أولاً: عندما قرأتُ ردَّ الأستاذ خالد الرفاعي الأسبوع الماضي على مقالتي «البلطجة الثقافية» بعثت له برسالة على جواله: «سعدتُ بردك على البلطجة الثقافية. تحياتي. سهام القحطاني». وبدوره ردَّ على رسالتي الجوالية برسالة «متحضرة ثقافياً»، وهذا لا يعني إغلاق ملف اختلاف وجهات النظر بيني وبين الرفاعي، إنما يعني إيماني بحق الرأي الآخر واحترامه مهما كان.
ثانياً: عندما أُنمذج للبلطجة الثقافية فأنا لا أقصد الإساءة للشخصيات محور النمذجة، إنما التعليق على طريقة التفكير أو طريقة سلوك تلك الشخصيات إذا تعلقت بالشأن العام أو مارست إقصاء المجموع كمسؤول، أو فرضت أمراً باسم المجموع، أو تعمّدت الوصاية على المجموع، أو وجهت له إساءة.
كما أنني من خلال حلقات «البلطجة الثقافية» المنفصلة لا أناصر تياراً على حساب تيار، ولا شخصاً على حساب شخص، ولست وسيطاً لتصفيات حسابات الإخوة الأعداء؛ فأنا أقف من الجميع المسافة ذاتها.
وكما أنني مؤمنة بحقي في حرية الرأي والمعتقد والاختلاف الثقافي فأنا مؤمنة أيضاً بحق الآخر في الرد عليّ والاختلاف معي، وأسعد بذلك؛ فتعدد الآراء يثري الأفكار.
ويجب ألا ننسى في خضم اختلافنا الثقافي أن الاختلاف يجب ألا يفسد الغاية الكبرى، وهي مصلحة الثقافة السعودية التي يجب أن يسعى الجميع إليها.
ثالثاً: لا شك أن الجميع قد سمع عن حكاية الأستاذة الشاعرة «هدى الدغفق» في النادي الأدبي في جدة من خلال الأمسية الشعرية التي نظمها الحرس الوطني بمناسبة «الجنادرية»، والتي كان مقرها النادي الأدبي في جدة، والتي وصف فيها السيد رئيس النادي الأدبي المثقفات بأنهن «ملاقيف»؛ لأن الأستاذة هدى الدغفق أصرت على أن تصدح بأشعارها من فوق المنبر أسوة بالشعراء بدلاً من «وراء حجاب» وأسوة بالشاعرات اللائي قدمن أمسية شعرية من فوق المنبر في النادي الأدبي في الرياض، وباعتبار أن سقف الحرية في جدة أعلى من الرياض.
ولست بصدد الحديث عن مسألة ظهور المثقفة على منبر الأندية الأدبية أسوة بالمثقفين من عدمه؛ لأن هذه المسألة ليست من اهتماماتي الثقافية، لكني مع حق «حرية اختيار» المثقفة أن توصّل صوتها بالطريقة التي تفضلها، في ظل توافر الإمكانية.
لكن أن يُحدَّد لها اختيار ويُفرض عليها في ظل إمكانية تعدد الخيارات فهنا تكمن «البلطجة الثقافية»، وهذا ما فعله رئيس النادي الأدبي في جدة مع الشاعرة هدى الدغفق.
فقد تعامل مع الشاعرة هدى الدغفق «بعقلية شيخ القبيلة» لا «بعقلية المسؤول الثقافي» الممثِّل لمنطقة تتمتع بانفتاح ثقافي، عندما أصرّ على الدغفق بأن تنفّذ رأيه، وهي أصرّت على أن تنفّذ اختيارها؛ فانزلقا في «ملاسنة»، وصف خلالها رئيس النادي الأدبي في جدة المثقفات بـ»الملاقيف».
ملاسنة فَقَد فيها رئيس النادي لباقته الثقافية ودبلوماسيته الحوارية بوصفه مسؤولاً ثقافياً قبل أن يكون مثقفاً أو ممثِّلاً لقناعاته الخاصة، وفي حادثة قديمة وصف رئيس النادي الأدبي في جدة المثقفات بـ»ضيق الأفق».
فهل فلتات لسان رئيس نادي جدة الأدبي تُظهر ما يُخفيه من إيمانه بـ»دونيّة المثقفة»؟.
أنا لست ضد قناعات الدكتور عبد المحسن القحطاني في المرأة عامة والمثقفة بوجه خاص بوصفه شخصاً يمثِّل نفسه؛ فهو حُرّ، ومن حقه أن يؤمن بما يشاء من الأفكار، وأن يعتقد أن المثقفات «ضيقات الأفق» أو «ملاقيف» أو حتى «بنات شيطان»، لكن في بيته لا في النادي الأدبي.
وكذلك أنا ضد أن يتحرك بتلك القناعات بوصفه مسؤولا ثقافياً، يفرضها على استراتيجية النادي الفكرية، ويفرضها على المثقفين والمثقفات داخل النادي، هذه هي «البلطجة الثقافية»، خاصة في ظل حرية إمكانية الاختيار.
فلم يكن من حق رئيس النادي الأدبي في جدة أن يفرض على هدى الدغفق اختياره ويصادر اختيارها؛ فهذا بلا شك عين «البلطجة الثقافية».
ولولا شجاعة الدغفق في التمسك بحرية اختيارها لنجح رئيس النادي الأدبي في جدة في إتمام نموذج «البلطجة الثقافية»، ولأصبح قدوة لغيره من البلطجية الثقافيين.
إن ما حدث في النادي الأدبي في جدة هو أمر خطير؛ فجدة رائدة للثقافة في السعودية ورائدة في الانفتاح الاجتماعي ورائدة في التسامح والحوار مع الآخر، وقبل ذلك هي ممثلة لبدايات «الريادة النسوية» في السعودية، ريادة يجب أن تماثلها العقلية الثقافية التي تُدير ثقافتها، لا أن تنعكس الآية وتصبح عقليتها الثقافية تتزعم الإقصاء الثقافي.
فبينما رئيس النادي الأدبي في الرياض يحترم اختيار المثقفة وينفذه، والرياض كما نعرفها تتصف بالتحفظ الثقافي والمحافظة الثقافية، يُجبِر رئيس النادي الأدبي في جدة المثقفة على تنفيذ اختياره، ويصف المثقفات بـ»الملاقيف» رغم ما يُعرف عن جدة من انفتاح ثقافي.
وتكرار مثل هذه المواقف قد يسحب من جدة «ريادتها في الانفتاح الثقافي» ونقلها إلى مدينة أخرى، بسبب «العقلية الثقافية» التي تُدير خدمة ثقافية مهمة مثل «النادي الأدبي».
فطبيعة المدينة لم تَعُد مؤثراً لتفعيل التطور الثقافي، إنما طبيعة «العقلية الثقافية» التي تُدير «النادي الأدبي» هي التي تُفعّل التطوير الثقافي أو تسهم في تراجعه.
وهذا هو الفَرْق بين الناديَيْن الأدبيَّيْن في جدة وفي الرياض: غياب «انفتاح العقلية الثقافية» في جدة، وحضورها الساطع في الرياض، وذلك الانفتاح هو الذي يُدير الخدمة الثقافية التي يُقدمها النادي، ويؤمن بحق الانتفاع بالإمكانيات الثقافية لكل مثقف ومثقفة، لا مصادرتها.
كما أن ما حدث في النادي الأدبي في جدة يدفعنا إلى الجهر بالسؤال الذي يتهامس به مثقفو جدة: هل النادي الأدبي في جدة يعيش اليوم مرحلة «الرجل المريض»؟ وهل القطبية الثقافية التي تعمل بموجبها إرادة النادي لها علاقة بمرحلة «الرجل المريض»، إضافة إلى تدخل إمارة المنطقة في الاستراتيجية الثقافية للنادي؟
وأخيراً: أسجّل هنا إعجابي بمقاومة هدى الدغفق لبلطجة رئيس النادي الأدبي في جدة، وإصرارها على تحقيق اختيارها وتنفيذه.
وهذه هي الفورة الحقيقية التي يجب أن يحملها كل مثقف ومثقفة، أي معرفة حقه في الحصول على الإمكانيات والعدالة في الانتفاع بها واختيار ما يناسبه والإصرار على تنفيذه، لمحاربة البلطجة الثقافية لكل مسؤول ثقافي، أو مَنْ يحاول انتزاع النفعية الحرة من الإمكانيات الثقافية المتاحة للمثقف.
وموقف هدى الدغفق هو درس لكل مثقفة مضطهَدَة من قِبل البلطجية الثقافيين، يُعلّمها الجرأة والشجاعة في المطالبة بحقها في الانتفاع من الإمكانيات الثقافية وتطبيقها وممارستها؛ «فتحية لها».
وليس من حق أي رئيس لنادٍ أدبي أن يحجب أو يُصادر حق أي مثقف في الانتفاع بالإمكانيات الثقافية المتاحة له لأنها تتعارض من قناعاته الشخصية، أو أن يحاول فرض وصايته من خلال تخويف أي مثقف بأن الانتفاع بتلك الإمكانيات يُضرُّه ويُضرّ المصلحة العامة لثقافة المنطقة.
تلك البلطجة الثقافية التي حدثت على مرأى ومسمع من الحاضرين لم يكن النادي الأدبي في جدة هو الرائد في إنتاجها، بل حدثت قبل ذلك في نادي الرياض زمن البازعي، وفي الطائف زمن جريدي، وفي المنطقة الشرقية.
وفي كل مرة كانت المثقفة هي الضحية.
وإذا كانت المثقفة في الماضي القريب لم تكن تملك شجاعة جرأة المطالبة بـ»إسقاط رئيس النادي الأدبي» فقد تُمكنها الجمعية العمومية إذا انضمت إليها من إسقاط أي «رئيس لنادٍ أدبي» يُعاني حساسية مفرطة من المثقفات أو عقدة نحوهن؛ ليصبح رئيس النادي الأدبي «المخلوع»!.
«ذلك جائز».
-
+
sehama71@gmail.com
- جدة