Culture Magazine Thursday  21/04/2011 G Issue 338
فضاءات
الخميس 17 ,جمادى الاولى 1432   العدد  338
 
الهويمل ومواقفه من الغذّامي
مثالان على هشاشة الرؤية وانشطار القراءة !!
خالد بن أحمد الرفاعي

نشرتُ عن الغذامي أربعَ مقالاتٍ – في هذه المجلة -، خلصتُ منها إلى أنه حالةٌ خاصةٌ من التأليف، تحيط بها حالةٌ خاصةٌ من التلقي، وأنّ الحالتين لا تفتآن تنتجان أسئلةً جدليةً عن حالةِ كلِّ حالة، ثم عن علاقةِ كلِّ واحدةٍ منهما بالأخرى . وأذكر أنني أشرتُ في إحدى هذه المقالات إلى أنّ مشكلةَ الغذّامي ليست في ممارسته الفكرية كما يرى بعضُهُم (حيث التقلّب والتناقض والمبالغة والإسقاط)، ولا في شخصه (حيث النرجسية، والانتهازية، وتسويق الذات)، ولكنْ في المتلقي المغشوش الذي يحمل من السمات والخصائص ما لا يصلح للتعاطي مع منجز واسع كمنجزه، يتأسّس على عمق فكري، وتراكم معرفي، وصدق في التوصيف والتحليل، وتعالٍ على المحاكاة الفقيرة والتقليد المهترئ، وقدرةٍ كبيرةٍ على الوصول إلى مناطق بعيدة في قراءة الظاهرتين: الأدبية والثقافية...، وكنت وقتها أمتلك نماذجَ كثيرةً على هذا النمط المكسور من التلقي، الذي كان – ومازال – سبباً من الأسباب المحرِّضة على الغذامي، القائمة بدور الصخرة في مسار مشاريعه النهضوية، لكنني لم أفكِّر في استعمال أيٍّ من هذه النماذج، لولا أنّ الكاتبَ محمد الهويمل فرضَ عليّ نفسه بشدّة حين نشر مقالته (الفقيه الفضائي.. تأخّر الغذامي)؛ وأعطاني بها نموذجاً من أجمل نماذج التلقي الفاسد، وصورةً من أعرض صور التموقف الساذج، الذي يستر نفسَه بالفضيحة؛ ولا يجد عيباً في أن يطوِّعَ منجزاً فكريّاً عامّاً لمصلحة فردية أو (أفرادية)، يعود نفعُها عليه أو على التوجّه الفكريِّ الذي يؤمن به .

يرى (الهويمل) في مقالته المشار إليها أنّ الغذاميَّ قد كتب نهايته بإصداره كتابَ (الفقيه الفضائي)؛ لأنه – كما يعبِّر – حسمَ «قدر تحوله باتجاه نقطة نهاية فنه، وأدواته، ومُكنته في إضافة شيء للثقافة» .

ومن حيث المبدأ لا مشكلة لديّ في أن يطرحَ الهويمل رأيه وإن كان صادماً، ولا أجد غضاضةً في أنْ يقولَ بتأخر الغذامي أو بانتهاء قدرته على المدارسة والمعافسة، فالغذامي يعرف أنّ لكلِّ أجل كتاب، وأنه « حقّ على الله أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه «، وهو أكثر من يؤمن بأنّ النقد متعيّن في حق كلِّ أحد...، لكنني لا أقبل – في السياق ذاته - أن يحتقرَنا – نحن الذين أهدرنا جزءاً من أوقاتنا على قراءته، ولا أن يستغلَّ المدى الزمني المتباعد بين مقالاته فيلتفّ على أفكار قرّرها من قبل، ويتناقض معها، وفقَ حساباتٍ خاصةٍ لا علاقة لها بالمنجز الفكري .

لقد تعدّدت مواقف الهويمل من الغذامي، وتجاوزت منجزَه إلى شخصه، وتناقض بعضُها مع بعض، دون مسوِّغٍ ظاهرٍ أو باطن، مما يشي بأنّه ينطلق من رؤية هشّة، ويعتمد ممارسةً قرائيةً منشطرة، لا تملك مشروعيةَ الوجود في أقلِّ مراحل الثقافة وعياً، فضلاً عن إمكانية إحاطتها بموجودات واسعة، فضلاً عن قدرتها على الإضافة إلى تلك الموجودات .

لقد نشرت مجلة اليمامة في منتصف عام 2005م لقاءً أجرته الإعلامية (نوال الجبر) مع (الهويمل) عقب صدور ديوانه (إذا هزّها وجعٌ مريمي)، عرض فيه إلى الغذامي بقوله :

« الغذامي يندِّد بفحولة أدونيس ذي الخطاب الإنساني السلمي المرتقي عن كلِّ تصنيف إيديولوجي وهو في تهشيمه لهذه التراتيبية الهرمية يبذل فعلاً عضلياً يدرج ضمن العنف أو الإرهاب أو الاعتداء...، وكلُّها مصطلحاتٌ ملتهبةٌ دارجة في مفردات الحرب...، الأشياء يحاربُ بعضُها بعضاً في الفراغ الصامت، وحتى اللاأشياء تنطوي على نزعة انتقامية ضدّ العدم « .

في هذا المقتطف قدّم الهويملُ موقفاً سلبياً من الغذّامي على هامش كتابه (النقد الثقافي)، واختزل موقفَ الغذامي من أدونيس في أنه فعلٌ عضلي (استقواء وإثبات قدرات)، وإرهابٌ يتخذ الاعتداءَ وسيلةً، وممارسةٌ حربيةٌ بامتياز، تستحلُّ الخداعَ والتدميرَ، وتتغيا الاحتلالَ، ولا تخلِّف إلا خراباً يباباً . ونلحظ هنا المقابلةَ التي صنعها الهويمل بين أدونيس والغذامي، فالأول عنده ذو خطاب إنساني يتعالى على التخندق الأيديولوجي، ويقابله الغذامي الذي يقدِّم خطاباً مجرّداً من الإنسانية (بدليل الهجوم والاعتداء)، محشوراً في زاوية إيديولوجية ضيّقة (بدليل الإرهاب والانتقام) .

هذا رأيُ صاحبنا في كتابٍ أشعل الساحةَ العربيةَ، وأشغل أناسيّها، وانتظم مادةً لبحوثٍ لا حدّ لعددها من بلادنا إلى أقاصي المغرب العربي .

وفي أواخر ديسمبر من عام 2010م نشر الهويمل مقالةً بعنوان (انتفاضة الغيور على الليبرالية : الغذامي داخل النظرية خارج المؤسّسة)، حمّلها الكثيرَ من الثناء والتقدير والإكبار للغذامي – من حيث هو شخص -، ولمنجزه كلِّه دون استثناء، وقال فيها :

« وحقيقة الأمر أنّ الغذاميَّ خارج الاحتمالات السالفة...، وللإمعان في وصفه يتعين علينا أنْ نحرِّر الحالةَ الطقوسيةَ للغذامي التي تشي بشخصية تمثِّل حالةً ونمطاً خاصاً من التعاطي مع الأشياء، عماده الحساسية الجمالية المفرطة في تفكيك الآخر وتصنيفه بمنأى عن الرقيب الإيديولوجي، أي أنه ابن النظرية، يدور مع علّتها وجوداً وعدماً، بدءاً بالخطيئة والتفكير...، ومروراً بالنصِّ وتفكيكه، وانتصافاً للمرأة والوصف الفوتوغرافي...، والولوج الصريح أخيراً إلى الكيان المجتمعي بأكمله بعيداً عن الفرد والجنس في (النقد الثقافي)، والشعرنة والتخصص نحو الحالة الحداثية وملابساتها في (حكاية الحداثة) التي كانت إرهاصاً خطيراً باتجاه نقلة ثقافية آخذة في تهميش اللاعب الثقافي في صياغة خيارات المجتمع في (ثقافة الصورة) والهجوم على محضن الليبرالية وصانع مركزيتها في (القبيلة والقبائلية).. إذن هذا التدرج الناعم والإرهاصات النامية نمو الإنسان تحيل إلى ارتباط الغذامي عضوياً برحم النظرية والحالة التأملية المحمومة التي تضرب بخيمتها على فعالية التفكير والاستنتاج لديه فلا طفرات غبية حادة تستبدُّ بمفاصل مشروعه حتى نتهمه بأيِّ تهمة حمقاء...» .

في هذا المقتطف يقدِّم الهويمل موقفاً جديداً من الغذامي، يتناقض تماماً مع موقفه السابق، فالغذامي الذي كان معتدياً ومدمّراً ومنتقماً ومتحرّكاً في الفضاء الصامت، أصبح - في هذه المقالة – وسطاً بين حالات التكتّل والانتماء، واستثناءً جميلاً في جملة حقُّها الاعتراض، والغذامي الذي كان يحمل خطاباً عدائياً مرتهناً إلى إيديولوجيا خاصة أصبح اليوم مرتبطاً بالنظرية، يدور مع علّتها وجوداً وعدماً، بحيث لا يتأثّر بالخارج أياً كان .

ونلحظ هنا (وهذا موطن الشاهد) أنّ كتابَ (النقد الثقافي) الذي ولّد الموقفَ السابق برز في هذا المقتطف بوصفه دليلاً على صحّة الموقف المناقض، وهذا يعني أنّ هناك موقفين متناقضين من مادة واحدة يمثِّلها كتاب (النقد الثقافي).

في شهر مايو من العام الجاري (2011م) نشر الهويمل مقالة بعنوان (الفقيه الفضائي تأخّر الغذامي) قال فيها : « الراصد للمنحنى الإبداعي للغذامي سيلحظ بجلاء هبوطاً في قدرته على خدمة المشروع الثقافي وتحديداً في كتابه عن (القبيلة والقبائلية) من حيث الحشو الاضطراري وتسمين الفكرة، وكدتُ أن أكتبَ عن هذا الكتاب لكنني تراجعت؛ لهبوطٍ في حماسي، ولعدم اكتراثي، لكنّ كتاب (الفقيه الفضائي) أجّج الرغبة لدي في توصيف الحالة الغذامية، وأن نتائج هذا الكتاب تشي بنهاية مجانية لا يُحسب فيها الغذاميُّ من الشهداء».

هنا نلحظ أنّ الغذامي ابتدأ رحلة النهاية من كتابه (القبيلة والقبائلية)، والغريب أنّ هذا الكتاب ورد في المقالة السابقة في سياق المدح والثناء، بل إنّ الهويمل جعله ضمن مؤلفات « لا يلحظ فيها المتابعُ طفراتٍ غبية يمكن أنْ تُبنى عليها تهمةٌ حمقاء « !!

هذه مقتطفات ثلاثة لكاتب واحد، يناقض كلُّ واحد منها السابق أو اللاحق، بشكل مكشوف وفاضح، فكتاب (النقد الثقافي) دلَّ في مقالةٍ على تحمّل الغذامي بالإيديولوجيا ودلّ في أخرى على ارتباطه التامّ بالنظرية، وكتابه (القبيلة والقبائلية) دلّ في سياق على دقة الغذامي وانضباطه المنهجي، ثم دلّ – في آخر - على اختلاله واختلاطه، وعلى استطراده الفارغ، وانطلاقة رحلته إلى عالم الموتى !!

أوصافٌ متناقضةٌ تتوجه إلى موصوفٍ واحد ناجز لا يملك خاصية النموِّ من الداخل، وجميع هذه الأوصاف ترد في مساقٍ تعبيري ضاغط، محمّل بالكثير من الانزياحات الطامحة إلى تأكيد الوصف وتجذيره في عقلية المتابع.

من باب الفرضية لا يمكن لأحد أن يقدّم فكرة ثم يسحبها، ولا أن يتبنى رأياً ثم يتنازل عنه إلا لأسباب محدّدة، يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها، وبحسب متابعتي المستمرة لنشاط الهويمل، واطلاعي على أكثر مقالاته ومشاركاته، ومعرفتي الخاصة به أيضاً، وجدت أنّ هناك سببين دفعاه باتجاه هذا التناقض المضحك، أحدهما : مصلحته الشخصية، والآخر : انتماؤه الفكري، وفي الآتي بعض المعزِّزات لهذا : حين أدان الهويمل موقف الغذامي من أدونيس كان يقدِّم نفسه للساحة الأدبية شاعراً حداثياً، يستسيغ الغموض الذي يمجّه كثيرون، ويعيش براحة تامّة في فلك المنقطعين إلى اللغة الجامحة والفكر المتمرِّد، ولقد قابلته في نادي الرياض - مطلع الألفية الجديدة - يشرف على أنشطة حداثية في (الاثنينية)، وأعرف أنه قد تبنى حينها مواهبَ حداثية تجاوزته اليوم بمراحل كبيرة؛ لأنها تصالحت مع نفسها، واتخذت لها في البحر المائج طريقاً يبساً، في حين ظلّ هو متردّداً بين الحداثة التي امتلكت الضوءَ زمناً، والفكر الإسلامي الذي ينتمي إلى بعض مجالسه، ويرتمي على بعضها الآخر، فناسب – وهذه حاله - أنْ يتخندقَ في خندق (أدونيس)، ويعينه على إسقاط الغذامي المجلّل بالإرهاب والرجعية والعدائية، وإذا كان أدونيس قد اختار مهاجمة الغذامي على طريقة الكبار فوصفه بأنه (خطيب جامع)، فإنّ صاحبنا - لفرط حماسه – اختار طريقة أخرى، فوصف الغذامي بالاعتداء، والعنف، والإرهاب، ولو أ نّ (نوال الجبر) منحته سطراً أو سطرين في ذلك اللقاء لقال في الغذامي ما لم يقله أحدٌ في أحد .

بعد خمس سنوات اضطرّ الهويمل إلى تغيير موقفه من الغذامي؛ لأنه وجد في الغذامي ما يخدم المتكأ الفكري الذي يتكئُ عليه، فالغذامي تموقف من الليبرالية موقفا سلبياً في محاضرته الشهيرة (الليبرالية الموشومة)، ولقد فعلت تلك المحاضرة في الليبرالية المحلية ما لم تستطع فعلَه عشرُ مقالات للهويمل وضعفُ ضعفِها لآخرين يقاسمونه التردّدَ والتشظي، فناسب – والحالُ هذه – أن يصفِّق الهويمل للغذامي على طريقته الخاصة، فاستبدل بالحرب سلاماً، وبالإقصاء احتواء...، وهو ليس ملوماً على هذا، فالإسلاميون كلُّهم صفقوا له، لا لأنه قال الحقّ، ولكن لأنه قال ما يريدون .

ظنّ الهويمل أنّ الغذامي قد انتقل من الليبرالية الساكنة في الحداثة إلى الفكر الإسلامي كما انتقل من الأدبي إلى الثقافي؛ فأصدر فيه حكماً يبرِّئه من كلِّ عيب، وينزِّهه من كلّ نقص على المستوى المعرفي، لكنه بعد صدور (الفقيه الفضائي) قرأ ما لا يسرّه، ولا يتّسق مع المدرسة الفكرية التي أسَرَ نفسه فيها، فما كان منه إلا أن أحيا التهمة من جديد، وأصدر حكمه، ونفّذه أيضاً، ولم يكتفِ بقتل الغذامي، بل تجاوزه إلى ملاحقته في المعاد، فحرّم عليه الشهادة، وصادر منه فضلها !

كتاب (الفقيه الفضائي) جاء مخيباً لآمال الهويمل، إذ حمل الكثيرَ من الآراء المتماسّة مع الطرح الليبرالي، والمتناقضة مع المنجز الإسلامي المحلي، فما كان منه إلا أن أعلن نهاية الغذامي .

في الموقف الأول قدم الهويمل إدانة للغذامي، وفي الثاني برأه، وفي الثالث أدانه وحكم عليه ونفّذ الحكم أيضاً...، ومن الإدانة إلى الإعدام مروراً بالتبرئة المصلحية، نتحسّس محطاتٍ ثلاثاً، تعطينا نموذجاً سهلاً للقراءة التي يمارسها بعضُ مثقفينا اليوم .

إنّ رأيَ الهويمل في كتاب (الغذامي) ليس موقفاً علمياً من كتاب، وليس نتاجَ رؤية واضحة الملامح، بقدر ما هو موقف ناتج عن اختلاف المصالح أو المواقع، لذلك سيظلّ الهويملُ يمارس دوراً سلطوياً عالياً، يحيي من خلاله من يشاء ويميت من يشاء، لحاجة في نفسه، أو لمصلحة تعود على قبيله .

هذا النوع من القراءة يقف في وجه مشاريعنا النهضوية، ويسيءُ كثيراً إلى رموز وطنية، أفنت حياتها في تشخيص أدوائنا وعلاجنا .

خاتمة : سيسألني الهويمل : أين الجديد في كتاب (الفقيه الفضائي) ؟ وسأجيبه : لو لم يكن له من الجدة إلا أنه قلبك رأساً على عقب لكفاه !!

Alrafai16@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة