الأنا والآخر ثنائية جدلية كثيرا ما يجري التعاطي مع بُعديها بصورة مفتقرة للتوازن والاعتدال وإذا كان ثمة من أغرق في (تقديس) الذات وتبجيل كافة مخرجاتها وإقصاء كل ما عداها, فإن على الضفة الأخرى من جعل مفاصل بنيته الثقافية تتمحور حول الآخر ولذا فهو لا يفتأ يعمل على جلد تلك الذات, بل والقطيعة المعرفية مع منتجها التراثي لصالح (الذوبان) في الآخر واستلهام رؤيته وتشَرّبِ روحه والاستنساخ التفصيلي لتجربته وبأدق مفرداتها.
إن الارتباك في التعاطي مع طرفي المعادلة شكل عبئا إضافيا ضاغطا على نهوض الوعي ومثبطا له عن إحراز الريادة في ميادين العطاء وقد أورث ضربا من البلبلة الثقافية التي ألقت بظلالها على كثير من الذهنيات التي لم تهتد إلى الظفر بآلية توازنية تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
إن القراءة - المتجردة من آصار الرغبوية - لتاريخ الأنا والتشخيص الدقيق لمنطق صيرورتها يوقفنا على شخصية مثل ما أنها تتوفر على عناصر الحيوية والفاعلية والقوة والحضور الذي يبرز غيرها على نحو يفوق كل تصور فإنها تنطوي كذلك على جملة غير ضئيلة من مكامن الوهن ونقاط الضعف, وكما أنها سجلت حضورا في غاية الازدهار فقد عانت ولعقود مديدة من مرارة الانكسار, تلك القراءة تحدونا لتحاشي الوقوع في فخ تقديس الأنا وتوخي الحذر إبان تنزيل الأحكام على الوقائع وأثناء رصد الظواهر وتحليل الوقائع التاريخية.
التشخيص غير الرغبوي لواقع الأنا وماضيها يتطلب روحا علمية متجردة ومتحررة من الأغشية الوجدانية التي تهيمن على جملة من المقاربات.
إن الأنا تملك على صعيد المبادئ والأبعاد القيمية ما يرشحها لصياغة النموذج النظري لإنسان اليوم وإعادة تأسيس تموضعه على نحو يمكنه من العثورعلى ذاته وبالتالي الانطلاق والانسجام مع طبيعة مقتضى التكوين الكلي لكينونة الوجود.
وإذا كانت الأنا تملك ما تحتاجه البشرية على مستوى القيمة والروح والمعنى فإن الآخر- هوالآخر- ينطوي على ما تفتقر إليه الأنا من أساسيات المادة ومرتكزات القوة والأدوات اللازمة لعمارة الأرض وتغذية بواعث التنمية وليس بمقدورنا التجافي عن وجهته بل نحن مدينون له على هذا الصعيد, بيد أن هذا لا يجعلنا نتعامى أو نغض الطرف عما يعاني منه هذا الآخر من جدب على مستوى المرجعية الفكرية ومن عوز قيمي وترهل روحي انبثق جراء الانفصال التام عن الإطار التوجيهي الأساس والانحباس في أوضار الشهوانية, وتضاعف الشهية – وعلى نحو لا نظير له – نحو استهلاك الأشياء.
إن الآخر لا مِراء استطاع أن يجسد أروع حضارة مادية في التاريخ - مما حدى ببعض المفكرين مثل (فوكوياما) أن يكتب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» مؤكدا - ذات توارٍ لقيم الموضوعية - أن تلك الحضارة وقيمها الديمقراطية لا يمكن أن تضاهى في قادم الأيام - لكن أيضا مع ذلك يفترض ألا يغيب عن الوعي أنها حضارة أخفقت في قراءة خفايا الذات البشرية وبالتالي لم يكن بمقدورها أن تقدم لتلك الكينونة ما ينسجم ووجودها المعنوي.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة