Culture Magazine Thursday  31/03/2011 G Issue 337
فضاءات
الخميس 26 ,ربيع الآخر 1432   العدد  337
 
دهاليز البلاغة!
فيصل أكرم

كنتُ من عشاق قراءة كتب (البلاغة) في بدايات تحصيلي الثقافيّ الذاتيّ، قرأتُ أسرارها لعبد القاهر الجرجاني، وتلخيص علومها لجلال الدين القزويني، وحتى معجمها للدكتور بدوي طبانة.. غير أن أياً من هذه الكتب وغيرها، عن البلاغة العربية، لم يبقَ راسخاً في ذاكرتي بكل إجلال مثلما رسخ كتابٌ أعدّه وسمّاه الشريف الرضيّ (نهج البلاغة) جامعاً فيه خطب وأقوال رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.

يبدو لي، إذاً، أن (البلاغة المنهجية) تشبه الرياضيات في تكلفها وشواهدها وأسئلتها وأجوبتها التي قد لا يحتاج إلى شيء منها بالدقة التي في طياتها متعاملٌ ممارس، وهي على عكس (النهج البلاغيّ) الذي يعطي أجود ما يمكن أن يُعطى، من دون مراجعات وتنظير ومقاربات وأمثلة تستهلك من الفكر أكثر مما تضيف إلى الخطاب!

ذلك ما خطر ببالي وأنا أشاهد بالمصادفة ندوة تلفزيونية حول اليوم العالمي للشعر، وكان من ضمن المشاركين فيها أستاذٌ للبلاغة في إحدى الجامعات - لم أنتبه لاسمه - قرأ (قصيدة) في المديح وكان يقول للممدوح في ختامها، أو في آخر عجز من أبياتها عبارة:

(فاعذرني ولا تلمِ)..

تلك العبارة لم ترق لي أبداً، وبدت لي بمثابة خطأ بلاغيّ، بحسب (النهج البلاغيّ) الذي أفهمه لا (البلاغة المنهجية) التي لم أعد أذكر شيئاً من مصطلحاتها المركّبة!

فتكرار الأمر المراد بلفظتين لهما المعنى نفسه - (اعذرني) و (لا تلم) - قد نستخدمه في كلامنا العاديّ، أو كتاباتنا العادية، أما (الشعر) فأرى له خصوصية ترفض مثل هذا التكرار (أو التكرير)، مع معرفتي بوروده (وورود العبارة نفسها) في عدد غير قليل من قصائد لفحول الشعراء، كالمتنبي حين قال:

لُم الليالي التي أخنت على جِدَتي

برقّةِ الحالِ، واعذرني ولا تلمِ

كذلك الفقيه عمارة اليمني (المتوفى شنقاً في عهد صلاح الدين الأيوبي) له قصيدة قال في أحد أبياتها (العبارة نفسها، كخاتمة):

وما قصدتُ بتعظيمي عِداكَ سوى

تعظيم قدرك، فاعذرني ولا تلمِ

ومن النساء، هناك أم العلاء بنت يوسف الحجارية (من شواعر المغرب في القرن الهجريّ السادس أو نحوه) تقول:

افهم مطارح أحوالي وما حكمتْ

بهِ الشواهدُ، واعذرني ولا تلمِ

وغير هذه الأمثلة كثير من الأشعار تلوك العبارة (اعذرني ولا تلم) وإني أراها منتهى البلادة (لا البلاغة!) في القول، بخاصة حين يكون القول شعراً، فمن الطبيعيّ أن من (يعذر) لا (يلوم)، وإلاّ فما معنى العذر إن جاء من بعده لوم..؟!

التركيب اللفظي المكرر للمعنى نفسه، بعبارة أخرى، قد يكون ذا دلالة لها قيمة، كما في قول الشنفرى (الشنفرى بالألف المقصورة، ولست أدري لِمَ تتحول الألف المقصورة إلى ياء كلما جئتُ على ذكر الشنفرى هنا؟!):

فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً

على رقّةٍ أحفى، ولا أتنعَّلُ

ففي حين أن من الطبيعي لمن كان أحفى (أي حافي القدمين) فهو لا يتنعّل (أي لا يلبس نعالاً) غير أن الشنفرى يريد بقوله أنه الآن حافي القدمين (أحفى) ليس فقط لأنه لا يملك نعالاً، بل هو يرفض عن عمد (ولا يتنعل) حتى وإن كان قادراً على امتلاك نعال..!

فهل الغرض من تلك العبارة الخاتمة لتلك الأبيات (فاعذرني ولا تلم) مشابهاً للغرض من عبارة (أحفى ولا أتنعل) في بيت الشنفرى؟

أعتقد: لا، فلو كان المقصود أن يقول الشاعر لمن يخاطب: (اعذرني، إن شئت، وإن لم تشأ أن تعذرني فعلى الأقل لا تلمني) لكان من الأجدر والأبلغ والأشعر أن يقول على الوزن نفسه:

(فاعذرْ أو فلا تلمِ)..!

وقد يقول بلاغيٌّ أو ناقد: إن العذر هنا غير محدد والشاعر يريد أن يُعذر هو لا أن يكون العذر عائماً. وهذا صحيح، لأن اللفظ ركيكٌ أيضاً بهذه الازدواجية المعنوية، وعليه فمن الأفضل، بتصوّري، تغيير العبارة كلها!

على كل حال، أعتقد أنّ بعض البلاغيين قد أبدوا إعجابهم بهذا التركيب ذي المعنى الواحد بلفظتين أو أكثر، وقد وصفوه بنوع من (طباق الإيجاب المعنوي) الجامع بين الأمر بفعل والنهي عن فعل آخر مضاد له (!)، كما أن بعضهم الآخر قد وضعه ضمن (الإطناب) في قسم (التكرير) أي هو تكرير في المعنى دون اللفظ، على نحو: (اصدُق معي ولا تفتر عليّ كذباً) فعدم الافتراء بالكذب هو الصدق بعينه!

لذا سأقول صادقاً - غير مفترٍ! -: عذراً أيتها البلاغة، فأنا لستُ من طلاب دهاليزك الوعرة، غير أنني أقول انطباعاتي فقط. وقد أكون في وادٍ وأنت في واد؟ وهذا ليس ذنبي، إنما هو ذنب عشرات، بل مئات وربما آلاف المختصين في حقل (البلاغة العربية) أتوا وذهبوا، ومنهم من هو آتٍ وسيذهب، دون أن يعمل أحدهم على تأليف كتاب يكون متطوّراً ومتقدماً على كل الكتب التي سبقته - لا أن يختصرها متجولاً في دهاليزها فقط - ليصبح المرجع للبلاغة في لغتنا العربية المعاصرة الحديثة، وأقصد بصفتيْ (المعاصرة الحديثة) أي المستحدثة للتداول في عصرنا الراهن، الحافل بالسرعة وكل التقنيات والأساليب المعرفية الخاطفة. فهل ثمة من يستطيع؟

إذا لم يكن بين أساتذة (البلاغة العربية) من يستطيع ذلك، فإن الأموال التي تصرف عليهم كرواتب ومخصصات ضخمة، كلها ضاعت سدىً. لأن أحداً لم يستفد منهم بشيء!

وإن كان أحدهم قد قدم ذلك بالفعل، ونشره، فالسؤال سيكون: هل من ذلك جدوى؟ أم أن قراءة كتاب متقن بلاغياً (كنهج البلاغة) يغني عن كل الكتب المنهجية والمراجع الثقيلة للبلاغة العربية؟!

وأختم بكلمة الشيخ الإمام محمد عبده - وهو أفضل شارح لنهج البلاغة - في تقريظه لكتاب القزويني (التلخيص في علوم البلاغة) يقول:

(ليست البلاغة في الحقيقة إلاّ مَلَكة البيان، وقوّة النفس على حسن التعبير عمّا تريد من معنى).. إلى أن يختم تقريظه لكتاب التلخيص، قائلاً فيه:

(شرحَه كثيرٌ من الناظرين في الفن، وتعلق الأغلب بلفظه، ولم ينظروا الغاية من وضعه، فصرفوا الوقت فيه، وفاتتهم البلاغة نفسها بجميع مقاصدها، فلا هم يحسنون إذا كتبوا، ولا هم يُقنعون إذا خطبوا، ولا هم يُحسنون الاستماع إذا خوطبوا، كما هو معروف لأنفسهم، ولكلّ من يعرفهم)!

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة