تخرج عن طريق الكتابة من دائرة وحدتها المنغلقة على ذاتها وتمسك بطرف الخيط الرابط بين النساء في المجتمع الواحد فتتلمس معاناتهن المشتركة وتُعبِّر عن قلقهن، وتتمثّل قهرهن وضياع أحلامهن في مجتمع يجور عليهن. على صفحات مؤلفاتها تتجسّد الكتلة النسائيَّة في عجزها عن تخطي العقبات اليوميَّة التي تطوِّقها وتخضعها لتقاليد لا تعترف لها بحقوق. هنا تصبح الكتابة مُتنَفسًا لأوجاع المرأة في كينونتها الاجتماعيَّة وعرضًا صارخًا للعطب المجتمعي المتسبب في تعاستها والمنغص لواقعها.

حين يتضخَّم هذا الوعي الأنثوي المشترك تتبيَّن حقيقة وأبعاد عمليَّة إعاقة المرأة في مراحل تاريخيَّة سابقة، فترتفع وتيرة الغضب في الخطاب النسوي وتزداد جرأة الكاتبة في الكشف عن مشكلاتها محتجة ومعارضة للقيم البترياركيَّة السائدة التي تضطهدها، حينها تصبح الكتابة آليَّة دفاع وهجوم، ثمَّ آليَّة تمرد وانقلاب على موروثات المجتمع المجحفة. تقول الكاتبة السعوديَّة زينب حفني: “اقتربت من عالم الإبداع بفضول ورغبة في إخماد ثورة الغضب بداخلي، ثمَّ أصبحت الكتابة الإبداعيَّة بالنِّسبة لي تغطيَّة ذاتي المتمردة التي تكره القيود وتتطلَّع إلى مناخات مختلفة من الحرية”. يجاهر الإبداع النسوي محتدًا بامتعاضه من خنوع المرأة ورضوخها، ويصورها إبداعيًا كضحيَّة ينهكها الخوف والتوجس، فتكون الكتابة فعلاً تحرريًا تعبر به الكاتبات عن توقهن إلى ممارسة الحريَّة، وتحريريًّا يتكرَّس من خلاله انتفاضة وثورة نساء المجتمع على المنظومات التَّقْليديَّة.

تأتي هذه المعركة المعلنة كرد فعل تعويضي عنيف ينتقم من عقود من الكبت والتصميت اللذين يفرضهما التَّحكم المجتمعي.

- جدة lamiabaeshen@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة