Culture Magazine Thursday  01/03/2012 G Issue 365
فضاءات
الخميس 8 ,ربيع الآخر 1433   العدد  365
 
الغذامي والوسطية
(الكنس الثقافي لأشباه المفاهيم)
سهام القحطاني

 

لاشك أن من تابع محاضرة أستاذنا الجليل المفكر عبدالله الغذامي التي تناول من خلالها الوسطية سيقف عند بعض الأفكار التي طرحها، وأنا هنا سأتناول منها ما لفت انتباهي.

1- مشكلة الاعتقاد «ببساطة الوسطية» مقابل مشكلة «تعقيد ما يُعتبر بسيطا»؛ وهذا ما يجعل الوسطية «مشكلة حقيقية» نتيجة» إفراغ الوسطية من الجوهر المعرفي» في نظر الغذامي أو ما يمكن تسميته «بالتوهم الذهني» أو «الخداع الفهمي لتبسيط المفهوم» أي اعتبارها من قِبل الذهنية الجمعية بسيطة الفهم والتطبيق في حين أنها مسألة»فكرية معقدة» تلزم مبدأ معرفي ومنهجي.

وبذلك يسحب الغذامي الوسطية من الدائرة الفهمية التي اتفق الجميع عليها بأنها تحقق «النتيجة التوافقية» للصراع الثنائي إلى الدائرة «الجدلية» التي تستبدل «اليقين العرفي» «بالشك المعرفي» عبر البحث عن مبدأ معرفي ومنهجي لتلك الجدلية.

ولذلك يضع الغذامي الوسطية بين مفهومين تطبيقين هما «الإمكان والوجود».

الوجود القائم على «اليقين العرفي» لهيئة المفهوم والإمكان الباحث في «الشك المعرفي» لحقيقة هيئة ذلك المفهوم، على اعتبار أن ليس الوجود بالممارسة العرفية للدلالة تحقق لك الإمكان المعرفي.

وكلا التطبيقين غير موثقين في نظر الغذامي؛ لأن التطبيق بالمفهوم العرفي مُهتّز والمفهوم المعرفي غير موثق منهجيا، والغذامي هنا يقيم مرتبتين للشك؛ الشك في حقيقة وجود مثالي للوسطية عبر الممارسة والشك عبر تحقيق إمكان معرفي للموجود.

وبذلك يُخرج الغذامي الوسطية من إطار اليقين إلى فضاء الشك، أي تحول الثابت إلى جدلي.

والشك لا بنية الإنكار بل بنية البحث؛ وهو بذلك يشير إلى «قاعدة معرفية» يتعامل معها الوعي الفكري أحيانا بصورة غير صحيحة وهي إن إعادة تدوير المفاهيم أو تفكيك دلالتها عبر آليات البحث تُعتبر إنكار للدلالة الموجودة، في حين أن البحث في حقيقة الدلالة لا يتضمن الإنكار المعرفي لها أو العرفي لتحصيلها المسبق بل تعني تطوير المفهوم عبر تنقيته من شوائب الظن الشعبي التي يتحول بالتقادم إلى مقرِر للدلالة، هذه التنقية هي التي تُنتج «المصطلح النظيف» عند الغذامي.

فالبحث هو كنس ثقافي للمفاهيم لتجديدها ولتطهيرها من شوائب ممارسة الدلالات الشعبية،وليس موقفا عدائيا من هويتها القديمة، وهو بذلك ينفي أي «خيانة مشروعة»للمفهوم الخاضع لإعادة الحفر والتنقيب الدلالي.

وهذا التشجيع على البحث يخفف إن لم يلغِ الحرمانية الفكرية التي نسيّج بها بعض المفاهيم على اعتبار أنها كاملة الدلالة.

لذلك لا نستغرب الغذامي في بدء محاضرته أن يقدم «التجويز الفكري» لممارسته للكنس الثقافي لمفهوم الوسطية من خلال تصريحه بأن مناقشته للوسطية بصورة مختلفة لا تعني أنه»مُنكِّر له» بل «باحث»، فجاءت كلمة البحث بمثابة «الحكم بجواز» تفكيك المفهوم العرفي للوسطية في الذهنية الشعبية هذا «الاستئذان الثقافي» من قِبل الغذامي «لكنس توهم مفاهيم الوسطية» أو «أشباه المفاهيم» التي سيطرت على الوسطية في الذهنية الشعبية أسهم في إعداد ذهن المتلقي لممارسة «تصديق معرفي» لمنطق الكنس الثقافي لأشباه المفاهيم التي سيطرت على الوسطية،وأتضح نجاح هذه الإستراتيجية من خلال الأسئلة بعد المحاضرة، إذا كانت الأسئلة تناقش فرضية «الكنس الثقافي لأشباه المفاهيم التي سيطرت على الوسطية» ولا «تقاومها أو ترفضها».

وكانت هناك أسئلة تبحث من خلال السند التاريخي إلى توثيق معرفي لتلك الفرضية،مما يعني أن الغذامي نجح في «هزّ اليقين العرفي» لدلالات الوسطية التي تسيطر على ذهنية المتلقي،والبحث عن مصطلح نظيف يخلو من شوائب الدلالات المتداخلة.

2-ما لفت انتباهي أيضا في هذه المحاضرة هو تحويل الغذامي الوسطية من «عقيدة اجتماعية» إلى «إجراء اجتماعي» يستهدف هذا الإجراء «التوافق» المستند على الاستفادة من الظرف أو المقاوِمة للظرف، وهو بذلك يربط الوسطية في المفهوم العرفي «بالنفعية والاحتياج» و «المؤقت» بحيث تصبح عبارة مثل عبارة شرشل الشهيرة «أتحالف مع الشيطان من أجل أنجلتر» هي ضمن «إجراءات الوسطية»، وعبر تلك الصفات تنتمي الوسطية إلى «قانون الطوارئ» لا منهج دستوري طبيعي.

ووفق هذه الزاوية التي طرحها الغذامي تصبح التوافقية القائمة على الظرف الاجتماعي التي تنتجها الوسطية لا تمثل «جوهر معرفة» بل «إجراء مؤقت لتحقيق فائدة مشتركة بين طرفين» وبذلك فالوسطية التي تقوم على «الغاية تبرر الوسيلة» ليست منهجا يعتمد على جوهر معرفة بل «إجراء اجتماعي خدماتي».

كما أن الغذامي عندما يربط الوسطية بقيمة العدل كما ذُكرت في القرآن يجعلها «إجراء أخلاقيا وقانونيا» وليست «عقيدة اعتدال؛ باعتبار العدل قيمة وليس صفة وهذا هو الفرق بين الوسطية في نظرية الأوساط اليونانية وفي الإ سلام، فمفهوم الوسط في النظرية اليونانية هي «الصفة المثلى» لصفتين متطرفتين.

في حين أن الوسط في القرآن يمثل «قيمة العدل» وهذه القيمة لا تتحقق إلا في ضوء «معرفة متزنة أو مثالية» وبالتالي فما يحقق ممثِل الوسط -قيمة العدل- في الإسلام هو «المعرفة المثلى» وبوجود شرط «مثالية المعرفة» المُحققة للعدل، يظهر نوعان متطرفين من المعرفة يمنعان تحقق»قيمة العدل».

كما أن مثالية الصفة قد تُفسد بحيل التأويل مما يُزعزع ثبات دلالتها،كذلك فإن القيمة تُفسد لا كقيمة خالصة؛ لأن القيمة لا تقبل القسمة على التأويل عكس مثالية الصفة، بل عندما ترتهن بمقرر معرفي وبذلك يُصبح المقرر المعرفي هنا هو الذي يُفسد دلالة القيمة بسوء التطبيق،والفساد الناتج عن سوء تطبيق القيمة لا يضر دلالة القيمة بل يضر محتوى المعرفة.

وإمكانية وقوع فساد ينفي وجود جوهر مما يترتب عليه إبطال كل مفهوم يؤدي إلى بناء منهج.

3-كما لفت انتباهي في محاضرة الغذامي اعتبار أن «الممِثل للوسطية» يتضمن «فكر إقصائي»؛ لأن التمثل بالوسطية تعني في رأيه «نفيًا للطرفين» وبذلك فالممثِل ينقض مبدأ ما يمثله؛ لأنه يمارس «آلية النفي» عبر ما يمثله وليس «آلية الاعتراف»، والغذامي هنا يخص الوسطية وفق الدلالة الدراجة في الذهنية الشعبية، وهو ما يعني في النهاية أن «الوسطية متطرفة» في رأي الغذامي؛ لأنها تعني لست» مع أو ضد» وهو معنى «نفي انتماء» ونفي الانتماء يتضمن «نفي الموجود» وهكذا تصبح الوسطية عند الغذامي «متطرفة» لأنها تقوم على «نفي مزدوج».

انتهت محاضرة الغذامي لكن ظل الشك المعرفي لحقيقة وجود الوسطية التنفيذي الذي أثاره الغذامي يتغلغل في أذهاننا، كما ظل اكتشافه بأن «الوسطية متطرفة» وبأن «الوسطية لعبة ظرفية» وبأن «الوسطية الحقيقة جوهرها معرفي وفاعليتها الحكم بالمنجز» دهشات تنخر في أسئلتنا وتفتح لنا أبوابًا مختلفة للبحث المعرفي المُحرر من الاستعمار العرفي لليقين والدلالات المستقِرة، وتعيدنا إلى مبدأ الخلق «ما الوسطية»؟.

جدة * sehama71@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة