كانت المقاهي في فترة من الزمن تمثل منتدى لأهل الحي، يتبادلون فيها أخبارهم ويبثون فيها أشجانهم، وقد يزيد الأمر إلى أن تكون ملتقى للأدباء والنقاد وأهل الرأي، حتى إن البعض منها أصبح ذائع الصيت خارج الحدود.
وقد كانت تمثل في الغالب ثقافة طائفة من المجتمع، فليس بعيداً عن ذاكرتنا قهوة الفيشاوي بخان الخليلي، ومقارعة الأدباء فيها.
كما كانت لسائقي الشاحنات مقاهي يستريحون فيها من عناء الطريق، واذكر أنني في المرحلة الابتدائية كنت مع عمي عبدالله الشدوي الذي كان من أوائل من قاد السيارة في منطقة الباحة.
أذكر ذلك الرجل الذي كان يجلس متربعاً على أحد كراسي المقهى حتى عُرف به وعُرف هو بذلك الكرسي، رجل يغطي شاربه شفته السفلى، طويل الشعر حتى كتفيه مجعد وغير مسرح كذلك، يبدو منه أنه لم يشم رائحة الماء منذ فترة طويلة. وعليه طاقية قد اسود لون أطرافها تمثل تاجاً على رأسه أو هكذا خُيّل لي في ذلك الوقت، والثوب مهترئ وغير مكو لأنه غير مغسول أصلاً، ويبدو من تحته سروال إلى تحت الركبة وقد أصفر لونه ولم يكن سروالا رياضيا ولا فرضته الموضة لكن صاحبنا لم يكن مهتما بغسيل الملابس الداخلية أما أسنانه فتبدو وكأنها رؤوس المراسم من شدة التدخين.
كان ينهر هذا ويشجع هذا وكل ذلك بحسب فهمه، فهو يرى أنه فهامة زمانه،وعلامة أيامه، وأنه المسؤول الأول والأخير هناك مع أنه ليس بصاحب المقهى ولكن يرضيه أن نصّب نفسه رئيساً أو نُصّب لأنه يُشكِّل ثقافة ذلك المقهى.
والزبائن في ذلك المقهى كل له غرضه، فالسائقون مثلا كان هدفهم شرب الشاي والاستراحة ثم مواصلة السير، المهم صاحبنا من باب الدعاية، أو من أي باب آخر كان يطلب من بعض الجالسين قصائد شعبية، ثم له تعليقات عليها..!!!!!!!
التعليق المعروف عند أصحاب هذا الفن مثل (الله...الله. عُلّها. صح لسانك..........الخ) هذا الموقف تذكرته - أيها القاريء الكريم - عندما حضرت أمسية شعرية في أحد الأندية الأدبية، وأخذ رئيس النادي _ الذي ساقته الظروف لأن يكون رئيساً، وهو شاعر أيضا _ولا أُخفيكم أنني أُحب شعره كثيراً _ يجلس في المقدمة معطياً نصف وجهه للجمهور ونصفه الآخر للشاعر فهو يحب العدل!!!، يجلس على كرسي لكن ليس ككرسي صاحبنا السالف الذكر فلم يكن مصنوعاً من سعف النخل ولا رجليه معلقتين فالعصر قد تغير، وأصبحت الحداثة هي السائدة (أقصد حداثة الصناعات)، وثياب صاحبنا ما شاء الله نظيفة تماماً، وكذلك الملابس الداخلية ويكويها أيضاً.
باختصار الشكل الخارجي مختلف تماماً فالحمد لله على النعمة.
لكن رئيس المقهى -عفواً- رئيس النادي المحترم كان يردد تلك الكلمات التي كان يرددها صاحبنا سالف الذكر مع تغيير بسيط في بعض الألفاظ لتواكب الحداثة أو اللغة، فالكرسي يتطلب ذلك، فبدلاً من قول رئيس المقهى (علّها) يقول (أعدها) وكأنه بهذا يريد من جميع الحاضرين أن يُعجبوا بما يُعجب هو به أو هكذا فهمت، مع أن كثيراً منها لم يلامس ذائقتي، أنا لا افرض عليه وصايتي وكذلك هو يجب إلا يفرض وصايته علينا، فنحن في زمن الحريات كما يُقال، هنا رجعت بي الذاكرة إلى تلك الأيام الخوالي، لكن هناك كما قلت كان لكل زبون غرضه!! أما هنا فالغرض هو تنوير الثقافة والفكر كما نسمع من محبي الأندية ومرتاديها!!!! وربما أني فهمت خطأ يا سادة؟!!،
المدهش أيها لإخوة أن الأخير أعاد الأسلوب نفسه في انتخابات ناديه،_ طبعاً أقول ناديه لأن بعض الناس إذا أدار شيئاً يظنه بذلك حُق له أن يمتلكه!!_ ووجه الشبه بين صاحبينا من وجهة نظري أنهما يُساقان إلى حيث لا يدريان وبثمن بخس. فقلت في نفسي واااااا أسفا على الفكر!!!!!!!.
فقد تغيرت الملابس، وتغيرت الكراسي، ولكن لم يتغير الفكر!!!!!!.
الباحه