أصبحت فنون الميديا بكل فروعها ووسائطها تأخذ أهمية كبرى في ظل التقنيات الحديثة بتنوعها وتعدد منافعها، ابتداء من معقلها الأول أو ما يمكن أن يُقال عنه منبتها ومحل ولادتها وأصل تأسيسها، وهو الإعلام بكل وسائلة المرئية والمقروءة والمسموعة، التي تقوم مهمتها على نقل المعلومة بوسائطها كلمة كانت أو صورة، من موقعها إلى العامة. هذا التوجه لم يقف عند حدود الإعلام، وإنما وجد طريقه إلى الكثير من المهام، ومنها الفنون؛ حيث وجد الفنانون سبلاً للتعبير ونقل الفكرة إلى المشاهد بوسائط قريبة من العين ومتوافرة في البيئة، يمكن من خلال ماهيتها وخصوصيتها أن تكون بمنزلة الجُمْلة أو العبارة أو الصوت الذي يعبِّر به الفنان عن فكرته والهدف من تشكيله للعمل بتلك الوسائط، مع ما يضفيه الفنان من جسور بصرية يمثلها التكوين العام للشكل؛ لتحقيق أقرب تواصل بينه وبين المشاهد. هذه الوسائط البيئية الملموسة، وبعد تفعيلها فنياً، أحدثت الفن المفاهيمي، الذي يظهر أحياناً عفوياً وأحايين كثيرة مبنياً على قياسات ونظم وإعداد منظَّم، منها ما يشير إلى قضايا إنسانية خاصة، وأخرى تلامس المجتمع ومشاكله العامة. قد لا يرى المشاهد الفكرة المباشرة، لكنه يجد إيحاءً بها، كما قال جوزيف كوزو “الفن موجود في مفهوم الفنان عن العمل الفني”.
من هنا ندلف إلى معرض (الميديا) الجديد الذي أُقيم قبل أيام، ويأتي في سياق تطوير برامج المعارض التشكيلية في وكالة الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام، بتوجيه من معالي وزير الثقافة ومتابعة من د. ناصر الحجيلان، تبعه تنفيذ متميز من الإدارة العامة للنشاطات الثقافية، ممثلة في إدارة الفنون التشكيلية، إعداداً وتنظيماً للمعرض، وكان اللافت فيه الإصدار المصاحب للمعرض؛ كونه الأول، وما تضمنه الإصدار من مضمون يحمل الكثير من الإضاءة؛ للتعريف بمفهوم (الميديا)، وقراءات في الأعمال جاءت من التشكيليين أنفسهم؛ لإعطاء الزائر أو المتابع أبعاد فكرة العمل.
* خطوة محمودة للوكالة
هذه الخطوة من الوزارة والوكالة ليست غريبة بالنسبة للمتابعين للساحة التشكيلية والراصدين لتحركها نحو السير بخطى متوازية مع الجديد في الفنون الحديثة؛ فالفن المحلي وما ينتجه التشكيليون في المملكة ليس بمنأى عما يحدث في العالم، بل أصبحت فنوننا منافسة بقوة في هذا المجال، يمثلها نخبة من الشباب الواعد والمطلع، أكملوا ما بدأه رواد سبقوا زمنهم، وقدموا إبداعاً حديثاً في وقت لم تكن الساحة (جمهوراً ومسؤولين عن الفنون) يعون ما تحمله تلك الحداثة، إلى أن جاء زمنها، ووجدت من يقدرها ممثلاً فيما قدم في هذا المعرض بخطواته (الأولى)، إشارة إلى أن هناك خطوات قادمة تدعم الفكرة وتمنح التشكيليين مساحة من حرية التعبير دون قيود إلا بما جُبلوا عليه من الحفاظ على قيمهم ومبادئهم التي لم تكن عائقاً بقدر ما منحتهم الخصوصية وأطَّرت إبداعهم بالانتماء دون اندفاع نحو التبعية المجهولة نحو تذويب الثقافة والهوية، ولنا مثال في تجارب الزميلين عبد الناصر غارم وأحمد ماطر وما قدمته مجموعة (اج اوف أريبيا.. حافة الصحراء) أو مجموعة (نبط) من مساهمات أوصلت الفن السعودي الحديث إلى العالمية دون خوف أو تراجع، أو ما قدم من عمل في بينالي البندقية للأختين شادية ورجاء عالم، فنون عالمية برائحة وروح ثقافة الوطن، كسبت الكثير من الآراء المشجعة والكثير من العيون المندهشة بأن لدينا مثل هذا العطاء وهذا المستوى من الثقافة ومن الاهتمام بالفنون.
الحوم حول الحمى..
وعائق الوقوع فيه
مع ما يحمله التشكيليون بالمملكة من قدرات ووعي بما يدور حولهم ومدى ما يحركه هذا الاطلاع والوعي من الساكن في عقولهم ومختزلاتهم الإبداعية وما كان البعض منهم يمارسه باستحياء وتردد في جانب الأعمال المفاهيمية، التي تطل أحياناً بين ثنايا المعارض، لا تجد إلا القلة من المهتمين ممن لا يرون فيها ما تعودوا عليه في اللوحة المسندية بألوانها الزيتية أو المائية وما تتضمنه من مواضيع مباشرة أو غير مباشرة بتقنيات وأساليب تتكرر في كل معرض، يصفها ذلك الجمهور بالعبث، أو الأعمال غير المهمة، فأصبح أصحاب هذا التوجُّه الحديث من التشكيليين وبما قدموه رغم ضآلة العدد يحومون حول حمى عالم المفاهيمية المتفرد الذي يجد اهتماماً دولياً مع ما أصبحت عليه معارضه وفنانوه من مسافة مرمى حجر من محيطنا المحلي، منها المعارض والتجمعات التشكيلية العالمية المتمثلة في معرض ارت دبي وبينالي الشارقة والمعارض التي تقام في أبو ظبي، يحضرها نخب كثيرة من التشكيليين السعوديين؛ فأشعلت فيهم روح المنافسة التي خاضوا بها المعارض المحلية، وفي مساحات لا تحقق الطموح يمكن أن نستثني منها معارض قاعة اثر، التي أصبحت أرضاً خصبة للمبدعين الشباب وحاضرة بمفاهيميتها في كل محفل دولي، إلى أن أقرت وزارة الثقافة والإعلام هذا المعرض، الذي تجاوز فيه فنانو الميديا العوائق السابقة، ومنها عدم قبول بعض منظمي المعارض لتلك الأعمال؛ نظراً لمحدودية جرأتهم أو أنها جرّأت من يجيز عرضها لعدم وصولهم إلى أقرب نقطة في فهمها، وكأن الفنان قادماً من كوكب آخر لا ينتمي إلى وطن ومجتمع يعي الفنان مسؤوليته تجاهه عند تنفيذ العمل. أما الجانب الآخر فهو في فَهْم المجتمع الذي ما زال بعيداً عن مثل هذه الفنون، وهي المعضلة الكبرى التي يواجهها الفن التشكيلي بكل تفاصيله، فالعامة يرون الفنون التشكيلية ترفاً وهوايات عابرة، والجهات المعنية تراه نشاطاً يجب تشجيعه دون الأخذ في الاعتبار أهمية تقييمه وتقويم مساره وتصنيف من فيه لعزل الجيد من عكسه.
الخطوة الجريئة
والحرية المؤطرة بالقيم
لا شك أن المعرض يُعَدّ خطوة جريئة من الجانبين، من الفنانين المشاركين والجهات المعنية بإقراره. والجرأة هنا إيجابية تستحق التقدير والدعم في وقت ما زال فيه المجتمع جاهلاً بمعنى الفكرة في العمل الفني بمفهومها الحديث؛ فقد فتحت وكالة الشؤون الثقافية للفنانين نوافذ شمس حرية الإبداع بعد أن أتخمت الساحة بأعمال ومعارض غالبية ما يعرض فيها من لوحات في الرسم أو التصوير الزيتي غير ناضجة في الفكرة والتنفيذ؛ ليأتي هذا المعرض رغم أنه الأول مع شح في العدد وفي أفكار بعض الأعمال التي جاءت أقل مما يجب في نوعية الوسائط أو تحقيقها للمضمون، لكن الأمر لا يعني خلو المعرض من الجيد الذي يستحق أن يشاد به ويأخذ المبدعون فيه فرصاً أكبر خارج الوطن في المناسبات الدولية، التي يمكن من خلالها كسب الحضور والمنافسة التي يدفعنا إليها ثقتنا بشبابنا التشكيليين الواعدين مستلمي راية التشكيل الحديث.. من خير سلف إلى خير خلف.
استشراف للمستقبل
وإصدار يليق بالمعرض
الفكرة التي تضمنها الإصدار الخاص بهذا المعرض كانت متوازية مع ما حققه نخبة من الفنانين بأعمال تستشرف القادم منهم في المعرض الثاني، وما يليه من معارض، بعد أن منحتهم الوكالة هذا الموعد كل سنتين - على ما أعتقد - كفرصة للبحث والتجريب والإعداد مع ما يمنحون من فرص في المعارض الأخرى من فرص لجديدهم. وجاء الإصدار كدليل تثقيفي للعامة من غير المختصين في الفنون بما يتضمنه من شرح وتفسير وإشارات حول الأعمال، وحمل كلمة لوكيل الوزارة للشؤون الثقافية الدكتور ناصر الحجيلان، كشف فيها قناعة الوزارة بإقامة المعرض؛ حيث قال إن وزارة الثقافة والإعلام، ممثلة في وكالة الوزارة للشؤون الثقافية، أخذت على عاتقها تعهد الإبداعات الفنية التي ظهرت في فترة ما بعد الحداثة والفن المعاصر في الفن التشكيلي ورعايتها؛ بهدف إثراء الفنون البصرية ورفع الذائقة الجمالية لدى الفنان خاصة والجمهور الكريم عامة.
وقد حرصت وكالة الوزارة للشؤون الثقافية على تشجيع الأساليب والتجارب الفنية المعاصرة التي تبشر بالتألق في مسار الحركة التشكيلية السعودية، وقامت بتوجيه من معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة بتنظيم هذا المعرض الأول لفن الميديا؛ لخلق روح المنافسة بين الفنانين السعوديين من الجنسين، وعرض تجاربهم في مجال فن الميديا، وتشجعيهم للانطلاق نحو التجديد والابتكار وتوظيف كل ما هو جديد وغير تقليدي في الفنون التشكيلية، ولاكتشاف مواهب فنية جديدة، ولاستمرار حراك الفعل الفني وتعزيز المشهد الثقافي في المملكة.
monif@hotmail.com