Culture Magazine Thursday  01/03/2012 G Issue 365
تشكيل
الخميس 8 ,ربيع الآخر 1433   العدد  365
 
محطات تشكيلية
تحمل بعدا فلسفيا لمفهوم الجمال في أفق الصحراء (الحلقة الثانية)
مدرسة الفنان السليم الآفاقية تجربة تستحق أن تدرس في أقسام الفنون بجامعاتنا
إعداد: محمد المنيف

 

تواصلا مع ما أشرنا إليه في الصفحة الماضية حول محاضرة الفنانة نجلاء السليم عن والدها الراحل رائد الفن التشكيلي السعودي وصاحب تجربة (الآفاقية) والتي نأمل أن تستمر في طرحها في كل مراحل تجربتها ومعارضها أو في المناسبات التي يتطلب الحديث فيها عن الفن المحلي.

تأتي هذه المطالبة بتكرار الحديث عن تجربة الراحل السليم من الفنانة نجلاء السليم أو من الأوفياء من التشكيليين لأهميتها من حيث التفرد أو الارتباط البيئي والفكري (كموضوع) يستقيه من محيطه على مختلف تنوعه، من خلال توظيف العنصر المستلهم من الطبيعة أو الكلمة والجملة والعبارة، واليوم نستعرض بعضا من جوانب تلك التجربة وننقل ما قيل عنه في كثير من المناسبات وصولا إلى ما تحدث به النقاد العالميين.

الآفاقية بين بعد إنساني وإحساس بيئي

لم تكن تجربة الفنان السليم في استلهام الأفق كمرتكز لأعماله أتيا مصادفة أو ضربة حظ، بقدر ما كانت تلك الخطوط أو الاتجاه مع ما يشكله الأفق من امتدادات لا حدود لها ولا تقف عندها العين حاضرة في أعماله السابقة التي كان فيها مهتما بجمال البيئة النجدية، واحات وقرى وبيوت شعر ومساحات صحراوية جمع فيها بين قساوة الجبال ونعومة الرمال وجمال ضوء القمر في هدوء الليل وصخب النهار بشمسه الساخنة .

نجدها في لوحاته التي كان أغلبها في عام.. قدمها بالألوان المائية والزيتية، أحال بوهج ألوانها الصحراوية برودة الشتاء إلى دفء.

لوحة الاستقرار أنموذجا لبداية الآفاقية

ويحضرني هنا لوحة الاستقرار التي يظهر فيها الملك عبد العزيز وهو يغمد سيفه في الأرض ويستبدله بحمامة السلام التي يحملها على ظهر يده بعد أن وحد المملكة، هذه اللوحة التي جمع فيها السليم بين الفكرة ذات الأبعاد الوطنية وبين الشكل الذي يظهر التلاحم بين المؤسس والوطن من خلال التكوين العام للوحة دون تجزئة أو فصل بين الشخصية وبين بقية العناصر وكأني بالراحل السليم يقول إن الموحد والوطن كل لا يمكن فصله، مع ما أضفاه من ألوان البيئة وبما أبدع فيه من بناء فني كان ولا زال السليم يرحمه الله معلما ومبدعا فيه. هذه اللوحة إحدى إنجازات السليم في بدايات اقترابه من أسلوبه الآفاقي ووملامح توجهه.

تحقيق النتائج

واصل السليم بعدها بحثه مستخلصا العناصر وموجزا الكتل ومتبعا ما يوحي له أسلوبه الأصيل من أمر نحو منح الفرشاة حرية الحركة كما يريده الإحساس ويمليه العقل الباطني المفعم بالكثير من المشاهد بعيدا عن رتابة التنقيطية التي مارسها في مرحلة سابقة خلال دراسته في إيطاليا أو ما لحق من أسلوب التكنيك بالسكين الذي يتطلب هدوء حركة ورشاقة إسقاط اللون والتي أخذت وقتا طويلا ساهمت في تنفيذ الكثير من أعماله واشتهر بتقنياتها وقدرته فيها على إبراز جمال الملمس دون الإخلال بالشكل، فكان للأسلوب(الآفاقي) حقه من الحرية فانطلقت سكين التلوين تنساب بألوان كالمياه الرقراقة ، أو خصلات شعر فرس تتهادى تداعبه نسمات الربيع ،هذه الحرية في انطلاق التجربة بعد قناعة وعزم على إثبات هذا التوجه كان حصيلته الكثير من الأعمال وفي وقت واحد وجد الفنان السليم نفسه فيها يغترف من خلال هذا الأسلوب بنهم المتعطش للإنتاج قدم به العديد من المعارض وحقق به موقع قدم تاريخية لا يمكن إزاحتها أو محو أثرها إلى يومنا هذا.

و إذا كنا قد شاهدنا البعد البيئي في (الآفاقية) فلنا أن نتوقف كثيرا ونقف احتراما لهذه التجربة التي لم يقف الفنان الراحل فيها عند تتابع اللون أو درجاته أو انسياب الخطوط من اليمين إلى اليسار أو العكس مع ما يحدثه هذا التحرك من إيقاع متناغم يبعث فيه الحياة بالحركة صعودا أو هبوط طبقا لإيحاء الصحراء، بقدر ما وظَفه في الكثير من العناصر دون إخلال بالفكرة أو الاتجاه أو الأسلوب فنجد أن السليم قد استحضر الكثير من المعاني إن كانت حكمة أو حديث أو آية قرآنية، إضافة إلى طرح الكثير من المواضيع الإنسانية شكلا ومضمونا كما أثبت أن هذا الأسلوب قادر على التفاعل مع المواقف والأحداث الإنسانية والوطنية فأنتج لكثير منها.

خصوصية وأسلوب فن الصحراء. الهوية

هذا التميز والبحث في جانب من جوانب الواقع البيئي وتحويله إلى منتج إبداعي له خصوصيته يدفعنا ويدفع الكثير إلى السؤال الذي يجب أن يسبق القناعة أو عدمها من قبل المشاهد أو المتلقي لهذه التجربة وهو أمر صحي لا يختلف على اختلاف الآراء إلا متخلف في مفهوم الحوار حتى مع الذات (النفس) حول كون هذه التجربة مستندة على فكرة أو هدف أو فلسفة ما.. نقول للجميع إن الفنان السليم قد أعلن بيانه وتفسيره لهذا التوجه الذي كما أطلق عليه فن الصحراء، كما هو أيضا جزء من أدب الصحراء الذي أبدع فيه أبناء الجزيرة العربية الكثير من سبل التعبير كالشعر والرواية..

يقول الفنان الراحل محمد السليم عن أسلوبه (الآفاقية) أحد فروع فن الصحراء وتحت عنوان (خصوصية فن الصحراء) إن لطبيعة الصحراء مميزات خاصة ينطبع بها الإنسان من خلال موهبة خاصة، ذاتية تحمل الألفة المتجانسة في مستوى نوع الحياة الصحراوية فعلى سبيل المثال قسوة الإنسان تتجانس مع قسوة الصحراء بتلاقح الظروف البيئية مع طبيعة الحياة، وحياة الصحراء بما فيها من قسوة يعتاد إنسانها تلقائيا بالصبر والأناة لتتكيف المعايشة في حياة متكاملة نحو بقية المشاعر الوجدانية في النفس البشرية، ففي التلال وانسياب الأودية ما يخفف قسوة الصحراء وفي حفيف الشجر ورنين لصدى بين الجبال أنغام تغذي روح الإنسان، بالمشاركة الوجدانية، فالإنسان في الصحراء لا يحس بالوحدة الانعزالية لأن الطبيعة تشاركه حياته.

وطباع إنسان الصحراء مع طبيعته طباع واحدة تختلف عن تطبع إنسان آخر مع الصحراء أو العكس، فإن تطبع إنسان الصحراء بطباع جديدة فكأنه أخذ خصوصا غير خصوصيته، ومن خرج من خصوصيته فقد ترك هويته الحقيقية إلى حيث لا هوية، وهذا الشيء الذي لا يمكن حدوثه أبدا، لأن الطبع بطبيعته يغلب دائما التطبع، ولذلك فلا بد لكل إنسان من هوية تحمل طباعه وخصوصياته الذاتية التي نشأت معه في بيئة معينة منها وفيها تظهر القدرات والمواهب الذاتية لتعطي إبداعاتها الحسية الصادقة تجاه الحياة.

وأمام الفنان التشكيلي في الصحراء مرتع خصب يغني تفاعله الوجداني بروح الصحراء أنغامه إيقاعات خطية ولونية وبما تحتويه من عناصر الحياة في الكتلة والفراغ، تظهر إبداعات فنان الصحراء حالة الطبع - الهوية - ولا تحمل التطبع - التجنس - ذلك التطبع المصطنع المركب تركيبا آليا فارغا من الأحاسيس والمشاعر الوجدانية الصادقة.

من هنا من هذا المفهوم بدأت بجدية في أن يكون أسلوبي حاملا الخصوصية للهوية التي نشأت عليها زمان ومكان، وبما أنني ابن الصحراء قسوتها ولينها فأنا أحمل بطبعي خصوصيتها، وإن كانت عندي موهبة فلن تخرج عن تلك الخصوصية ومميزاتها، ومع الدراسة والبحث وجدت خصوصيات ومميزات الفنون العربية (أرابسك) والفنون الإسلامية لا تخرج عن تلك المميزات الذاتية لفنون الصحراء ولا تتعارض معها، وفي الآثار الباقية من إنسان الصحراء على مر الأزمنة في التاريخ البشري نجد التبسيط في الوحدة مقابل صعوبتها والاختصار مقابل التركيب، التجريد مقابل المحاكاة، والتجديد مقابل التقليد، إلخ، في فنون الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وكافة البلاد العربية والإسلامية.

فمع الصدى سمعا.. نرى السراب رؤيا.. ومن خلالهم تتفاعل أحاسيسنا ودانا ففي السراب انعكاسات الشفافية اللونية ومن الصدى ترديد الدرجات (التونية) للألوان بعد أن تصفوا أمامنا الملامح - وضوحا - للموضوع المراد تنفيذه عملا فنيا يتميز - إبداعا بخصوصية الهوية الصحراوية.

وما التجاوب مع إثبات الخصوصية إلا إيجابية الضرورة الانتمائية للواقع والحياة التي يعيشها الفنان، وما أنا إلا واحد من ذلك المجتمع الذي يعيش بتنمية واقعة في زمان تهيأت فيه كل الوسائل العلمية والعملية بواسطة ذلك لانفتاح الاقتصادي والحضاري لتنمية أمة وبناء ثقافة في زمان معاصرة ابن الصحراء لآخر ما وصلت إليه ثقافة الإنسان على وجه الأرض.

فهل لابن الصحراء خصوصية تحمل الهوية الذاتية بإبداع حضاري يشارك به متوازنا مع إبداعات الإنسان الآخر..؟؟، فإذا كان الجواب بنعم فإن إنسان الصحراء في صميم الحياة وليس على هامشها، وهو - كذلك فعلا - فهو صاحب تاريخ وحضارة عربية وإسلامية ،ولهذا فان له الحق في الوصول إلى العالمية من خلال خصوصية الهوية الصحراوية.

إذا، فن الصحراء هو إبداع إنسان الصحراء الذي بإمكانه المشاركة مع فنون الخصوصيات المميزة لشعوب أخرى.

وفنان المملكة العربية السعودية هو ذو الخصوصية الصحراوية المتميزة بالطبع لا بالتطبع بالتجانس لا بالتجنس.

وبهذا فإن فن الصحراء هو واحد من الفنون السعودية المتميزة والحاملة للهوية الصادقة الحس والانتماء.

وليس هناك في الحياة ما هو الذي متعة من عناء المعاناة الصادقة بالمعايشة الحقيقية لقسوة الحياة حتى تتحول من أشد حالات القسوة إلى ألذ حالات اللين والهدوء مع الانسجام فيما بين السفح والقمة في مشاعر الإنسان تجاه الطبيعة وواقع الحياة بموهبة إنسانية ناضجة الحس والمشاعر الوجدانية النابضة بالإدراك الواعي لقدرة الله الخالق ذو الجلال والإكرام.

أسلوب فن الصحراء، يرتكز الموضوع فيه على امتداد خط الأفق (يمينا ويسارا) بحيث يعطي الامتداد اللانهائي بدرجة تجعلك تنتظر بقية الموضوع فيما بعد الإطار، إلا أن وسط الأفق بين إطار اللوحة يحمل التكثيف الأكثر لإبراز العناصر المهمة للموضوع.

أما صدى السراب والضباب للموضوع فيظهر أسفل وأعلى الموضوع ليكون غلافا من الترديد لأنغام وإيقاعات توحي بحيوية فكرة الموضوع ونبض المشاعر الحسي تجاهه.

بايحائات لونية لا نهائية تتناسب مع لانهائية الامتداد الأفقي. وبذلك نحصل على عمل فني يحمل مزايا الامتدادين الأفقي والرأسي بلغة الصحراء في سعتها وامتداداتها اللامتناهية في جو يكون في الهمس صوتا واضحا واللون متمازجا ومتناغما بإيقاعات تشارك نبض قلب الإنسان لتسمع أصداء الأصوات فترى ذباباتها ترددات لونية لا متناهية.

ولتنفيذ (فن الصحراء) إمكانية استعمال كل الأدوات والمواد التي تنفذ بها أي لوحة تشكيلية من أي فن من فنون الإنسان التشكيلية على وجه الأرض، إلا أنه بفضل استعمال سكينة الألوان بمختلف مقاساتها حسب حجم اللوحة، كما يفضل استعمال الماش بالألوان الزيتية كما يمكن إدخال جميع عناصر الموضوع المراد التعبير عنه سواء كان تشخيصا أو محاكاة أو التعبير بواسطة الوحدات الزخرفية والحروفية والتجريد، سواء بطرق النحت أو الرسم أو التصوير الزيتي والطبع والحفر وبكل وعلى كل المواد الممكن التعبير بواسطتها. إذا، فن الصحراء لا يقف عند حد معين من التعبير سواء من حيث الوسائل (الوسائط) أو التعبير عن أي موضوع من المواضيع الإنسانية الأدبية الفنية، وما يهدف إليه الفنان هو الشخصية المثبتة لهوية إنسان الصحراء بتعبير يمثل شخصيته حسا ومشاعر إنسانية تتدفق من حبه الملتصق بصحرائه الممتدة أمام ناظريه على مد البصر ليحس بما لا تراه العين ولا تسمعه الأذن ولا يلفظ به لسان.

هذا هو فن الصحراء أسلوبا ومعنى، تقنية وفكرة، حتى نستطيع أن نجد المدرسة السعودية في لفن التشكيلي لعالمي من خلال هويتنا وشخصيتنا الفنية والإنسانية.

monif@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة