قرأت في هذه الأيام أكثر من رأي يقلل من أهمية القصة القصيرة في السلم الثقافي: بل إن كثيراً من المفكرين والأدباء الكبار في المملكة وفي الدول العربية الشقيقة لا يزالون يعتقدون بعدم أهمية القصة في الأدب العربي.. حتى أنهم يضعون القصة في آخر القائمة عند تبويب ألوان الأدب والنتاج الإنساني.
ولكن الواقع أن القصة تحتل هذه الأيام المنزلة السامية ليس في الأدب العربي وحسب ولكن في الآداب العالمية كلها.. حتى لقد تخطت الشعر.. وأصبحت الآداب تقوم من خلالها.. ولو نظرنا إلى الأدباء العالميين الذين نالوا جوائز نوبل وغيرها تقديراً لآثارهم الأدبية لوجدنا أن القصة كان لها دور بارز في أعمال هؤلاء الأدباء العالميين.
فالقصة ليست مجرد حكاية.. ولكنها مع ما فيها من لذة ومتعة تشتمل على كثير من العلوم والفنون.. من تشخيص وتحليل وتعليم ونقد وتبصير بشؤون الحياة.. وتفسير عقدها وتركيباتها.. بل إنها المرآة التي تعكس واقع المجتمعات الإنسانية.. لأنها في بعض جوانبها تسجل حياة الأفراد في مجتمعهم تسجيلاً دقيقاً.. وتساهم مساهمة فعالة في تقدم الإنسان.. ودفعه إلى الخير والطموح.
وقد تصدرت القصة بأنواعها المسرح الأدبي وأصبحت في طليعة الألوان الأدبية الأخرى.. ووجدت لها جمهرة كبيرة من القراء على اختلاف أذواقهم ومشاربهم..إذ إن قراءة القصص أكثر بأضعاف مضاعفة من قراءة أي لون من ألوان الآداب الأخرى.
هذا إلى جانب أن القصة هي الأساس الذي ارتكزت عليه كثير من الصناعات العلمية الثقافية.. فصناعة السينما والتلفزيون والمسرح.. لم تكن لتوجد.. لولا ازدهار القصة وانتشارها وإقبال الناس عليها على جميع مستوياتهم العلمية والثقافية.
والقصة في كثير من الأحيان هي سجل وتاريخ الأمة يلجأ إليها المؤرخون ويستنبطون منها ما يروق لهم.. لأنها كما قلنا صورة عن المجتمع الذي كتبت فيه.
وليس أدبنا العربي القديم خالياً من القصص كما يحاول بعض الغربيين إلصاق ذلك في الأذهان.. فالقصة موجودة قبل الإسلام.. وإن لم تكن مكتوبة.. فقد وجدت مع الشعر جنباً إلى جنب ولكن سهولة حفظ الشعر ساعدت على وصوله إلينا. وتعثرت القصة.. لصعوبة حفظها ولملابساتها الكثيرة.. ومع هذه الصعوبة فقد وصلتنا قصص كثرة عن الحروب والأيام والوقائع وأبانت الأبطال البارزين فيها كالمهلهل والنعمان والزياء.
ثم ا حتلت القصة مكاناً بارزاً في الأدب العربي الإسلامي حيث اشتمل القرآن الكريم على قصص كثيرة في غاية الجمال والروعة كقصة يوسف عليه السلام.
ومنذ ذلك اليوم تقدم شأن القصة.. حيث اهتم بها الأمويون والعباسيون.. حيث ظهرت قصة عنترة.. وقصص كليلة ودمنة التي ترجمها ابن المقفع.. وقصص ألف ليلة وليلة.. والتي لا يزال الأدباء الغربيون يستقون منها الشيء الكثير.
ثم ظهرت رسالة الغفران للمعري.. وهي تحتوي على كل عناصر القصة الناجحة لما فيها من حوار وحوادث وخيال باسلوب أدبي رفيع.
ثم جاء عصر النهضة..فكتب محمد حسين هيكل قصة زينب فكانت فتحاً جديداً في الأدب العربي في تلك الفترة.. ثم تسابق الأدباء العرب إلى كتابة القصة ومنهم طه حسين بروايته الأيام والعقاد ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. حتى أصبحت القصة في أيامنا أهم الألوان الأدبية على الطلاق.. مع ما طرأ عليها من تطور وتقدم وإبداع. ولا ندري لماذا ظل بعض أدباء العربية حتى اليوم لا يقيمون وزناً للقصة.. مع كل ما أصابته من نجاح ومع كثرة إقبال الناس على قراءة القصص.. التي جمعت إلى جانب الجوانب الأدبية.. والنواحي الفكرية والنفسية، والاجتماعية والتاريخية والفلسفية.
إن من واجب أدبائنا أن يشجعوا هذا اللون من الأدب الراقي.. والذي قطعنا في مضماره شوطاً بعيداً وأثرى لغتنا العربية وجعلها تساير اللغات الأخرى في هذا المجال. إنني أعتقد بأن المستقبل الأدبي للقصة.. وبأن الأدباء الذين جعلوا القصة في آخر قائمة الفكر والأدب.. سيعودون ويضعونها في المكان المناسب.. حيث يجب أن تكون.
الرياض